الخطة «الإنقاذية» للحكومة اللبنانية: إنقلاب استراتيجي مقنّع وتشريع اقتصاد حزب الله

الحكومة اللبنانية

أقرت الحكومة اللبنانية خطة للإنقاذ والإصلاح ، بهدف معالجة التدهور المالي والنقدي والمصرفي والاقتصادي والاجتماعي الذي يعيشه لبنان. 

وقبل الدخول في قراءة التفاصيل التقنية التي تضمنتها الخطة، ومعانيها ونتائجها المعلنة وغير المعلنة، لا بدّ من بعض الملاحظات المتعلقة بالظروف السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية، المحلية والإقليمية والدولية، التي تعمل الحكومة اللبنانية في ظلّها، لأن عدم أخذ هذه الظروف في الاعتبار في رسم السياسات المالية والاقتصادية والاجتماعية يتناقض مع المنطق والأصول العلمية، ويؤدي الى بقاء المطروح في الإطار النظري غير القابل للتطبيق، لا بل أن من شأنه أن يزيد الأمور تدهوراً في المستقبل القريب والبعيد.

في الظروف السياسية المرافقة لإقرار الخطة الاقتصادية

لبنانياً:

خلافات داخلية عميقة، تبلغ حدود الشرخ العامودي بين اللبنانيين، في شأن التموضع الجيو – سياسي للدولة اللبنانية، بين فريق يعمل على ربط لبنان استراتيجياً بما يسميه محور “الممانعة” (حزب الله وحلفائه)، وفريق آخر يعتبر لبنان جزءاً من الشرعيتين العربية والدولية اللتين تتواجهان مع إيران ومنظومتها على مستوى المنطقة والعالم. وينعكس هذا الانقسام منذ سنوات طويلة توترات سياسية، وفي بعض الأحيان أمنية، وهو ما يتناقض مع متطلبات البيئة السياسية والأمنية الضرورية لدورة اقتصادية صحيحة ومسار تنموي سليم.

إقليمياً:

مواجهات محتدمة على كل المستويات الدبلوماسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية والعقائدية بين إيران التي تسعى الى التوسع وبسط نفوذها بقوة السلاح في العراق وسوريا ولبنان واليمن، والى زعزعة استقرار دول الخليج العربي من جهة، وبين المنظومة العربية – الخليجية التي تعمل على التصدي للتوسع الإيراني ولمنظومات التطرف الديني بشقيه السني والشيعي من جهة مقابلة. ويدخل على خط الصراع عوامل إقليمية عدة أبرزها المصالح المتداخلة لكل من إسرائيل وتركيا اللتين تنشطان سياسياً وعسكرياً وأمنياً على خط تعزيز نفوذهما في الشرق الأوسط والخليج وصولا الى شمال افريقيا.

وعلى خط آخر، تتزامن خطة الإنقاذ الاقتصادي والإصلاح ومحاربة الفساد التي أعلنتها الحكومة اللبنانية الخاضعة لنفوذ حزب الله،(وبالتأكيد ليس من قبيل الصدفة، وإنما من قبيل المشروع الإيراني المتكامل في المنطقة) مع عناوين مماثلة رفعها النظام السوري المتحالف مع إيران لإحكام قبضته مباشرة على الموارد المالية في سوريا بعد عزل وكلائه الذين سبق أن شكلوا أذرعه المالية، ومع فضائح مالية تجتاح العراق وتشمل سياسيين ورجال أعمال ومصرفيين يشكلون غطاء لتمويل الحشد الشعبي والحرس الثوري الإيراني! 

دولياً:

المصالح الدولية المتداخلة، والاستراتيجيات المتناقضة في كثير من الأحيان، لكل من الولايات المتحدة الأميركية، والإتحاد الأوروبي، والصين وروسيا في التعاطي مع أزمات الشرق الأوسط، وخصوصاً الصراع العربي – الإسرائيلي، والملف الإيراني، وهما ملفان يؤثران بشكل عميق في الواقع اللبناني السياسي والعسكري والأمني والاقتصادي والاجتماعي.

يضاف الى كل ذلك التداعيات الطارئة اقتصادياً وسياسياً لانتشار وباء كورونا على دول العالم، وانعكاساتها على المنظومات السياسية الإقليمية، وعلى النظام العالمي والعلاقات بين أقطابه، والعولمة بكل متفرعاتها، في شكل عام.

وغنيّ عن القول إن الفصل بين السياسة والأمن من جهة، والاقتصاد من جهة مقابلة، وتجاهل ارتباط المعطيات الاقتصادية للداخل اللبناني بالمديين الإقليمي والدولي، يفتقد الى الحد الأدنى من الموضوعية والواقعية والعلم، ويشكل عملية إنكار لحقيقة المشكلة، ومجرد هروب الى الأمام، ومضيعة للوقت لا تعوّض، في البحث عن حلول. 

قراءة في أبعاد وخلفيات الخطة الاقتصادية للحكومة اللبنانية

في الشكل:

-بنت الحكومة اللبنانية خطتها على توقعات وسيناريوهات وافتراضات ووعود فضفاضة وعمومية ومشروطة. وخلت هذه الخطة من أية معطيات ثابتة واتفاقات مسبقة وواضحة ومفصلة مع ممثلي أي من مكونات الاقتصاد اللبناني، أو مع الجهات الخارجية المعنية سواء على مستوى الحكومات أو على مستوى المؤسسات المالية العربية والدولية، يمكن البناء عليها في شكل واضح للخروج بآلية تنفيذية وفقاً لبرنامج زمني محدد.

-لم تقدم الحكومة أي دليل حسّي أو إثبات عملي على قدرتها (إذا سلمنا جدلاً برغبتها) على تنفيذ الإصلاحات التي سبق أن وعدت بها الحكومات السابقة على مدى أكثر من عشرين عاماً منذ مؤتمرات باريس الأربع وصولاً الى مؤتمر “سيدر”، من دون أن يتمّ تنفيذ شيء منها، لا سيما لناحية استعادة سيادتها على كل أراضيها وشعبها، وتطبيق القوانين المرعية الإجراء على كل المقيمين على أرضها من دون تمييز أو استثناءات، أيا تكن الأسباب والذرائع.

-لم تؤمن الحكومة لخطتها التوافق السياسي الداخلي، على الرغم من أن الإستقرار السياسي الداخلي، والابتعاد عن النزاعات، هو شرط أساسي من شروط تأمين البيئة المطلوبة لأي إصلاح اقتصادي ومالي ونقدي واجتماعي.

-جوبهت خطة الحكومة منذ اللحظات الأولى لإعلانها بمواقف تراوحت بين التحفظ والرفض المطلق من نقابات المهن الحرة والجمعيات الإقتصادية، خصوصاً من الهيئات الاقتصادية وجمعية المصارف التي تعتبر من أبرز المعنيين بالخطة وتنفيذها.

-تفتقد الحكومة الى الثقة الشعبية التي يمكن أن تؤمن الغطاء لخطتها. وقد أثبتت التظاهرات الشعبية التي سبقت ورافقت وتلت إعلان الخطة الحكومية أن الرأي العام اللبناني يعتبر الحكومة الحالية امتداداّ للمنظومة السياسية التي تسببت بالانهيار الحاصل. ولا يزال اللبنانيون يطالبون بانتخابات نيابية مبكرة تعيد إنتاج سلطة تشريعية وتنفيذية تحظى بثقة الشعب اللبناني ودعمه.

اقرأ أيضا: الخبير سلامة لـ «جنوبية»: خطة ما بعد «السحسوح» لن تُعيد أموال المودعين!

