عبد الرؤوف الأمين (فتى الجبل) في رثاء كامل بك الأسعد (1924)

كامل بك

يوم ابتدأت بجمع ديوان أبي، بعد وفاته، أردت أن يكون كاملاً فتعقبت الصحف والمجلات التي كان ينشر فيها ولا سيما الحياة والعرفان وغيرهما من المجلات والجرائد اللبنانية والسورية. ثم تبين لي أن معظم شعر الصِبا مفقود والغزل منه على وجه الخصوص، فالتجأت إلى بعض رواة شعر فتى الجبل وأولهم السيد محمد علي الأمين رحمه الله، وهو ابن أخته وراوية لأشعار، وكان قد تقدم في السن وبدأ النسيان يغزو ذاكرته فروى لي نتفاً من غزل الصبا، وكان كلما تذكر شيئاً من شعره دعاني لأسجله، حتى أنه قبل أيام من طبع الديوان روى لي أبياتاً تذكرها، وكان بين هذه النتف من ذاكرته بيتان ليسا من الغزل في رثاء كامل بك الأسعد هما:

أسرجوا الخيل لاحتفال الوفود أم لتشييع ربّها حين نودِ

ما درى نعشه ولا حاملوه ما على النعش من عفاف وجود

اقرأ أيضاً: كان يملك قلباً

“دعدعتها غلمانه بالوصيد”

ما على النعش من عفاف وجود ثم روى لي قصة هذه المرثية وقد تلاها والدي رحمه الله في أربعين كامل بك الأسعد. ويقول السيد محمد علي الأمين رحمه الله إنه حين وصل الشاعر إلى الشطر “دعدعتها غلمانه بالوصيد”، قام من بين الحضور الشيخ عبد الحسين صادق وكان شاعر آل الأسعد فقال: “هذا البيت المجتمع عليه آل الأمين جميعاً”. وذلك أن والدي كان فتى في الرابعة والعشرين من عمره ولم يكن للشيخ عهد بشعره، فلم يستطع كبح جماحه فانتفض وقال ذلك.

ثم إنني بحثت عن هذه القصيدة في العرفان وفي غيرها من صحف تلك الفترة ومجلاتها فلم أجد لها أثراً ولم تكن بين مخطوطات والدي، فيئست من العثور عليها وطبعت الديوان خالياً منها.

رثاء كامل الأسعد

وكان من حسن الصدف أن الدكتور أحمد بيضون كان يعمل على مخطوطة عنوانها: “الدلالة العاملية بتاريخ الأسرة الوائلية” لمؤلفها عبد المحسن الظاهر، فوجد فيها هذه القصيدة وأعطاني صورة عنها هذا نصها:

لحضرة الفاضل الأديب ذي الحسب والحسيب السيد عبد الرؤوف الأمين، تليت بالأربعين – رثاء كامل الأسعد – حزيران – 1924:

