كورونا يفاقم اللامساواة المتجذرة

كورونا رجال نساء

استكمل فيروس كورونا ما بدأته الهزة التي أصابت لبنان منذ ظهور مفاعيل الأزمة الاقتصادية. حصل ذلك على وقع زلزالين متصلان، الثورة الاحتجاجية في 17 أكتوبر وإعلان رئيس الحكومة، عمليا، إفلاس الدولة اللبنانية. وهذه النتيجة الطبيعية لنمط الحكم الفاسد والمتوحش الذي ساد في السنوات الأخيرة.

فما هي خصوصيات الوضع الاجتماعي والاقتصادي؟

لم نعتد في لبنان إثارة موضوع الضرائب التصاعدية، التدبير الأساسي للحد من اللامساواة، إلا فيما ندر. فالضرائب في لبنان موحدة للجميع تقريبا، ناهيك عن التهرب الضريبي. في الوقت التي تذهب فيه دول العالم الأول، إلى المزيد من “المساواتية”، تغرق بلادنا أكثر فأكثر في أنواع اللامساواة والتمييز، بحيث صار لدينا طبقة من الذين لا يمسون (untouchable)، الذين يمكنهم ممارسة أي مخالفة أو جريمة دون محاسبة.

للأوروبيين حساسية شديدة تجاه “اللامساوة” أو كل ما يتسبب بالمزيد من الفروقات. كل ما يساهم بتفاقمها في المجتمع يثير الاشمئزاز أكثر فأكثر. فالاتجاه العام يمضي نحو عالم أكثر حرية وأكثر عدلا وإنصافا.

بحسب أحد أعداد مجلة العلوم الإنسانية، تم إنجاز الكثير من “تسوية” الفروقات، إذا أمكن القول، في النصف الثاني من القرن العشرين. ففي مايو 1968 كان الكادر يجني أربع مرات أكثر من العامل. وفي العام 1984 أصبح يجني 2،7 أكثر. ووصل في النصف الأول من الألفية إلى 2،5 مرة فقط. 

في لبنان تضخمت أعداد المتضررين من تعطل الحياة العامة تماما، وسيتضخم طابور العاطلين عن العمل

ينتقل البحث عن اللامساواة إلى مواضع أخرى، على مستوى النوع والعمر والصحة ومكان السكن والمدرسية. تحولت النظرة إلى أنواع اللامساواة في عيني السوسيولوجيين، ولم يعد الحديث يتم عن “فقر” بل عن “أنواع ودرجات الفقر”. 

الفقر لا يتعلق بالمدخول بل بشروط الحياة وبالشروط الذاتية، أي كيف ينظر الشخص إلى نفسه، فقد لا يكون فقيرا بمعايير معينة (مسكنه معقول ويعمل ويؤمن مدرسة لأطفاله) ومع ذلك يجد نفسه فقيرا عندما يقارن حياته بما يعرض أمامه! وليس أدل على ذلك من حركة السترات الصفراء في فرنسا دولة الرعاية بامتياز.

ويجد توماس بيكتي أن التغير الأساسي الذي حصل في فرنسا في القرن العشرين هو اختفاء أصحاب الدخل المرتفع أو الملاكين ذوو البطالة. ومرت فرنسا في مطلع القرن العشرين، من مجتمع تأتي المداخيل المرتفعة فيه من الرأسمال، إلى الوقت الراهن حيث المداخيل المرتفعة تأتي من العمل. 

ولم يكن هذا نتيجة تطور طبيعي بل بسبب أزمات بداية القرن ومنها أزمة 1929 الاقتصادية والحربين العالميتين. فبعد أن ظلت الأسعار ثابتة من العام 1815 وحتى العام 1914. تغيرت بين العام 1914 والعام 1950 فتضاعفت 100 مرة. مع هذا التضخم القوي خسر أصحاب الرساميل عمليا كل شيء.

ماذا عن لبنان؟ في محاضرة بعنوان “الحد من اللامساواة” في ندوة بيت المستقبل: “المسألة الاجتماعية في زمن التقشف”، انطلق الباحث الاقتصادي كمال حمدان في مداخلته من سؤال: هل أفلس البلد؟ مؤكدا أن الدول لا تفلس. ما يحصل هو تحولات تطرأ على البنية الاجتماعية ووضع الموجودات وعلى قطاع العمل؛ فيهتز القطاع الخاص وتنشأ معالم مرحلة اجتماعية جديدة. لبنان يقع في خضمها الآن وستنطوي على تبدلات اجتماعية عميقة مع معاناة حادة.

على مستوى الماكرو اقتصاد يحصل انخفاض في الإنتاج المحلي من 10 إلى 15 في المئة. ينتج عنه انخفاض حاد في إيرادات الدولة. بدأ ذلك منذ الربع الأخير من العام 2019، مع الأزمة النقدية. للمرة الأولى في لبنان صار للدولار أكثر من سعر (سعر صرف رسمي وسعر نصف رسمي وسعر السوق). وفي المقارنة مع أعوام الثمانينيات حين ارتفع سعر الدولار 1000 مرة (من 3 ليرات إلى 3000 ليرة) لم تحصل مثل هذه الأزمة. إذ كان وضع المصارف متينا مع سيولة تبلغ 90 في المئة. أما الأن فلديها 7 في المئة سيولة فقط لأنها وضعت أموالها في مصرف لبنان و”تبخرت”.

تحول الاقتصاد منذ 1995 إلى اقتصاد من النمط الريعي عنوانه العريض: الزواج بين المصارف وأركان الدولة. المصارف لديها المال والدولة عاجزة، أعطونا المال مقابل سندات خزينة ويوروبوند. وكي تحمي الدولة المصارف، تكرمت عليها بالأموال، عبر مصرف لبنان، على شكل هندسات مالية. في سلسلة حلقات جهنمية للدورة المالية حيث يسرق جزء منها في كل مرة.