-غابت عن الخطة الاقتصادية للحكومة أية إشارة الى “إصلاحات سياسية”، أو إلى تصحيح في التموضع الجيو – سياسي للدولة اللبنانية، من خلال سياسة خارجية تلبي شروط المجتمعين العربي والدولي وتحاكيها لناحية النأي بالنفس وتنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي الخاصة ببسط الدولة اللبنانية سيادتها على كل أراضيها بقواها الشرعية الذاتية.

وعلى العكس من ذلك، تبدو الحكومة في موقع من يسعى الى التفلت من التزامات واضحة وعملية في مجال السياسة الخارجية تكرّس عدم انغماسها في الصراعات الإقليمية. ويظهر ذلك بوضوح من خلال الحديث عن الإصلاحات الاقتصادية والمالية التي نص عليها مؤتمر “سيدر” من دون الإشارة لا من قريب ولا من بعيد الى “الشروط السيادية” التي حددها مؤتمر روما لدعم الجيش والقوى الأمنية والعسكرية اللبنانية، والتي تصرّ عليها “المجموعة الدولية لدعم لبنان” في كل بياناتها ولا سيما في بيانها الأخير الصادر في 12 شباط 2020 والذي جاء فيه ما حرفيته:

“وأكدت مجموعة الدعم الدولية على ضرورة الحفاظ على الاستقرار الداخلي وحماية حق التظاهر السلمي، مجددة دعمها القوي للبنان وشعبه، في سبيل تحقيق استقراره وأمنه وسلامة أراضيه وسيادته واستقلاله السياسي وفقا لقرارات مجلس الأمن 1701 (2006)، 1680 (2006)، 1559 (2004)، 2433 (2018)، 2485 (2019)، بالإضافة إلى قرارات مجلس الأمن الأخرى ذات الصلة، وبيانات رئيس مجلس الأمن حول الوضع في لبنان”.

-تسير الحكومة من خلال “الخطة الاقتصادية” ب”عكس السير” العربي والدولي. فالولايات المتحدة الأميركية ومعها قسم من دول الاتحاد الأوروبي، ومعظم الدول العربية الفاعلة، يركزون جهودهم على “خنق” إيران ومنظوماتها الإقليمية مالياً واقتصادياً لإضعافها عسكرياً وسياسياً، وشل قدراتها على تهديد دول المنطقة وزعزعة استقرارها، وإعادتها الى داخل حدودها، وتغيير سلوكياتها العدائية والتوسعية في محيطها.

أما الحكومة اللبنانية فتعمل على محاولة الالتفاف على هذه المعطيات والتوجهات المعلنة من خلال تجاهلها، والتصرف على قاعدة الطلب من المجتمعين العربي والدولي تمويل خطة لا تتضمن أي تدبير يحجّم حزب الله ودوره، ويسحب الغطاء السياسي عن الإداء الداخلي والإقليمي والدولي لهذا الحزب في خدمة الاستراتيجية الإيرانية والمساهمة في تنفيذها.

إن خطة الحكومة اللبنانية تظهر إصرار الحكومة على تجاهل المطلوب عربياً ودولياً لدعم لبنان. فبالإضافة الى الإصلاحات التقنية المتعلقة بالاقتصاد والقوانين والإدارة وغيرها، فإن على المؤسسات الدستورية اللبنانية وقف اللعب على عامل الوقت وفقاً لما يريده حزب الله تطبيقاً للاستراتيجية الإيرانية الساعية الى الوصول الى الانتخابات الرئاسية الأميركية في الخريف المقبل بأقل الخسائر والتنازلات الممكنة، على أمل هزيمة الرئيس ترامب وتغيير سياسة الرئيس المقبل تجاه طهران.

بكلام آخر، فإن المطلوب من الحكومة اللبنانية في مقابل الدعم العربي والدولي للبنان، تصحيح تموضعها قولاً وفعلاً وممارسةً، خارج دائرة المشروع الإيراني، من خلال شرك لبنان بالعولمة الاقتصادية التي لا يمكن أن تتحقق من دون شراكة سياسية كاملة مع الشرعية الدولية ومتطلباتها.

في الدلالات السياسية:

إخفاء الجانب الأساسي من المسؤوليات وتحوير الوقائع:

تتجاهل الخطة الحكومية في شكل كامل الآثار السلبية للسياسات الداخلية والخيارات الخارجية للدولة اللبنانية خلال السنوات الماضية على تدهور الأوضاع الإقتصادية… كما تتجاهل دور الإحتلالين السوري والإيراني في رعاية وحماية منظومات الفساد السياسي، ومصادرة وسرقة الثروات الوطنية مباشرة أو بالواسطة على مدى السنوات الثلاثين الماضية. وتحصر المسؤوليات بالمصرف المركزي والمصارف التجارية، وبالسياسات الاقتصادية التي تبناها خصوم حزب الله وقوى 8 آذار، مع العلم أنهم كانوا شركاء كاملين في الحكم.

ويمكن التوقف في هذا المجال عند ملاحظتين أساسيتين تبرزان التناقض والارتباك السياسي، وتعتبران نموذجاً للكيدية التي تطبع عمل الحكومة:

الأولى تتعلق باتهام رئيس الحكومة حسان دياب لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة بإخفاء الأرقام المالية عن الحكومة والجهات المالية المسؤولة في الدولة. ومع ذلك، يتبيّن من الخطة أنها في معظم أرقامها تستند الى مرجعية المعلومات الصادرة عن مصرف لبنان، فكيف أتت الأرقام إذا كان مصرف لبنان قد أخفاها؟ وإذا كان رئيس الحكومة صادقاً في اتهامه حاكم مصرف لبنان بإخفاء الحقيقة، فكيف يجوز للحكومة التي يرئسها أن تضع خطة مبنية على أرقام غير صحيحة؟ أما إذا كانت الأرقام صحيحة، فكيف يثق اللبنانيون والعرب والعالم بصدقية رئيس الحكومة الذي يرفع شعاري الشفافية والإصلاح وهو أدلى قبل أيام بمعلومات خاطئة ووقائع محوّرة واتهامات باطلة في حق رأس السلطة النقدية في الجمهورية اللبنانية؟

أما الملاحظة الثانية، فتتعلق بتركيز الخطة الحكومية في كثير من نقاطها على السنوات الخمس الماضية. فهي تنص على فتح تحقيق في العقود والتلزيمات منذ العام 2016، وعلى التحقيق في الهندسات المالية التي بدأت عام 2016، وعلى التدقيق في حسابات مصرف لبنان للسنوات الخمس الماضية، وتؤكد أن التراجع التدريجي لتدفق الأموال من الخارج بدأ منذ خمس سنوات، وأن وتيرة تدخل المصرف المركزي في الأسواق المالية لمواجهة ارتفاع الطلب على الدولار زادت منذ خمس سنوات مما أدى الى استنفاد القسم الأكبر من احتياطاته النقدية بالعملات الصعبة الخ… علماً أن العام 2016 هو عام التسوية السياسية التي فرضها حزب الله على اللبنانيين، وشارك فيها معظم الفرقاء السياسيين والحزبيين في لبنان (باستثناء قلة منهم) من خلال “انتخاب” مرشح حزب الله العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية. أفلا يعتبر ذلك، ولو عن سهو غير مقصود من الحكومة، اعترافاً رسمياً بأن “عهد شركاء التسوية” والسياسات التي فرضها حزب الله على الدولة اللبنانية خدمة للمشروع الإيراني وتنفيذاً له هي المسؤولة عن تدهور الأمور ووصولها الى ما وصلت إليه؟

إن ما جاء في خطة الحكومة في معرض شرح أسباب الأزمة لناحية “تراكم الخلل في السياسات المالية والنقدية والاقتصادية”، هو توصيف للنتيجة وتغييب متعمّد للأسباب الحقيقية المتمثلة في تراكم الخلل السياسي الناجم عن تغييب الدستور اللبناني، وعن استبداله في حكم لبنان بمنظومات سياسية من صنع الإحتلالين السوري (1990 – 2005) والإيراني (2005 الى اليوم).

