العالم إزاء الفيروس (وليس أميركا) كقوة عظمى وحيدة

كورونا
التحدّي الأكبر: القضاء على الوباء والاستعداد لما بعده. الحاجة الماسّة الى تعاون دولي في عالم لم يخرج من انقساماته الحادة. ترتيبات "ما بعد كورونا" قد تدفع الى تسويات أمر واقع للنزاعات المسلحة.

لم يعد هناك لبس، فالقوة العظمى الوحيدة اليوم، في هذه اللحظة، هي الفيروس “كوفيد 19” الذي استطاع أن يهزم القوى كافةً وتقزّم أمامه كلّ الترسانات العسكرية كمعيار للجبروت. لم يُنظر الى السوابق، كالإنفلونزا والطاعون والإيدز في القرن العشرين، على رغم حصيلة الموت الهائلة، باعتبارها سبباً في شلّ التجارة، تقويض الاقتصاد، تهديد وجودي للدول، وتغيير جذري عميق في النظام الدولي. دائماً ما كانت الفيروسات موجودة بيننا، لكن نمط الحياة العصري سريع التطوّر انعكس أيضاً على حركتها وفاعليتها، هذا ما نتعلمه خلال الحجر المنزلي إذ لا يغيب “كورونا” لحظة عن انشغالاتنا وبتنا جميعاً في حاجة الى أن نعرف أكثر، فبمقدار ما أن ثورة التكنولوجيا والانترنت جعلت حياتنا أكثر يسراً في نيل المعرفة بمقدار ما أن عنصراً طارئاً من خارج هذه التطوّرات يكشف هشاشة هذه الحياة.

اقرأ أيضاً: يوم تفرّ إيران من الصين بعد إنفجار كورونا الكبير!

زعامة العالم

في ظرف أسابيع معدودة أصبح هناك ما يشبه الإجماع على أن الولايات المتحدة مندفعة الى الأفول، وأن الصين منطلقة الى “زعامة” العالم، وأن روسيا جاهزة لاستعادة أمجادها “السوفياتية” مع بعض التنقيح، وأن القوى التقليدية القديمة في أوروبا تتساقط من موازين القوى. انه الفيروس في صدد حسم معركة تبديل المراكز في “القطبية” الدولية وبقدرة صامتة وخفيّة ما كانت لتتوفّر للصين وروسيا مهما أوتيَتا من قوّة. ومع أن موجات غزو “كورونا” لا تزال دائرة فإن ثمّة حروباً متعدّدة تتداخل في غمرة الارباكات التي أحدثها: حرب كمامات تخللها نوع من قطع الطرق والقرصنة، وحرب نفط لا تخلو من “انتحارية” في خفض الأسعار برفع الإنتاج، وحرب تجارية لا يهدّئها اغلاق المنافذ، وحرب اللقاح السحري الذي لم يظهر بعد ويخضع لكل أنواع التجسّس… والأهم فيها هو السباق الى اعلان التعافي والأولوية في استئناف الحركة، فقط لتبديد التوقعات السوداوية ولو بأخبار كاذبة. لكن، قبل ذلك، تبقى أسئلة كثيرة مطروحة على بكين التي لم تُبد أي نوع من الاعتراف بالمسؤولية ولا أي تعهّد في شأن مستقبل “سلالة كورونا” دائمة الاختمار في مزارعها وأسواقها ومآكلها، إلا أنها بدت راغبة في اتهام الولايات المتحدة بتصنيع الفيروس وزرعه في بؤرها الصناعية.

هناك ما يشبه الإجماع على أن الولايات المتحدة مندفعة الى الأفول، وأن الصين منطلقة الى “زعامة” العالم، وأن روسيا جاهزة لاستعادة أمجادها “السوفياتية” مع بعض التنقيح، وأن القوى التقليدية القديمة في أوروبا تتساقط من موازين القوى. انه الفيروس في صدد حسم معركة تبديل المراكز

السفينة التائهة

في حضرة هذا العدو الاستثنائي بطغيانه لم يعد صلف رجل الأعمال الأميركي مفيداً، ولا ألاعيب رجل الـ “كي جي بي” مثيرة للإعجاب، ولا حذاقات كادر الشيوعي الصيني موضع ثقة بخلوّها من الفيروسات. فجأة بدا دونالد ترامب وفلاديمير بوتين وشي جين بينغ في سفينة فشل واحدة وتائهة، ويمكن ضم آخرين إليهم من مستويات مختلفة كحكام ايران وكوريا الشمالية وسورية واسرائيل، كما لو أنهم فشلوا جميعاً في الاختبار، ولم يعودوا صالحين للحكم، لأن “ما بعد كورونا” يتطلّب عقليات ومفاهيم مختلفة تماماً، وإلا فإن الفيروس التالي في السلالة سيكون بفعل سياساتهم أشد شراسةً.