انعكس كل ذلك على الوضع الاجتماعي، على خلفية مترسخة للامساواة. فهناك تفاوت هائل في الدخل واستقطاب كبير في توزيع الثروة: 1 في المئة من السكان يملكون ما بين 40 و45 في المئة من الثروة. الباقي يتوزع على حوالي 3 ملايين مودع.

في 1960 كان 4 في المئة من السكان يملكون ثلث الدخل، وكنا نتحدث عن اللامساواة. الآن 1 في المئة يملكون ربع الدخل. قبل الحرب كانت جميع الأجور تشكل 40 في المئة من الناتج المحلي، ومع السياسات المتعاقبة أصبحت الآن 25 في المئة من الناتج. وأكثر ما تظهر اللاعدالة عند الأجراء، الذين يشكلون 55 أو 60 في المئة من مجموع العاملين (ربعهم قطاع عام والباقي قطاع خاص). حصل القطاع العام ما بين 1996 و2008 و2017 على 3 تصحيحات للأجور. القطاع الخاص لم يحصل على التصحيح الثالث.

هناك 2400 أجير في وضع مخيف إذا عاينا حاجاتهم (ما بين غذاء وصحة وتربية وكهرباء وماء وهاتف ومنزل..). بينما بنية الأجور للفئة المسجلة في الضمان (ويقدر عدد المكتومين بـ 70 ـ 75 في المئة من الأجور المصرح عنها)، تتراوح ما بين 1 مليون ونصف المليون إلى مليون و800 ألف ليرة شهريا. بالتالي فإن الوضع الاقتصادي لهؤلاء هش جدا.

بيّن المسح الذي أجراه البنك الدولي عام 2018، أن نسبة البطالة في الأعمال غير النظامية (informal) أكثر من 50 في المئة من العاملين الذين لا ضمان لديهم وغير مسجلين في المالية، ولا نعرف كيف يعيشون دون مساعدات على أي مستوى. وهذا ما يضعف فكرة الدولة نفسها، التي صرفت منذ التسعينيات وحتى الآن: 240 مليار، صرف منها كاستثمار في المرافق العامة ما بين 7 إلى 8 في المئة. الباقي صرف كخدمة دين وكهرباء، والمحاصصة والفساد التي استهلكت أكثر من 50 في المئة منها.

تطور وضع النسق الاقتصادي في لبنان معتمدا على تهجير الشباب، أي تصدير الموارد البشرية والاكتفاء بالمفاعيل المالية الناتجة. يهاجرون ويرسلون المال إلى المصارف في لبنان. كما اعتمد على الصادرات من خدمات وترفيه وصحة. لكن التحويلات توقفت في العام 2019.

من مؤشرات انعدام العدالة: احتكار ما بين 4 إلى 5 آلاف مؤسسة ما بين 70 إلى 80 في المئة من الاقتصاد. بينما 92 في المئة من بين 200 ألف مؤسسة لديها أقل من 5 عمال. و100 ألف مؤسسة هي مؤسسات فردية (one man show). كل ذلك ينعكس على اللاعدالة الاجتماعية.

لم نعتد في لبنان إثارة موضوع الضرائب التصاعدية، التدبير الأساسي للحد من اللامساواة، إلا فيما ندر

أمام أزمة كورونا، بدأت الدول تتخذ التدابير اللازمة لمساعدة الاقتصاد من ناحية ولمساعدة الأسر الأكثر احتياجا والتي توقفت عن العمل بسبب الوباء.

في لبنان تضخمت أعداد المتضررين من تعطل الحياة العامة تماما، وسيتضخم طابور العاطلين عن العمل. كيف سيعيش هؤلاء وكيف سيؤمنون تكاليف الغذاء والدواء والطاقة وإيجار المنزل وغيرها من الفواتير المضاعفة التي يدفعها اللبناني؟

هل ما تقترحه الدولة اللبنانية من مبلغ مقطوع سيفي بالحاجة؟ وهل سيصل إلى المحتاجين الفعليين؟ أم إلى المحاسيب في دولة الزبائنية.؟

لفت نظري ما سجله بيكتي من أن تضييق شقة اللامساواة بين المداخيل لم تتم إلا عبر العنف في القرن العشرين، وليس بواسطة التصويت الانتخابي الوادع.

وفي هذا السياق قد تنجح الثورة، ما بعد كورونا، بتحقيق ما جاء في مقال باسكال ضاهر حول الديون البغيضة التي راكمتها الحكومات المتعاقبة على لبنان: “إنّ الديون تمثل الحكومة وليس الدولة التي تعني الأرض وليس الكيان الحكومي المحدد. وهذه الديون البغيضة يتم التعاقد عليها واستخدامها في أغراض يعرف المُقرض أنها تخالف احتياجات ومصالح الأمة، ومن صورها الزيادة في ثروات القابضين على النظام في البلد المعني، مقابل الزيادة المطردة في نسبة الفقر في هذا البلد. حينها يكون هذا الدين غير ملزم للأمة بل هو دين مترتب على النظام، أي هو دين شخصي تعاقد عليه الحاكم ليس إلاّ”.

أمام الثورة مهمة تحرير لبنان ممن صادروا سيادته وسرقوا ثرواته، مع فرض نظام ضريبي عادل ليؤمن شيئا من العدالة الاجتماعية.

اقرأ أيضاً: كي لا تزور الطبيب.. حافظ على نظافة أسنانك وابتعد عن غسول الفم!

السابق
لهذا السبب عدد وفيات كورونا مرتفع في لبنان!
التالي
نظام عالمي جديد… يولد من كورونا