-التوجه الإنقلابي:

بمعزل عن ظاهر الأرقام والعروضات والبيانات التي تضمنتها الخطة الحكومية، فإن التعمق في نتائج السياسات المقترحة على المديين المتوسط والبعيد، يظهر “نوايا انقلابية” على النظام الاقتصادي الحر ووجه لبنان الاقتصادي الليبرالي. ذلك أن الفلسفة التي بُنيت عليها الخطة الحكومية تقوم على تحميل القطاع الخاص والمواطنين اللبنانيين مسؤولية وأثمان ارتكابات القطاع العام والمنظومة السياسية التي غطت الاحتلالين السوري والإيراني على مدى عشرات السنوات الماضية.

وعليه، فإن ما جاء في الخطة الحكومية لناحية “تعديل النموذج الاقتصادي والاجتماعي”، والإشارة الى أن “لبنان لن يكرر النموذج المصرفي الفاشل”، يبدو بالنسبة للكثيرين تعبيراً مُجمَّلاً لمشروع تغيير الهوية الاقتصادية الليبرالية للبنان استكمالاً لمشروع تغيير هويته السياسية والثقافية والحضارية والديموغرافية الذي يعمل عليه حزب الله بثبات منذ سنوات طويلة تنفيذاً للمشروع الإيراني.

أما “الفاشل” الذي أدى إلى وصول الأمور في لبنان الى هذا المنحى من التدهور، فليس “النموذج المصرفي” ولا “التدفقات المالية الخارجية” على الرغم من كل الأخطاء التي يمكن أن يكون قد ارتكبها في توظيف هذه التدفقات، وإنما الفاشل الحقيقي هو “النموذج السياسي” الذي أساء إدارة لبنان سياسياً وأمنياً وعسكرياً واقتصادياً ومالياً الخ… فرَسْم السياسات في كل المجالات – بما فيها السياسات الاستثمارية وإيجاد البيئات الملائمة المطلوبة سياسياً وأمنياً وقانونياً وإدارياً لذلك، هو – دستورياً – مسؤولية حصرية للحكومة اللبنانية وواجب حصري عليها، وليس من مسؤولية أي جهة مصرفية أو مالية أو نقدية!!!

وفي موضوع تراجع التدفقات النقدية الى لبنان الى حدود قاربت التوقف الكامل، فإن المسؤولية عن ذلك لا تقع بطبيعة الحال على المصارف، وإنما هي تقع على السياسات الحكومية التي تضع لبنان في مواجهة مع الدول القادرة على الاستثمار في لبنان، ومع مواطني هذه الدول الذين تمنعهم المخاطر السياسية والأمنية من الحضور الى لبنان. كما انها نتيجة القرارات العشوائية والمتسرعة والمجحفة للحكومة اللبنانية في التوقف غير المدروس وغير المنظم عن تسديد الديون قبل التوصل الى اتفاقات رضائية مع الدائنين.

والأخطر من كل ذلك، أن الحكومة اللبنانية بسياساتها التي عبرت عنها في “خطة الإنقاذ والإصلاح” تهدد مصير أموال المودعين العرب والأجانب، واللبنانيين المقيمين والمغتربين، مما يعتبر السبب الأساسي لوقف التدفقات المالية مستقبلاً، وهو ما يطرح أكثر من علامة استفهام حول الأهداف السياسية المبيتة وراء ذلك. فهل أن الهدف هو منع الاغتراب المتأثر بالفكر الليبرالي سياسياً واقتصادياً من توثيق علاقته بلبنان؟

إن سياسة الحكومة ونهجها في التنصل من المسؤولية السياسية، ورمي الكرة في ملعب القطاع الخاص، من مصارف وقطاعات تجارية واقتصادية متنوعة، المُعبَّر عنه في الخطة الاقتصادية، يذكّر اللبنانيين بتجارب سبق لأنظمة ديكتاتورية وعسكريتارية وأحادية وقمعية عدة في محيطهم والعالم أن لجأت إليها في زمن ما قبل العولمة لمواجهة فشلها في تأمين الظروف المناسبة لدورة اقتصادية طبيعية ومسار تنموي مستدام، بفعل استنزاف الثروات الوطنية في التسلح وبناء أجهزة القمع والحروب والتموضع في قلب النزاعات الإقليمية والدولية. فعوض أن تعيد هذه الأنظمة النظر في سياساتها وتموضعاتها الإقليمية والدولية عندما شارفت على الإفلاس، بادرت الى تحميل المسؤولية الى النظام الاقتصادي الحر، فانقضّت عليه بهدف تقديم “أضحية” من رموزه ومرتكزاته لإرضاء الرأي العام الثائر بفعل الفقر والجوع وتدني مستوى الحياة، بما مكّنها من وضع يدها على الدورة الاقتصادية وتمديد فترة بقائها في السلطة بذريعة الإصلاح ومحاربة الفساد والمساواة بين الناس، لكن بنتائج اقتصادية واجتماعية أسوأ بكثير من تلك التي كانت قائمة… وبالنتيجة كيف انتهت هذه الأنظمة؟ وما كان مصيرها؟

في المضمون:

-القروض:

في وقت لم تباشر الحكومة بعد، أي مفاوضات جدّية مع الدائنين بهدف التوصل الى اتفاق في شأن مصير المستحقات المتوجبة عليها بموجب ديونها المتراكمة والتي قررت التوقف عن تسديدها اعتباراً من آذار الماضي، وبالتالي فهي لم تجد بعد أي حلّ عملي لديونها السابقة، فإنها ترتكز في تصوراتها لتمويل خطتها على وعود بدفعات جديدة من القروض بقيمة حوالى عشرين مليار دولار للسنوات الخمس المقبلة مصدرها صندوق النقد الدولي وما سبق لمؤتمر “سيدر” أن قرره من مساعدات معظمها استثماري للبنان، هذا إذا تأمنت الظروف المناسبة لهذه الاستثمارات.

والغريب أن الحكومة التي تتوقع أن تكون احتياجات التمويل الخارجي للسنوات الخمس المقبلة 10 مليارات دولار سنوياً (بعدما كانت خلال السنوات الخمس الماضية 16 مليار دولار سنوياً… من دون أن تحدد الوجهة النهائية لما تم استيراده بفارق 6 مليار دولار سابقاً)، تقرّ وتعترف صراحة في خطتها بأن صندوق النقد الدولي غير قادر على تأمين ما يحتاجه لبنان للسنوات الخمس المقبلة “حتى في ظل ترتيبات استثنائية”.  

فكيف يمكن لحكومة متعثرة عن دفع ديونها أن تتوقع الحصول على ديون جديدة؟ ومن أية مصادر؟ وكيف لحكومة تخاصم أو تختلف مع الدول العربية المقتدرة والولايات المتحدة الأميركية وأوروبا أن تأمل بالحصول على قروض إنقاذية ومساعدات نقدية على شكل هبات وودائع بالعملات الصعبة؟

-إستعادة الأموال المنهوبة والمهربة:

تتحدث الخطة الحكومية عن استعادة 10 مليار دولار من الاموال المسروقة خلال السنوات الخمس المقبلة، لكن الحكومة لم تشر إلى المعطيات التي استندت إليها لتحديد هذا المبلغ! فما هي الأسس التي ارتكزت عليها للوصول الى هذا الرقم؟ وهل هذا هو كل المسروق؟ وإذا لم يكن هذا المبلغ هو كل المسروق فلماذا رسم هذا السقف؟

أما بالنسبة الى استعادة الأموال التي تمّ تحويلها الى الخارج اعتبارا من تشرين الأول الماضي، فهل أثبتت الحكومة أن هذه التحويلات تمت خلافاً للقانون؟ وإذا كان تحويلها مطابقاً للقانون فبأي حق يفرض على أصحابها إعادتها الى لبنان!؟

واللافت أن الحكومة لم تتطرق الى أي تدبير أو إجراء في شأن حوالى 20 مليار دولار من الأموال التي أشار إليها حاكم مصرف لبنان رياض سلامه، والتي تم تؤكد التقارير الصحافية والصور والأفلام تهريبها من الأسواق اللبنانية على مدى السنوات الخمس الماضية لتمويل مستوردات نقلت الى سوريا خلافاً لقوانين العقوبات الدولية المفروضة على نظام الرئيس بشار الأسد!

