بين «مظلومية» الصيغة اللبنانية واتفاق الطائف!

اتفاق الطائف
كلام المفتي احمد قبلان يمكن اخذه على محمل الرأي، انما الرد عليه يأتي من كونه تبسيطي، سواء كان موقفه محسوبا ام غير محسوب.ومن كلامه يصبح السؤال: من هنا الى أين؟

فكل من تناول صيغة  1943 انما أراد من خلال ذلك تعميم الإدانة اكثر منها المناقشة الموضوعية التي تتناول تلك الصيغة بظروفها الموضوعية والذاتية،بحيث ان هناك من يصر على شيطنتها دون ان يأخذ في الاعتبار ان كثيرا منها قد تم تجاوزه بعد التعديلات الميثاقية التي تضمنتها وثيقة الوفاق الوطني التي اقرت  الطائف.وتحت حجج واهية، تناوب الكثيرون على تهشيم تلك الصيغة،  مشككين بوطنية الرجلين اللذين لعبا دورا مهما في الوصول الى نهايتها المعروفة.

اقرأ أيضاً: «المفتي الممتاز» يهبط إلى درجة «المفتي غير المقبول»!

نظرة مرتدة

بشارة الخوري ورياض الصلح، لم يكونا امام حل افضل، بل حل وحيد لدولة صغيرة، انتقلت من الحكم التركي الى الحكم الانتدابي الدولي وتكفي نظرة مرتدة للماضي، لنجد ان افضل الممكن تمثل في تلك الصيغة التي خلقت مساحة ضمن الدولة التي يناضل فيها الجميع لتحسين شروط تمثيله، وبالتالي تطوير الديمقراطية المطلوبة. فالتحدي الوحيد الذي برز في ذلك الزمن ليس وجود لبنان نفسه، فهذا امر حسم في العام 1920 عبر تأسيس دولة لبنان الكبير، إنما انتاج سياسات وطنية تعاقدية. وبعد التطورات الدولية خصوصا لناحية الحرب العالمية الثانية وضرب الهيبة  الفرنسية بعد احتلال باريس من قبل المانيا النازية والتناقض البريطاني الفرنسي كل ذلك خلق الفرصة لطرح الاستقلال الفعلي على بساط البحث في ظل بقاء الشعور لدى المسلمين بالانتماء للمحيط الأكبر، وقلق المسيحيين من ذلك، يقابله خوف المسلمين من عزل لبنان عن محيطه العربي والإسلامي. فكانت تلك الصيغة التي أعطت مساحة امنة لكلا الطرفين في الشروع في عملية بناء الدولة وتركيز دعائمها. 

الطائف فتح آفاق التسوية السلمية وحفظ التنوع اللبناني، انما سوء التطبيق حدث عندما جرى تفسير مضمونه على نحو يكرس الفكر الطائفي الانتهازي

قبل صيغة 1943 كان لبنان محكوما بالقرار رقم 336 الذي أصدره الجنرال غورو، فكان بمثابة القانون الأساسي للدولة، وذلك من خلال جعل السلطة التشريعية بيد المفوض السامي، اما السلطة التنفيذية فقد أوكلت لحاكم يعينه المفوض السامي ويكون مسؤولا امامه.والدستور الذي وضع في العام 1926  في ظل الانتداب الفرنسي الذي كان بموجبه المندوب السامي الحاكم الفعلي للبلاد الذي اكد بالممارسة ان الدستور اللبناني كان نتيجة لارادة الدولة المنتدبة على لبنان، بموجب صك الانتداب، حيث كان العلم اللبناني كناية عن دمج العلم الفرنسي واللبناني معا .ويجب التمييز هنا بين مرحلة وضع الدستور سنة 1926 وبين مرحلة الاستقلال سنة 1946 فهذه المرحلة الاخيرة برز فيها تأثير التحولات الدولية على منطقة الشرق الأوسط، فكان مطلب تعديل الدستور من قبل بشارة الخوري الذي انتخب رئيسا للجهورية ومعه رئيس حكومته رياض الصلح بدعم بريطاني واضح، وقد رفض المفوض السامي الفرنسي  ذلك معتبرا انه تحديا له، فقام بتعليق الدستور وباقي القصة معروفة حيث نال لبنان في نهاية المطاف استقلاله لتتكرس الصيغة التي تحولت فيما بعد الى ما يعرف بالميثاق الوطني الذي قام على تسوية  قوامها تنازل المسلمين عن الانضمام للمحيط العربي، في مقابل تنازل المسيحيين عن فكرة الانضمام لفرنسا وطلب حمايتها كما ذكر آنفا.

رؤية استشرافية

ضمن هذا الأفق ودون مجادلات نستخلص أن الزعيم الوطني رياض الصلح قد دعا المسلمين آنذاك ضمن رؤية استشرافية الى القبول بالصيغة ليس لأن موازين القوى ليست لصالحه، بل للتاكيد على البعد الوطني والانتماء الى هذه الدولة الناشئة رغم الشعور بالغبن ليناضلوا ضمن وطن محدد المعالم، يكون افضل بكثير من التيه في أحلام الانضمام لوطن اكبر قد تمت رسم خرائطه ولم يعد بالإمكان الرجوع الى الوراء، مع اقتناع رئيس الحكومة آنذاك بنهائية الكيان اللبناني، وهذا ما يمكن وصفه بلغة اليوم صياغة الحلول بعبارات ومواقف عقلانية ورصينة لتكريس هوامش مرضية لمكون كبير في دولة لبنان الكبير. هذا هو الدور الفعلي للقائد السياسي. من نافل القول الميثاق الوطني قد تضمن سمات دائمة ومشتركة بغية الحفاظ على نوع من التوازن الدقيق، والعملي في تعايش المكونات فيما بينها ليتم بعدها بلورة تلك القواسم في هوية وطنية جامعة لتحقيق الاستقرار والازدهار. تلك هي  باختصار فلسفة الميثاق  وبواعثه الحميدة، التي ليست بحاجة لجهود دعائية للتاكيد عليها.