غضب السموات

تلك السياسات ذهبت بعيداً في جشعها، فاتكةً بالإنسان والطبيعة والأرض والمناخ، الى أن جاء الفيروس ليدق جرس الإنذار، فأصبح مستقبل العالم رهن القرارات التي يتخذونها تحت وطأة الجائحة أو يتهيّأون لها بعد العاصفة. صحيح أن الاستنتاجات التي تربط الوباء بـ “غضب السماوات” أو تعطيه تفسيرات دينية ليست كافية ولا مقنِعة، لكن المثير أن حتى التحليلات العلمية تكاد تلامس الغيبيات كالقول بأن الفيروس نتاج الغلاف الكهرومغنطيسي المحيط بالأرض لخدمة “جي 5” أو الجيل الخامس من ثورة الاتصال والمعلوماتية، وعلى افتراض صحّته فإن الأقل اثارة هو التبشير بوجوب “التضامن الدولي” للقضاء على الوباء، وبالأخص لمواجهة ما بعده. فمنذ أسابيع يجري تداول فكرة جلسة مخصصة لـ “أزمة كورونا” في مجلس الأمن. ذاك أن هناك صعوبات شديدة، وأن الانقسامات في قمة المجتمع الدولي لا تتيح سوى “تضامن” لفظي كاذب، فالجميع يعاني كارثية الوباء ولا يريد الاعتراف بوطأته واستثنائيته لئلا يضطر الى تنازلات.

يالطا جديدة

لعل التفكير في قمة للدول الخمس الكبرى يحاول استنساخ نوع من “يالطا جديدة” كما لو أن هذه الدول تعيش نهاية مرتقبة لحرب عالمية. غير أن الصراع قائم فعلياً بين ثلاثة منها هي اميركا والصين وروسيا، وهو ما عطّل المجتمع الدولي والقانون الدولي. فرنسا وبريطانيا موجودتان ومؤثّرتان في المعادلة لكنهما لا تتحكّمان بالاستراتيجيات بل تتفاعلان معها سلباً أو ايجاباً. “يالطا” قد تعني تقاسماً جديداً للنفوذ، ولا تبدو اميركا (+ الاتحاد الأوروبي) جاهزة له، كما أنه لم يعد يقتصر على الجوانب السياسية والعسكرية فحسب بل يمتد الى المجالات الاقتصادية. لكن “يالطا” هذه لا تعني “الوفاق الدولي” الذي يجري البحث عنه، لأن أي وفاق حقيقي سيضع على المحك جملة استحقاقات: التعاون للقضاء على الفيروس بعد محاصرته والاستباق المستقبلي لأي أوبئة، السباق الى أسلحة الدمار الشامل، مصير سياسة العقوبات كرديف للحروب المباشرة وبديل منها، تحكّم اميركا بالنظام المالي العالمي، استجابة متطلبات معالجة أزمة المناخ، النظام الاقتصادي وهيكلة قطاعات الصناعة والطاقة والتجارة…

لعل التفكير في قمة للدول الخمس الكبرى يحاول استنساخ نوع من “يالطا جديدة” كما لو أن هذه الدول تعيش نهاية مرتقبة لحرب عالمية

اقرأ أيضاً: «كورونا» وفرصتنا إلى المستقبل

السباق الكوروني

في كلٍّ من هذه المجالات يبدو العالم مرشّحاً لتغييرات واسعة، وإذ ركّز هنري كيسنجر على أولويتي التعامل مع الوباء وأضراره الاقتصادية، إلا أن حضّه اميركا على “حماية مبادئ النظام العالمي الليبرالي” كأولوية ثالثة شكّل إشارة الى مخاطر تهدّد الحفاظ على هذا النظام وحمولتيه الرئيسيتين (الديموقراطية والحرّيات). ولا شك أن انكفاء هذا النظام سيكون من أسوأ الانعكاسات على الدول التي تشهد نزاعات مسلحة وسعياً الى أنظمة غير استبدادية. هذه الدول قد تفقد في السياق الكوروني الكثير من الاهتمام الدولي، فقضاياها أصبحت لتوّها ثانوية، ومن شأن أي ترتيبات دولية لمرحلة “ما بعد كورونا” أن تدفع الى تسويات الأمر الواقع لتسكين النزاعات من دون حلّها. هذا مع افتراض أن القوى الكبرى لن تعود بحاجة اليها كساحات لحروبها بالوكالة…

السابق
بعد إشاعة نقلها العدوى لعامل «ديليفري».. مي شدياق تنفي وتُعلن شفائها!
التالي
العراق… إكرام الميت دفنه