وينبّه حقوقيون واقتصاديون ودبلوماسيون أجانب يتابعون عن قرب الملفات اللبنانية إلى أن الدول التي يمكن أن تكون الأموال المهربة قد أودعت في مصارفها أو استثمرت فيها، وبالإستناد الى تجارب سابقة حصلت مع إيران وليبيا والعراق وغيرها لن تكون في وارد إعادة هذه الأموال الى حكومة يتحكم حزب الله بقراراتها والفساد بإداراتها، خصوصاً في حال استمرت مخاوفها من استخدام هذه الأموال بما لا يتطابق مع القوانين الدولية وخلافاً لمسار الشرعية الدولية.

ويستغرب السياسيون والاقتصاديون اللبنانيون عدم مجيء الخطة على ذكر استعادة الأموال التي وضع القادة الأمنيون والعسكريون والمسؤولون السياسيون السوريون يدهم عليها خلال وجودهم في لبنان، لا سيما أموال بنك المدينة وغيرها من الخوات والسمسرات التي فرضت على الشركات والمؤسسات اللبنانية، وعلى الرشاوى التي تقاضاها المسؤولون السوريون لقاء تدخلاتهم لدى المؤسسات الدستورية السياسية والإدارية والقضائية والأمنية والعسكرية اللبنانية لتمرير معاملات وصفقات لمنتفعين شكلوا الواجهة المالية والاقتصادية للاحتلال.

-ترسيم الحدود وضبط المعابر ومنع التهريب:

تمرّ الخطة الحكومية سريعاً، وبما يشبه رفع العتب، على ملف ضبط المعابر الحدودية، لا سيما البرية منها من خلال الحديث عن نيتها نشر الجيش عليها. فعلاوة على أن ما جاء في الخطة الحكومية يثبت أن ما كانت تعلنه الحكومة عن ضبطها المعابر الشرعية وغير الشرعية لم يكن صحيحاً، فإن الخطة لم تشر لا من قريب ولا من بعيد الى منع حركة التنقل العسكرية والأمنية لحزب الله عبر الحدود. فإذا كان حزب الله سيستمر في خوض الحرب السورية، فهذا يعني أنه سيواصل التنقل ونقل الأعتدة والأسلحة والذخائر بالاتجاهين. فهل ستُخضع الحكومة شحنات الحزب وسياراته للتفتيش فتسمح مثلاً بمرور الأسلحة والمسلحين وتمنع تهريب الأموال والبضائع!؟ وماذا عن بطاقات تسهيل المرور الممنوحة بالألوف لعناصر حزب الله بما يمكنهم من اجتياز الحواجز بدون تفتيش؟ وإذا تم استثناء حزب الله من هذه التدابير فكيف ستبرر الحكومة للمجتمع الدولي الذي يشترط للمساعدة وفقا لبيانات “المجموعة الدولية لدعم لبنان”، بالإضافة الى منع التهريب، عدم التزام لبنان بتطبيق القرارات 1559 (نزع أسلحة الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية) و1680 (ترسيم الحدود مع سوريا) و1701 (منع إدخال السلاح الى لبنان إلا للقوات الشرعية)، وكيف ستطبق سياسة النأي بالنفس عن النزاعات الإقليمية، وعزل لبنان عن التوترات والحروب الإقليمية وهو ما تحدث عنه صراحة الجانب الفرنسي تعليقاً على الشروط الواجب توافرها لتقديم الدعم الى الحكومة اللبنانية في تنفيذ خطتها للإنقاذ الإقتصادي قبل إقرارها في مجلس الوزراء وبعده؟

إن تغييب الخطة الحكومية لترسيم الحدود مع سوريا، يشكل فجوة كبيرة تعيق ضبط الحدود ومنع التهريب، واستعادة الدولة سيادتها بما يسمح لها بتطبيق القانون على كل أراضيها!

-مسح الأراضي واستخدامها لتعزيز الدورة الاقتصادية:

أثار ما جاء في الخطة الحكومية لهذه الناحية المزيد من المخاوف في شأن مشروع حزب الله لتغيير هوية الأرض اللبنانية من خلال الفرز الديموغرافي، والتمدد الجغرافي.

فالمعروف والثابت أن حزب الله نجح بالترهيب والترغيب، مستخدماً سلاحه واحتلاله والأموال الإيرانية في تغيير الهوية الديموغرافية والعقارية للضاحية الجنوبية لبيروت وحوّلها الى مربع شيعي صاف بعدما كانت تاريخياً بسكانها وأملاكها منطقة مسيحية – سنية – شيعية مختلطة، (مستشفى الرسول الأعظم مبني على عقار لمطرانية بيروت المارونية التي ترفض التخلي عنه أو بيعه) وانطلق منها شرقاً للتمدد باتجاه عمق قضاء بعبدا وصولاً الى قضاء عاليه في إطار خطته للتمدد وربط الضاحية الجنوبية بالبقاع.

كما انطلق من الضاحية الجنوبية جنوباً لربطها عبر ساحل عاليه والشوف واقليم الخروب بالجنوب من خلال مشاريع ظاهرها سكنيّ وعمراني وباطنها أمني – إستيطاني.

وانطلق من الضاحية الجنوبية شمالاً لربطها بساحل المتن الشمالي عبر النبعة والفنار والجديدة.

وربط القرى الشيعية في جبيل وفتوح كسروان بعضها ببعض وصولاً الى عمق حزب الله في البقاع.

بالإستناد الى هذه الوقائع، يبدي اللبنانيون خشية جدية من أن يكون ما ورد في الخطة الحكومية عن مسح الأراضي والمشاعات غطاء لوضع اليد على المناطق الجردية في العاقورة ولاسا (حيث يصادر أنصار حزب الله ملايين الأمتار المربعة من أراضي البطريركية المارونية) واليمونة وجرود الضنية وعكار وبشري المتداخلة مع الهرمل والبقاع وغيرها من المراكز الحيوية والاستراتيجية على طول سلسلة جبال لبنان الغربية من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب بما يسمح لحزب الله تحت ستار المسح والتحديد بوضع يده عليها تباعاً مستفيداً من وصايته على وزارة المال من خلال حركة أمل، لا سيما في ظل العرف الذي فرضه الثنائي أمل – حزب الله خلال السنوات العشر الماضية بأن تكون وزارة المال من حصة الطائفة الشيعية.

ومعلوم أن للسلسلة الغربية لجبال لبنان موقعاً استراتيجياً بالمفهوم العسكري لأنها تكشف بالعين المجردة مساحات واسعة من الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط. وسبق للجيش الفرنسي خلال فترة الانتداب ان نصب رادارات ومواقع رصد على جبل صنين، وكذلك فعل الجيش السوري خلال وجوده في لبنان. وحالياً يقوم حزب الله بتسيير دوريات على امتداد سلسلة جبال لبنان الغربية مانعاَ المتنزهين والسياح شتاء من ممارسة الرياضات الثلجية ومنها التنقل بين المناطق على الزاحفات الثلجية (سكي دو)، وصيفاً من ممارسة رياضة المشي والصيد وغيرها بحجة أنها مناطق عسكرية!