الطائف المظلوم بعد ان دخلت المناطق المسيحية التي ظلت عصية على الهيمنة السورية، بحرب دامية أدت الى اضعاف موقفهم جاء اتفاق الطائف برعاية عربية تحديدا سعودية  تصرف حياله قسم من المسيحيين في مقدمهم البطريرك الراحل صفير بواقعية وبحرص على تكريس مكاسب بدلا من خسارة كل شيء، بينما اصر قسم آخر على عدم المشاركة او الانغماس في الحياة السياسية مبديا مقاطعته السياسية، مستكملا الخطأ العسكري بالخطأ السياسي الذي همش الدور المسيحي. وتعتبر المناصفة التي ثبتها اتفاق الطائف بعيدا عن الاحجام العددية إنجازا سياسيا واخلاقيا يصعب التخفيف من أهميته. فهناك فرق بين ان تخسر منصبا او تفقد تاثيرك لفترة زمنية محددة، وبين ان تخسر وجودك في الدولة.

المناصفة

فهذه المناصفة هي التي أمنت العودة القوية للقوى المسيحية التي لولاها لكان الوضع اكثر سوءا بأشواط. في هذا السياق تنسب عبارة توقيف العد للرئيس الشهيد رفيق الحريري. لتوه، جاء كلام المفتي قبلان ليرفع سقوف الاختلاف الى درجة غيب فيها الوقائع التي لا بد ان تؤخذ بعين الاعتبار عند الحديث عن القضايا الدستورية الميثاقية، فلم يعد مجديا الحديث عن غبن التسوية التاريخية للطائفة الشيعية او السنية بعد تعديلات الطائف، التي جعلت من الرئاسة الثانية مستقلة عن السلطة التنفيذية مع صلاحيات دستورية يمارس فيها رئيس المجلس دوره طيلة ولايته بعد ان كانت قبل اتفاق الطائف سنة واحدة قابلة للتجديد ما قيد من استقلالية دوره. هذا فضلاً عن تعزيز وجود الطائفة الشيعية في السلطة وانعكاس ذلك حضورا وازنا في الإدارة والمشاريع التنموية على مخلتف الصعد.فمن الأخطاء الصبيانية التي لا تغتفر نكران أهمية اتفاق الطائف، فلا يمكن التطرق اليه الا من خلال فهم المعنى الحقيقي لتسويات ما بعد الحروب، حيث يصعب تعديلها الا وفق صيغ حوارية وتوافقية. 

التسوية السلمية

الطائف فتح آفاق التسوية السلمية وحفظ التنوع اللبناني، انما سوء التطبيق حدث عندما جرى تفسير مضمونه على نحو يكرس الفكر الطائفي الانتهازي. فالطائف تحدث عن تمثيل عادل للطوائف وليس للأحزاب كذلك لم يدعُ الى خلق بدع دستورية كالقوي في طائفته او الثلث المعطل، حيث لا دستور يشرع للفراغ، فهو برئ من اكذوبة انه قد جعل رئيس الجمهورية بلا صلاحيات. فيكفي ان الرئيس يملك منفردا الدعوة لاستشارات نيابية والتوقيع منفردا على تسمية رئيس الحكومة او توقيعه على المراسيم العادية  الامر الذي يجعل منه شريكا فعليا في السلطة. فها عدم توقيعه على مراسيم تعيين الناجحين في امتحانات الخدمة المدنية مثالا حيا. اتفاق الطائف ليس كتفاهم الدوحة المرحلي، الذي جاء كتجربة سوادء في الحياة السياسية اللبنانية جعل من ممارسة السلطة مرهونة بتوافق مصلحي كل ما نعيشه راهنا من كوارث سياسية واقتصادية  يمكن ان ينسب اليه.

اقرأ أيضاً: ضرورة تعديل اتفاق الطائف

الطائف وجد ليطبق، وبعد ذلك نتحدث عن قصوره وتعديله نحو الأفضل للدولة والشعب.ما نعيشه اليوم من أوضاع مزرية يطال الجميع، لا طائفة دون أخرى، والناس تجاوزت مصالح الطوائف بعد ان لمست ان الصراع على المصالح والمغانم لا يستفيد منه سوى علية القوم، اما  المواطنون العاديون، فوحدهم من يدفع الثمن الكبير.المطلوب منك يا سماحة المفتي ان تدخل قدرا من العقلانية والواقعية وعدم تضخيم خطابك، وان تنحاز الى شعبك لا الى ارباب السلطة الذين فشلوا في تقديم الخير والنفع وجعلوا السلطة مغنما. فما ناديت به من دولة مواطن ليس بحاجة لتغيير صيغ واتفاقات، بل المطلوب فقط ورشة تشريع لاقرار القوانين التي تعامل الفرد على انه مواطن حر. وهذا يبدأ من إقرار قانون موحد للأحوال الشخصية وقانون اختياري للزواج المدني في لبنان.

السابق
الدولار يتراجع.. كم بلغ سعر الصرف اليوم؟
التالي
«حزب الله» يمنع أهالي «لاسا» من زراعة أراضيهم.. تغريدات غاضبة ومناشدات للمجلس الشيعي!