أسرجوا الخيل لاحتفال الوفود/ أم لتشييع ربَّها حين نودِ/

مجنبات تُقادُ حول سرير/ قد حوى خيرَ سيد ومسود/

أدهش الخلق يوم مثواه حتى/ أدركوا فيه هول يوم الوعيد/

خفقت منهم القلوب ارتياعاً/ من عظيم المصاب خفق البنود/

وتهاووا إليه من كل فج/ ببرود مثل الغرابيب سود/

هتفوا فيه صارخين ولكن/ بلسان من الشجى معقود/

وتراموا عليه من كل وجه/ كترامي الظماء عند الورود/

ما شهدنا يوماً أُصيب الرايا/ فيه طُرّاً كيومه المشهود/

حَمَلتْ نعشه الرقابُ اللواتي/ من نداهُ كم طوّقت بعقود/

“ما درى نعشه ولا حاملوه/ ما على النعش من عفاف وجود”/

قصَّر الحزن من خطاهم فسارواً/ خلفه سيرَ راسف بقيود/

أغمدوا منه في الثرى مشرفياً/ وطوَوا منه صعدة في الصعيد/

وانثنوا عنه لا السُلُوُّ بدان/ منهم لا ولا الأسى ببعيد/

لم يحلو قرب الفقيد ولكن/ حِيلَ ما بينهم وبين الفقيد/

رُبَّ صد يكون لا عن حلال/ وبُعاد يكون لا عن صدود/

من أحال الفضا ندى وهو حي/ قد أحال الفضا شجًى وهو مودِ/

قَوَّضي اليوم يا خيام المعالي/ فلقد قوّضَ الردى بالعميدِ/

جبل خرَّ بعدما قد أنافت/ قُنّتاه على الجبال الميدِ/

وشهاب بعد اتقاد سناه/ ألبسته الأيام ثوب الخمود/

قل لشمس النهار يا شمس غيبي/ ولشم البجال يا شم ميدي/

فلقد أوجفت ركاب المنايا/ بمنار الوجود قطب الوجود/

أين من جوده غشى كل قطر/ وتحلى بفضله كل جيد/

أين رب الجفان مثل الجوابي/ دعدعتها غلمانه بالوصيد/

أين رب البيت الرفيع ذراه/ أين رب السُرادق الممدود/

لو رأى صرحه الممرد هاماً../نُ لما شاد صرحه للصعود/

أوحش الربع ما به من أنيس/ وخلا الغاب ما به من صيد/

ما الذي قد دهاك يا ربع حتى/ عصفت في فناك ريح الهمود/

سكنت جلبة الرجال وقرّت/ ندوة الحي من ضجيج الوفود/

قد مضى إذ مضى ببرد نقي/ ما به وصمة، وذكر حميد/

حاز ما حاز من فخار ومجد/ وطريف من العُلى وتليد/

ورقى الغاية التي ما عليها/ لمريد شأو الغُلى من مزيد/

ملك تخضع الملوك لديه/ فهم بين رُكَّع وسجود/

كم له عزمة تزيل الرواسي/ وتلف الصنديد بالصنديد/

ومقام أوفى على النجم قدراً/ ومزايا جلت عن التعديد/

يا فريد الأنام في كل معنى/ بك قد صُغتُ كل معنى فريد/

ونظمت النجوم وهي قواف/ ببيان كاللؤلؤ المنضود/

جال فكري بوصف علياك لكن/ عاد عنه كالناكص المردود/

لا أراني وإن أجدت نظاماً/ بالغاً منك غاية المقصود/

إن غاباً درجت فيه لغاب/ كم به من ضراغم وأسود/

لو طلبنا بين الورى لك ندّاً/ لم نجد غير صنوك المحمود/

من به شيّد الفخار ولولا/ فضل مسعاه لم يكن بالمشيد/

تُحجم الأسد عن لقاه وتنبو/ عن شبا عزمه صال الحدود/

ولعبد اللطيف غُرُّ الصفات/ أطلقت بالثنا لسان الحسود/

من كعبد اللطيف في يوم بأس/ من كعبد اللطيف في يوم جود/

قل به ما شا ثناء ومدحاً/ فهو قصد المطري وبيت القصيد/

من يلد في ذراه لاذ بطور/ سجسج ظله وركن شديد/

فهُما المالكان أمر المعالي/ وهما المرغمان أنف الحسود/

وسقى صيب من العفو رمساً/ صار للبدر فيه بدر السعود/.

القصر المهجور

ثم إن فتى الجبل، بعد هذه المبايعة لعبد اللطيف بك الأسعد، انقلب في موقفه ونشر في العرفان سنة 1927 قصيدة بعنوان “القصر المهجور” وذيَّل هذا العنوان بالملاحظة الآتية: “هو قصر الزعيم كامل بك الأسعد”، وهذا نص أبياتها:

قصر الإمارة أين عنه حماتُه/ رحلو فأقوت بعدهم عرصاته/

كانت بنود المجد تخفق عزة/ بفنائه لم نُكْست راياته/

أسفاً على الصرح الممرد قد خلت/ منه الوفود وصوحت جناته/

أين العُفاة اللاجئون ببابه/ غاض الندى فانفض عنه عُفاته/

ما باله حكم الزمان عليه أن/ يمسي المنيف وهادموه بناته/

أفتهدمون المجد مجد جدودكم/ وعلى يديكم موته وحياته/

إن الذي يسعى ليهدم مجده/ يحيا ذليلاً أو تحين وفاته/

لانت قناتكم وكل مسوّد/ طلب المعالي لا تلين قناته.

اقرأ أيضاً: الكورونا تستعيد الكوليرا.. «جنوبية» تنشر مذكرات «مرعبة» للسيد محسن الأمين في جبل عامل

فتى الجبل

وقد بقيت الصلة فاترة بين أحمد بك الأسعد وفتى الجبل إلى وفاة الأول. فرثاه فتى الجبل بقصيدة مطلعها:

بكى الجود يومك والسؤدد/ ووائل والمجد والمحتد/

وعاملة سهله والحزون/ وتيماء والأبلق المفرد/

وذكر ما كان بينهما شخصياً من فتور:

/ وكانت هناة فبددتها/ وباء بخسرانه المفسد.

ثم ذكَّر فيها بالأواصر التي جمعت بين آل الأسعد وآل الأمين:

أواصر ما بيننا في الزمان/ نما غرسها مذ نما الموردُ/

وأوشاج حب رعاها الوفاء/ وقرّب ما بينها المقصد/

فللدين ذاك السياج الأمين/ وللمجد من شاده الأسعد.

(مجلة شؤون جنوبية – العدد الثاني آذار 2002)

السابق
٧ أيار.. «يا مستقبل سلم تسلم»!
التالي
تعزيزات عسكرية إلى درعا.. وخوف من عملية مرتقبة للنظام!