ويزيد من المخاوف ما ورد في الخطة عن توجه حكومي لاستخدام أملاك البلديات والأوقاف لتعزيز الدورة الاقتصادية. فما هي سلطة الدولة على أملاك الأوقاف والبلديات؟ وهل يحق للدولة، خلافاً للدستور – الذي ينص على احترام الملكيات الخاصة – أن تضع يدها أو تدير أو تتصرف بأملاك البلديات التي تعود لانتفاع أبناء النطاق البلدي، والأوقاف التي هي أملاك خاصة لا علاقة للجمهورية اللبنانية بملكيتها؟

– قطاع الاتصالات:

يعتبر قطاع الاتصالات في العالم، لا سيما قطاع الاتصالات الخلوية، قطاعاً استراتيجياً بالمفهومين الأمني والمالي.

فمن الناحية الأمنية تسمح السيطرة عليه بتعقب حركة المقيمين وعلاقاتهم في المجالات كافة من خلال داتا الإتصالات، وهو ما يسمح بإحكام السيطرة الأمنية وملاحقة الخصوم والمعارضين ومتابعة تحركاتهم وعلاقاتهم الداخلية والخارجية.

أما من الناحية المالية فيعتبر قطاع الاتصالات بالنظر الى اتساع رقعة استخدامه وتشعبها، مورداً مالياً ضحماً وبالغ الأهمية للمستثمرين كما للدول.

من هنا، وبسبب هذه الاعتبارات الأمنية والمالية، يمكن فهم سيطرة الحرس الثوري الإيراني على قطاع الاتصالات في ايران، والمعركة الأخيرة في سوريا بين الرئيس بشار الأسد وابن خاله رامي مخلوف على خلفية قرار النظام السوري وضع يده مباشرة وبالكامل على شركة “سيرياتيل” التي يملك القسم الأكبر منها ويديرها مخلوف.

أما في لبنان، فيعتبر هذا القطاع منذ سنوات موضع نزاعات على خلفيات سياسية وأمنية ومالية، خصوصاً بعدما تمكنت داتا الاتصالات من كشف التفاصيل المتعلقة بمسؤولية حزب الله عن جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه في 14 شباط 2005، بالإضافة الى عمليات اغتيال ومحاولات اغتيال النائب مروان حماده، والوزير السابق الياس المر، والأمين العام الأسبق للحزب الشيوعي جورج حاوي وغيرها…

وعلى هذه الخلفيات الأمنية، بالإضافة الى الخلفيات المالية يعتبر قطاع الأتصالات الخلوية في لبنان محور خلافات تتعلق بالطريقة الفضلى لإدارته. لكن عوض أن يكون ذلك بالإستناد الى المعايير والاعتبارات التجارية والتنافسية الدولية، فإنه يتم بالاستناد الى صراعات السلطة والمنافع الفئوية والربحية الخاصة، ومشاريع إحكام القبضة السياسية والأمنية على لبنان.

ويثير التخبط الضبابية اللذين طبعا تعاطي الحكومات السابقة في لبنان مع هذا القطاع، مخاوف من أن ينتهي قطاع الاتصالات الخلوية بيد جهات رسمية أو غير رسمية يمسك حزب الله بقراراتها بما يكشف الشعب اللبناني وقياداته السياسية والعسكرية والأمنية أمنياً ويضع كل النشاطات الاقتصادية والتجارية والمالية تحت رقابة حزب الله وأعينه.

وما يعزز هذه المخاوف هو أن الخطة الحكومية التي تتحدث عن استعادة قطاع الاتصالات لم تأت على ذكر استعادة إشرافها على شبكة الاتصالات الخاصة بحزب الله، وهي شبكة تبقى بعيداً عن سلطة القوى العسكرية والأمنية الشرعية، مما يسمح لحزب الله باستخدامها ليس فقط لأغراض أمنية وعسكرية خلافاً للقانون وللقرارات الدولية، وإنما لإغراض تجارية واقتصادية تكشف الدورة الاقتصادية اللبنانية لرقابة الحزب ومتابعاته، وتبقي حركة أمواله واقتصاده الموازي بعيداً عن رقابة السلطات اللبنانية.

-القطاع المصرفي:

تتحدث الخطة عن ضرورة إعادة هيكلة المصارف إنطلاقاً من مقاربة حكومية تقول بأن عدد المصارف في لبنان يتجاوز بكثير حاجة الاقتصاد اللبناني وقدرة الأسواق على التحمل. لكنها تشير في الوقت ذاته الى نية الحكومة اللبنانية الترخيص لخمسة مصارف جديدة برأسمال 200 مليون دولار للمصرف الواحد من دون أي تفسير لهذا التناقض!!!

كما تتحدث الخطة عن إعادة تكوين رساميل المصارف القائمة بعدما اعتبرت الحكومة أنها فقدت، نتيجة الخسائر التي تعرضت لها، خصوصاً بفعل قرار الحكومة عدم تسديد سندات الخزينة التي تحملها المصارف، رساميلها البالغة حوالى عشرين مليار دولار، مما يعني أن أصحاب المصارف لم يعودوا يملكون مصارفهم. وهي تخيّرهم بين إعادة رسملة مصارفهم من أموالهم الخاصة وبيع ممتلكاتهم في الخارج، أو من خلال استقطاب مساهمين جدد، وتعتبر التصفية والدمج القسري وال Bail in (أي استبدال الودائع بأسهم في المصارف) خيارات مطروحة أمام الحكومة.

وفي ضوء اعتراف الخطة بأن استقطاب رساميل خارجية ومساهمين أجانب لتعويم المصارف شبه مستحيل في ظل الظروف المالية الحالية للمصارف ولبنان، فإن علامات الاستفهام تطرح كبيرة حول الجهات القادرة على المساهمة في إعادة رسملة المصارف، أو في تأسيس مصارف جديدة.

وترتبط علامات الاستفهام هذه بالحركة النقدية التي شهدتها الأسواق اللبنانية خلال السنة الماضية، وبالجهات التي امتصت السيولة من الأسواق، وصولاً الى الجهات التي اشترت من المودعين شيكات مصرفية بسبعين بالمئة من قيمتها نقداّ بالدولار الأميركي. فهل أن هذه الشيكات عادت الى حسابات مصرفية لتستخدم في شراء هذه المصارف من خلال خطة الحكومة ومن يقف وراءها، لل bail in أو إعادة الرسملة؟ وهل أن امتصاص السيولة بالدولار الأميركي من الأسواق اللبنانية على مدى الأشهر الماضية على يد شبكة الصرافين التي تعمل لمصلحة حزب الله هدفه شراء تراخيص المصارف الخمسة التي تريد الحكومة طرحها في الأسواق؟!

والملفت أن خطة الإنقاذ الاقتصادي والإصلاح لم تأت على ذكر إخضاع المؤسسات المالية (شبه المصرفية) التابعة لحزب الله للقوانين المالية والرقابية اللبنانية النافذة.

