مقال العزلة: ميشال عون صار ممكناً

تعقيم من الكورونا

لسنا وحدنا في “الهلع” هذه المرة. أصدقاؤنا في البلاد الأخرى هَلِعون أيضاً، وهلعهم يشبه هلعنا، لا بل أحياناً يفوقه. لكن ذلك لا يؤنسنا، لا بل يزيد من هلعنا ويزخمه. لا أحد هذه المرة يسعى لمساعدتنا للخروج من طوفان الهلع القادم من كل مكان. كورونا هو الوجه القبيح للعولمة. وأن يتولى مرض مهمة توحيد العالم، ففي ذلك شُحنة هائلة من الردة إلى ما قبل المرض بقرون. إلى زمن ما قبل الحدود المفتوحة، وما قبل العلاقات بين الأمم.

السبيل الوحيد للحد من المرض ومن الفيروس هو إقفال الحدود وإقفال البيوت. التواصل هو احتمال موت، والحب فرصة للانتحار. الفيروس الذي دأبنا منذ سنوات على تحصين أجهزة الكومبيوتر منه، ها هو اليوم ينتقل من زمنه الافتراضي إلى زمنه الحقيقي، بعد أن تعلم من قرينه الإلكتروني كيف يعبر الحدود وكيف ينتشر بثوان قليلة وكيف يسابق الزمن.

الفيروس حليف الأشرار، على رغم أنه قد يصيبهم. في لبنان تشعر السلطة بأنها نجت بفعلتها جراء وصول الفيروس. لم يعد الانهيار أولوية. صار شأنا يوميا. شيئا من زمن ما قبل كورونا. صار عاديا، لا بل موضوع حنين أحيانا. فنحن اشتقنا إلى المصرف الذي سطا على ودائعنا، وصرنا نفكر في أن مديره، الرجل الشرير الذي غشنا، غير مصاب بالفيروس، وأن دفق الحياة في وجهه المتضخم ليس من علامات الشره إنما دليل صحة ونجاة من كورونا! قد يحلو لنا في هذه الحال تقبيل وجهه، بعد أن كنا نرغب لو أننا نتمكن من تهشيمه.

الفيروس فعلاً هو احتمال كبير لانتصار الانعزال على إلفَة اجترحها التقدم

لم يعد مهما أن السلع التي هرعنا لشرائها ولتخزينها في منازلنا، تضاعفت أسعارها! الأكثر أهمية هو توافرها على رفوف السوبرماركت، والفساد، ذلك الشيء الهائل الذي خرجنا إلى الشوارع للتصدي له، صار خلفنا. صار خلفنا ليس لأننا قضينا عليه، بل لأن الفيروس خطر أكبر.

الفيروس قوة رجعية وشريرة ليس فقط لأنه يهدد صحتنا، بل الأهم لأنه في طريقه لأن يفصلنا عن كل شيء. وهو إذ فعل ذلك هذه المرة، أبقى على قدرات تواصل موازية. يمكننا أن نتواصل عبر الإنترنت. هذه المهمة تُعزز من رجعية الفيروس، ذاك أننا حين نفعل ذلك نعترف بما نحن فيه من انقطاع، ونستسلم للعزلة، ونقيم نظاما لإدامتها ولجعلها محتملة.

على الحياة أن تستمر في ظل هذه العزلة. وعلينا أن نعترف أن هذه الأخيرة ممكنة وعادية، لا بل علينا ربما في مرحلة لاحقة أن نجعلها منتجة! هذا منتهى الخطر. حين تصبح العزلة منتجة، فهذا يعني أنها ستصبح خيارا حتى لو انتفت أسبابها. سيطلبها السوق بصفتها سبيلا للإنتاج وربما للإبداع. ستصبح الحياة شيئا لا يطاق إذا وصلنا إلى هنا. العزلة ستصير شرط لـ”تقدم” السوق، وربما لتقدم العلم، ولمزيد من التكنولوجيا. سنصبح بهذه الحال روبوتات في عالم الانفصال هذا.

الفيروس قد ينقضي، لكن قيمه لن تمضي بسهولة. المدارس والأعمال والأسواق والعائلات والصداقات، قبله لن تكون هي نفسها بعده. لا ندري بعد ماذا يعني ذلك. سنوات وعقود وربما قرون من تراكم العلاقات، أصابها الفيروس بشيء ما لا يمكننا أن نحدده حتى الآن. العلاقة الهرمية بين الغني والفقير وبين العامل وصاحب العمل وبين الأم وابنها، طرأ عليها متغير. حين تتصل بك أمك وتطلب منك عدم زيارتها في نهاية الأسبوع، فهذا متغير له ما بعده. وحين يطلب منك رب العمل البقاء في المنزل، فهذا احتمال لأن لا يرسل لك راتبك، أو لأن يتخفف لاحقا من عبء المكتب وأن يديم فكرة العمل من المنزل.

اقرأ أيضاً: شبهة الكورونا في نواب «حزب الله» أقفلت البرلمان وربما يقفل الحزب لبنان!

الفيروس قوة رجعية وشريرة ليس فقط لأنه يهدد صحتنا، بل الأهم لأنه في طريقه لأن يفصلنا عن كل شيء

الفيروس فعلا هو احتمال كبير لانتصار الانعزال على إلفَة اجترحها التقدم، ووسعتها عولمة رحنا نتوهم أن قدراتها على مسابقة الزمن هائلة، وإذ بها تركلنا إلى الوراء. فالفيروس يتنقل من دولة إلى دولة، ويعبر الحدود مستعينا بأدواتها.

الفيروس قبيح فعلا، فهو جعل من رئيس حكومتنا ومن سلطتنا أمرا ممكنا وعاديا ومحتملا. وجعل من عملية نهب مليارات الدولارات شأنا عاديا وغير مهم وخارج أولوياتنا. المهم ألا تأتي الطائرات من إيران أو من إيطاليا، والمهم أن تتأمن اللقاحات، وأن يكون العزل محكما. لا بل المهم أيضا، وربما الأكثر أهمية، هو أن تقبل المستشفى الحكومي تربة مار شربل كعلاجٍ للمصابين! لا وقت لدينا للرفض وللذهول. الهلع يحصي علينا أنفاسنا، ولا بأس بأن ينتصر الإمام والكاهن على الطبيب.

أليس ذلك منهى الردة. أليس أفقا لما بعد كورونا، أو لما بعد بعد كورونا؟ على البشرية أن تسرع الخطى لإيجاد اللقاح، وإلا سنجرها معنا إلى حيث ذاهبون، إلى حيث يصبح ميشال عون ممكناً.

السابق
«صنع في الصين»: واشنطن وبكين تتبادلان تهم التآمر بنشر كورونا
التالي
احدى المصابات بـ«كورونا» تقبلت التعازي لمدة يومين.. والان عون: هذا التكتم جريمة!