فالمعلوم أن “جمعية مؤسسة القرض الحسن” التابعة لحزب الله تتولى بحسب ما هو وارد على موقعها الإلكتروني “عمليات منح القروض الصغيرة الحجم ولآجال قصيرة، وإشراك الناس في الإقراض”، وهي تعتمد “الضمانات المالية والعينية مقابل القروض المعطاة”… ومع ذلك فهي غير مسجلة لدى مصرف لبنان وغير مرخصة من قبله، ولا هي خاضعة لرقابته ولا لرقابة أي جهة رسمية مخوّلة بالرقابة على المؤسسات المالية وأعمالها… وكل ما في الأمر أنها استحصلت من وزارة الداخلية اللبنانية سنة 1987 على علم و خبر تحت رقم 217/أ.د” كجمعية، في مخالفة لقانون النقد والتسليف الذي يشترط أن “تنشأ المؤسسات المالية اللبنانية بشكل شركات مغفلة”، وللقرار رقم 5994 (تاريخ: 01/09/1995، المنشور في عدد الجريدة الرسمية:40 – تاريخ: 05/10/1995- الصفحة: 1135-1138)، الصادر عن المجلس المركزي لمصرف لبنان بموجب قانون النقد والتسليف الذي ينظم تأسيس وينظم شروط عمل “المؤسسات المالية” في لبنان ويخضعها لرقابة لجنة الرقابة على المصارف.

-أملاك مصرف لبنان:

تتضمن الخطة الحكومية استخدام أملاك مصرف لبنان في إطار إعادة هيكلة المصرف واعادة تكوين احتياطاته والسيولة فيه. ومن هنا تُفهم الحملة التي تعرضت لها في الفترة الماضية شركة طيران الشرق الأوسط. فمن منطلق أن الشركة هي ملك لمصرف لبنان، تبرز مخاوف جدية من خطة لوضع اليد على الشركة تحت ستار تغيير إدارتها، أو بيعها كلياً أو جزئياً بما يضعها في خدمة مشروع حزب الله.

وفي المعلومات أن هناك محاولة حثيثة لإعادة تسيير خطوط سبق لرئيس مجلس الإدارة الحالي محمد الحوت أن أوقفها عند تسلمه مسؤولياته في إطار استراتيجية، تخلّى بموجبها عن الخطوط الخاسرة، واستعاض عنها بشراكات مع شركات طيران أخرى مكّنت شركة طيران الشرق الأوسط من بيع التذاكر وتحقيق أرباح على رحلات لا تسيّرها بنفسها. ومن أبرز تلك الخطوط تلك التي كانت تربط لبنان برحلات مباشرة مع دول في إفريقيا والبرازيل ودول أخرى في أميركا اللاتينية واوستراليا وغيرها.

وبما أن حزب الله يملك في إفريقيا وأميركا اللاتينية خلايا أمنية ومنظومات اقتصادية وشبكات تهريب وتبييض أموال تعتبر ركناً أساسياً من أركان تمويله، فقد بات تنقل محركي هذه الشبكات محفوفاً بمخاطر الاعتقال في ضوء العقوبات والملاحقات الأميركية والدولية خصوصاً في محطات الترانزيت الأوروبية أو الآسيوية أو الخليجية التي يستخدمونها في التنقل من بيروت واليها، كما حصل مع قاسم تاج الدين أحد المسؤوليين الماليين لحزب الله في افريقيا الذي أوقف في المغرب آتيا من العاصمة الغينية كوناكري عام 2017 وتم تسليمه الى الولايات المتحدة الأميركية بناء على مذكرة اعتقال دولية صادرة عن الولايات المتحدة تتهمه بتبييض الأموال والإرهاب…

ولذلك فإن حزب الله يريد من شركة طيران الشرق الأوسط، في إطار الإفلات من العقوبات الأميركية والدولية، تسيير رحلات مباشرة الى هذه الدول لتسهيل انتقال كوادره ذهاباً وإياباً، ونقل البضائع المهربة والأموال النقدية بعيداً عن رقابة الأنظمة المصرفية، خصوصا أن نفوذ الحزب في الدول الافريقية وفي أميركا اللاتينية يسمح له باختراقات في أجهزة أمن مطاراتها تسهل عبور كوادره، تماماً كما هو الوضع في مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت.

أما كازينو لبنان الذي يمتلك مصرف لبنان نسبة كبيرة من أسهمه من خلال تملّكه لشركة انترا للاستثمار، فيقع بدوره في دائرة المخاوف من تحويله مصدراً من مصادر تمويل حزب الله، من خلال ما هو مُسلَّم تاريخياً بوجوده فيه من صناديق سوداء تتغذى من مداخيله وتخصص قسماً كبيراً من عائداته لأجهزة أمنية وعسكرية ولجهات سياسية وحزبية نافذة تتبدل بحسب العهود!  

-القوانين الضريبية والتهرب الضريبي:

تفرد الخطة الحكومية جانباً مهماً لتعزيز المداخيل الضريبية للدولة اللبنانية سواء من خلال توسيع دائرة المكلفين أو من خلال مكافحة التهرب الضريبي عبر موازنات معلنة وأخرى غير معلنة للمؤسسات والشركات والتلاعب بالأرباح، أو من خلال زيادة الضرائب والرسوم.

ويعتبر الاقتصاديون أن إرهاقهم وإرهاق اللبنانيين بالضرائب والرسوم في زمن الأزمات والانكماش الاقتصادي هو انتحار اقتصادي جماعي للدولة اللبنانية وللقطاع الخاص، وقضاء على أي إمكانية لجذب الاستثمارات والأعمال إلى لبنان.

في المقابل، يستغرب الإقتصاديون اللبنانيون كيف أن خطة تدّعي الإنقاذ الإقتصادي والإصلاح الضريبي ومكافحة التهرّب، لا تأتي على ذكر أي تدبير يؤدي الى إلزام حزب الله ومحازبيه والمتعاملين معه بالامتثال للقوانين الضريبية ولا سيما منها ضريبة الدخل أسوة ببقية اللبنانيين.

فالأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله قال صراحة في كلمة متلفزة في 3 أيار 2020 إن حزب الله لا يخرج الدولارات من لبنان وإنما يأتي بالدولارات الى لبنان. فكيف يجوز للخطة الحكومية ألا تشير إلى سبل التحقق من مصدر هذه الأموال وإخضاعها للضرائب، علماً أن الحزب يدفع عشرات ألوف الرواتب شهرياً من دون أن يصرّح عن مصدر أمواله ولا عن الطريقة التي حصل بها على هذه الأموال، وبالتالي فهي غير خاضعة لأي نوع من أنواع الرقابة أو الضريبة. ومتقاضو هذه الرواتب، خلافاً لكل اللبنانيين لا يدفعون أية ضريبة على مداخيلهم.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن “جمعية مؤسسة جهاد البناء الإنمائية” المسجلة على أنها جمعية خيرية في وزارة الداخلية، (بموجب علم وخبر 239/أ.د 1988 تعديل 304/أ.د 1995) هي في الواقع مؤسسة ضخمة تتعاطى أعمال البناء والزراعة، والتجارة المتعلقة بهما، فتشتري وتبيع وتستورد مواد البناء، والمواد والأدوات الزراعية وتتعاطى الأعمال التعاونية، وتنظم المعارض التجارية والتسويقية وتوظف وتتعاقد الخ… وقد ورد في التعريف عن نفسها على موقعها الإلكتروني على سبيل المثال: ” (…) كما قامت المؤسسة ببناء وترميم عشرات المحطات الكهربائية، والصروح التربويّة والاجتماعيّة والصحيّة والترفيهيّة وشيدت المجمّعات ودور العبادة(…)”.

فهل تراقب وزارة المالية حسابات هذه المؤسسة وموازناتها كما تفعل مع بقية المؤسسات؟ وهل تسدد هذه المؤسسة ما يتوجب عليها من رسوم وضرائب للدولة اللبنانية؟ وهل أن موظفيها مسجلون في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي؟ وهل أن وزارة الداخلية تكشف على موازناتها السنوية وتتحقق منها ومن مطابقتها للواقع والقوانين والترخيص المعطى لها؟ وهل تشرف وزارة الداخلية على انتخاب هيئتها الإدارية وتوافق على محاضر الانتخاب كما تفعل مع بقية الجمعيات؟

-الإدارة: تتحدث الخطة في شكل فضفاض ومبهم عن الإصلاح الإداري، ولا تأتي على ذكر مباشر لإعادة هيكلة الإدارة بما تعنيه من استغناء فوري عن الفائض من الموظفين، وشطب الرواتب الوهمية، وفصل المحاسيب من الموظفين الذين لا يداومون، وإلغاء التوظيفات غير القانونية التي حصلت قبيل الإنتخابات النيابية الأخيرة في العامين 2017 و 2018 لا سيما بعدما أثبتت التحقيقات الإدارية والقضائية وتقارير هيئات التفتيش المعنية أنها شملت أكثر من خمسة آلاف موظف. فكل ما أتت الخطة على ذكره هو عدم توظيف بدائل عن الذين يبلغون سن التقاعد.

ويثبت تهرّب الخطة الحكومية من مقاربة عميقة وجدية وبنيوية لهذه المعضلة التي ترهق خزينة الدولة، عدم توافر النية والقرار بوقف المحاصصات الوظيفية، ووقف تحويل الإدارة الى ملاذ للسياسيين، وخزينة الدولة الى مصدر لتمويل الحياة الحزبية والسياسية في لبنان.

– رواتب العسكريين وتعويضاتهم:

تنص الخطة الحكومية على وقف التطويع في الجيش والمؤسسات الأمنية، وعلى وقف الترقيات التلقائية إلا في حال الشغور، وعلى إعادة النظر برواتب كبار العسكريين وتعويضاتهم الخ…

لكن اللافت أن الخطة لم تأت على ذكر مسألتين أساسيتين:

الأولى هي الأموال التي تدفعها الدولة لمحازبي حزب الله ومناصريه تحت عنوان تعويضات “الأسرى والمحررين” من السجون الإسرائيلية، علماً أن “الأسرى والمحررين” من السجون السورية لا يعاملون بالمثل.

والثانية هي “شرطة مجلس النواب” التي لا تخضع للقوانين العسكرية وإنما لسلطة وإدارة رئيس مجلس النواب مباشرة، علماً أنها تكبّد خزينة الدولة اللبنانية أموالاً طائلة تصرف على مئات المناصرين والمحازبين بعيداً عن أية رقابة مالية أو عسكرية على غرار المؤسسات العسكرية والأمنية الشرعية الأخرى.

-التعويضات من اسرائيل:

جاء في الخطة الحكومية نية الحكومة متابعة تحصيل التعويضات المالية من إسرائيل على الأضرار البيئية التي لحقت بلبنان نتيجة تسبب القصف الإسرائيلي في حرب تموز 2006 بالتسرب النفطي قبالة السواحل الجنوبية، بعدما أقرت الأمم المتحدة حق لبنان في هذا المجال.

لكن الخطة غابت عن مطالبة سوريا بتعويضات مماثلة، ولم تأت على ذكر أي توجه نحو جامعة الدول العربية والأمم المتحدة لمطالبة سوريا بتعويضات عن الأضرار التي لحقت بالبيئة البرية والبحرية، وبالمدن والقرى اللبنانية نتيجة للعمليات العسكرية التي نفذها الجيش السوري على مدى سنوات من وجوده في لبنان. كما لم تأت على ذكر السرقة المنظّمة للآثار في عنجر وبعلبك وغيرها من المراكز الأثرية التي تمركز فيها الجيش السوري وألحق بها أضراراّ بالغة، علماً أن الاعتداء على الثروات التراثية والتاريخية في زمن الحروب يعتبر بموجب القوانين الدولية بمثابة جرائم حرب تستدعي المحاكمة والمحاسبة والتعويض.

كما غابت الخطة عن التحقيق في كلفة المشاريع في مجال البنى التحتية والطرقات التي فرض الإحتلال السوري على السلطات اللبنانية تلزيمها لشركات سورية لا سيما منها شركة “قاسيون” التي نفذت مئات الكيلومترات من الطرقات والأوتوسترادات خصوصاً في الجنوب بأسعار فاقت بأضعاف الأسعار الطبيعية المتعارف عليها في هذا المجال.

-كلفة أزمة النزوح السوري:

تشير الخطة الى أن كلفة النزوح السوري على الاقتصاد اللبناني بلغت 45 مليار دولار منذ العام 2011، وهي تتطلع الى مساعدة المجتمع الدولي لمعالجة هذه النتيجة. لكن الخطة، ومن ورائها الحكومة اللبنانية، لم تشر الى مسؤولياتها السياسية والأمنية والعسكرية والسيادية في هذا المجال. فقسم من النازحين السوريين الذين وصلوا الى لبنان تركوا منازلهم بعدما اقتحم حزب الله قراهم وبلداتهم ومدنهم، ودمر كلياً أو جزئياً منازلهم إما منفرداً، أو بالشراكة مع الجيش السوري ومع تنظيمات أخرى تابعة للحرس الثوري الإيراني من جنسيات مختلفة. ومقاتلو حزب الله لا يزالون حتى اليوم يتمركزون في الكثير من هذه القرى والبلدات، ويحوّلونها الى مواقع ومقرات عسكرية مقفلة. فالمطالبة بإعادة النازحين تمرّ حكماً من حيث الواقع بانسحاب حزب الله من الحرب السورية، وهو قرار على الحكومة اللبنانية أن تتخذه وتنفذه من خلال تطبيقها لقرارات مجلس الأمن الدولي وللقوانين اللبنانية المحلية.

الخلاصة السياسية

تظهر القراءة المعمقة في خلفيات الأرقام والحلول والتوجهات، أن الخطة الحكومية لا تهدف الى معالجة اقتصادية ومالية ونقدية واجتماعية تحت سقف النظام السياسي اللبناني القائم على الحريات السياسية والاقتصادية، ولا تحت سقف الشرعيتين العربية والدولية، وإنما الى استغلال الأزمة الاقتصادية والضيقة الاجتماعية لتمرير مشروع سياسي ينسف أسس النظام اللبناني ومرتكزاته، ويلحق لبنان بمنظومة إيران الإقليمية في مواجهة العرب والعالم الحرّ.

وتظهر المقاربات الجزئية للملفات الاقتصادية والمالية الشائكة وكأن الحكومة هي في صدد تشريع ضمني لاقتصادين في لبنان، على غرار ما هو قائم في ايران وفي غيرها من الديكتاتوريات. فالحكومة تريد بناء “اقتصاد جديد” للدولة مع الإبقاء على “الاقتصاد الموازي” لحزب الله في استنساخ لتجربة الجيش الرسمي والحرس الثوري في ايران، ولتجربة الجيش الرسمي وميليشيا حزب البعث في سوريا، ولتجربة ازدواجية اقتصاد الدولة واقتصاد الحزب الحاكم أو الثورة الحاكمة!

بالإضافة الى ذلك، فإن الحكومة لم تأت على ذكر أي من الإصلاحات في مجال السياستين الداخلية والخارجية التي من دونها لا يمكن الحديث عن إصلاح وانقاذ اقتصادي.

وهي قفزت فوق أي من التدابير الضامنة لبيئة سياسية محلية واقليمية ودولية ملائمة للانقاذ الاقتصادي، فتجاهلت المشكلة السيادية التي يعاني منها لبنان. فكيف لأي حكومة لا تمسك بقرار السلم والحرب، ولا تبسط سيادتها على قراراتها ومؤسساتها واراضيها، ولا تطبق قانونا واحدا على جميع المقيمين على أراضيها، أن تكون الضامن للمستثمرين الداخليين والخارجيين، ولدورة اقتصادية سليمة يحميها الأمن والاستقرار والقانون، ولمسار تنموي مستدام؟

وما هي الضمانات التي تقدمها الحكومة للبنانيين من خلال خطتها، بأن جولات الإستدانة الجديدة التي ستتم، واقتطاع اموال المودعين، وبناء معامل الكهرباء، وتحسين الخدمات العامة، وتطوير البنى التحتية، ستعود بالنتيجة المطلوبة على أرض الواقع؟ وإذا نفذت، ما هي الضمانة بألا تدمّر الخطوات والتدابير الاقتصادية الجديدة، حرب جديدة تنشب بقرار لا دور للحكومة فيه، ولا تعرف به مسبقاً؟

لقد تحدثت الحكومة عن “التحرير الاقتصادي”، علماً أن مثل هذا التحرير لا يكون فقط من شبكة الفساد وسوء الإدارة السياسية الداخلية بل، وقبل كل شيء، من شبكة الاحتلال والفساد الخارجي الذي يتحكم بلبنان منذ ثلاثة عقود.

وتحاول الحكومة استرضاء الشعب اللبناني الثائر على المنظومة السياسية التي تمثلها الحكومة، باعتبار خطتها تجاوباً مع ثورة 17 تشرين التي طالبت بالاصلاحات الإدارية وبتأمين المستلزمات الحياتية والمعيشية، ولكن الحكومة تعامت عن كون الثورة طالبت ولا تزال بالديموقراطية وبانتخابات مبكرة تعيد إنتاج السلطتين التشريعية والتنفيذية وفقاً للإرادة الشعبية لا وفقاً للتسويات السياسية والمحاصصات بين أركان المنظومة التي تمسك بالوضع اللبناني. والاستقرار الذي هو شرط اساسي لدورة اقتصادية طبيعية، لا يكون بالقمع الأمني والعسكري، وإنما بالاستجابة للمطالب السياسية للشعب اللبناني.

إن استعادة ثقة الشعب اللبناني تكون بانتخابات تحترم معايير التمثيل الصحيح. أما استعادة ثقة العرب والمجتمع الدولي فتكون بالتزام القانون الدولي وتطبيق قرارات الشرعية الدولية المتمثلة بقرارات مجلس الأمن الدولي الخاصة بلبنان.

الحل البديل

إن البحث عن حلول أقتصادية ومالية ونقدية تقنية لأزمة سياسية بنيوية يعاني منها لبنان نتيجة لتموضع رئيس جمهوريته وحكومته والأكثرية النيابية إلى جانب المشروع الإيراني في الإقليم والعالم، ونتيجة لإصرار معظم أركان المنظومة السياسية والحزبية التي تمسك بالقرارات على المضي قدماً في التغاضي عن جوهر الأزمة وأسبابها لا يمكن أن يُخرج لبنان من أزماته، ويؤمن لشعبه الاستقرار الاجتماعي ولدورته الاقتصادية مساراً سليماً وللنمو طابعاً مستداماً.

فلبنان يعاني اليوم نتيجة زجّه في حروب المنطقة بأبعادها الإقليمية والدولية وتداعياتها عليه، ما سبق لأوروبا أن عانت منه بعد الحرب العالمية الثانية من دمار وانهيار اقتصادي ومالي.

وعلى غرار الحل الذي اعتُمد لإعادة إعمار أوروبا وبناء اقتصادها من خلال “مشروع مارشال” في منتصف القرن الماضي (1947) لمواجهة الفقر والتصدي للتمدد الشيوعي في أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، فإن إخراج لبنان من أزمته الاقتصادية وانتشار الفقر على نطاق واسع، والتصدي للتطرف الديني الذي يمثله المشروع الإيراني من جهة ورعاة التنظيمات الإسلامية المتطرفة الإقليميين من جهة مقابلة، يتطلب مشروعاً مماثلاً ل”مشروع مارشال” بخلفياته وأبعاده وأهدافه وتمويله.

لقد كان الشرط الأساسي ل”مشروع مارشال” هو تموضع “أوروبا الغربية” الواضح والصريح في قلب العالم الحر، وتبنيها الليبرالية في سياساتها الداخلية والخارجية واقتصادها وقوانينها الخ… وبالتالي فإن “مشروع مارشال” اللبناني يتطلب من لبنان العودة الى كنف الشرعيتين العربية والدولية استراتيجياً وسياسياً واقتصادياً، والتخلي نهائياً عن تغطية المشروع الإيراني أو التعايش معه.

وتبدو الظروف الخارجية ل”مشروع مارشال” خاص بلبنان، متاحة على نطاق واسع عربياً ودولياً، شرط قرار لبناني حاسم وحازم بالعودة الى تموضع لبنان التاريخي عربياً ودولياً. فالاتجاه في اليمن هو الى حل على قاعدة الشرعيتين العربية والدولية من خلال قراري مجلس الأمن الدولي 2511 و 2216. والاتجاه في سوريا الى حل سياسي على قاعدة العودة الى قرار مجلس الأمن الدولي 2254. من هنا تبرز أهمية بناء رأي عام شعبي وسياسي وحزبي لبناني يطالب بتطبيق قرارات مجلس الأمن الدولي 1559 و 1680 و 1701 الخاصة بلبنان كإطار لحل مشاكله السيادية واستعادة سيادته واستقلاله مدخلاً إلزامياً الى الحلول الإقتصادية والمالية والاجتماعية.

ومن الطبيعي أن تلي مرحلة انتهاء الحروب في المنطقة عملية إعادة بناء اقتصادات الدول المعنية، بمساعدة عربية ودولية.

وتبدو منطقة الشرق الأوسط أمام فرصة تاريخية تتمثل في التوجهات التنموية لكل من ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير محمد بن سلمان من خلال رؤيته النهضوية 2030، وولي عهد دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد من خلال التجربة الناجحة اقتصادياً وتنموياً لدولة الإمارات العربية المتحدة.

فهاتان الدولتان القادرتان اقتصادياً، وصاحبتا التجارب الناجحة، والموقع القيادي في المنطقة، تتطلعان (كما تطلعت الولايات المتحدة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية الى مواجهة التمدد الشيوعي) وتعملان على مواجهة التطرف والإرهاب من خلال وسائل متعددة أبرزها التنمية البشرية والاقتصادية لقطع الطريق على استغلال التطرف للبيئات الاجتماعية الفقيرة والمعوزة من أجل التغلغل فيها.

ويمثل المشروعان الاقتصاديان لكل من الامير محمد بن سلمان والشيخ محمد بن زايد، فرصة تاريخية للبنان ولغيره من دول المنطقة من أجل النهوض، خصوصاً أنهما يتقاطعان ويتكاملان إقليمياً مع التوجهات الدولية لمواجهة التطرف والإرهاب.

لقد قال ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير محمد بن سلمان في معرض شرح الأبعاد الإقليمية ل”رؤية 2030″ إن حلمه هو أن يجعل من الشرق الأوسط “أوروبا جديدة” … فما على اللبنانيين شعباً وقيادات إذا أرادوا فعلاً بناء مستقبلهم، سوى التوجه نحو بناء شراكة استراتيجية مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تكون المدخل الصحيح الى إعادة بناء الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في لبنان على قواعد تنموية تكاملية مع محيطهم العربي في عمقه الخليجي بعيداً عن مشاريع الحروب والدمار والخراب والمواجهات التي لم ترتدّ عليهم إلا بالبؤس والموت والفقر والتخلف عن اللحاق بالتطور الحضاري للعالم.

السابق
12 عاما على غزوة 7 أيار.. «حزب الله» خسر أيضا وهؤلاء هم «شهداء الواجب»!
التالي
هذه نتائج فحوصات الرحلات من باريس وليبيريا وابو ظبي والرياض وقطر!