روسيا 2024..أزمة سلطة أم أزمة هوية؟

في أزمة البحث عن الذات والهوية، تعاني روسيا دائما من عقدة مكانتها، وهي أسيرة مكانها. فالإمبراطورية الدائمة المُحملة بأثقال التاريخ والجغرافيا والعقيدة، تدفع ضريبة هويتها المركبة وخصوصياتها الأوروآسيوية، غير المتوازنة ديمغرافيا وجغرافيا، حيث يقطن 70 في المئة من مجموع سكانها في جزئها الأوروبي فيما 70 في المئة من مساحتها تقع في قارة آسيا، ما شكل أزمة في تشكيل الهوية وتعريفها.

فروسيا السلافية الأرثوذكسية ترى في الغرب خصما عرقيا ودينيا، يمثل تهديدا دائما لمجالها الحيوي الأوروبي، في المقابل لا يمكنها الاستثمار في انتمائها شرقا، حيث تصطدم بجدارين الفضاء الإسلامي في جنوبها (آسيا الوسطى وشمال القوقاز) أما الثاني فهو حدودها الطويلة مع عملاق صيني صاعد، يستثمر في الفراغات الجغرافية الهائلة في مناطق الأورال وسيبيريا، وفي التراجع الديمغرافي العام خصوصا في تلك المناطق.

عقدة المكانة والمكان

تضاعفت عقدة المكانة والمكان في روسيا بعد هزيمة الحرب الباردة، وتفاقمت في معركة رد الاعتبار لحضورها العالمي، فاستعانت نخبتها السياسية والثقافية في النزعة القومية التي تشكلت كردة فعل على ما تعرضت له من إهمال وتهميش قلّص دورها أمام توسع أميركي ممنهج وصل إلى تخومها في أوكرانيا وجورجيا، وهو ما استخدمه الرئيس فلاديمير بوتين من أجل إعادة تعريف الهوية بفرعيها الوطني والقومي وربطهما بالجغرافيا.

فقد شكل صعود النزعة القومية الروسية وربطها ما بين المكون العقائدي والإثني والحيّز الجغرافي فرصة للنخبة الروسية الحاكمة لإعادة بناء الأمة الروسية والحفاظ على خصوصياتها التي شكلت عائقا دائما بوجه الأفكار الليبرالية والغريبة، وفي الدفاع عن منظومة القيم التي كانت أحد أبرز دعائم قيام الإمبراطورية في مرحلتها القيصرية وحتى السوفياتية، التي لم تتخل ضمنيا عن هويتها الاجتماعية السلافية كفاعل قومي مؤثر ضمن الهوية السوفياتية، وهنا يفسر مؤلف كتاب “ريح سوداء وثلج أبيض” شارل كلوفير الذي أقام في روسيا لسنوات “أن هذه الأفكار وجدت قبولا كبيرا لدى العسكريين ورجال الأمن الروس الذين وجدوا فيها طوق النجاة من التهميش الذي بدأ يلوح بالنسبة لهم في الأفق بعد نهاية فترة الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي”.

منذ وصولوه إلى السلطة تعامل فلاديمير بوتين بحذر مع عقدة الهوية المركبة، وعوض عنها في تعامله المدروس مع الطبيعة المكونة للفرد الروسي ورغبته بسلطة قوية، فنجح هنا في الربط ما بين قوتين الأولى قوة حكم الفرد المطلقة (القيصر) والثانية قوة الجغرافيا على قاعدة (الإمبراطورية)، فاستطاع القيصر الجديد تعويض التراجع القومي في التنمية والاقتصاد بدور المؤسسة الحاكمة والقائد الرمز الذي دغدغ مشاعر الأمة وأعاد الاعتبار لطموحاتها إلى أن توجته أبا لها دون منازع.

روسيا السلافية الأرثوذكسية ترى في الغرب خصما عرقيا ودينيا

في طريقه للحفاظ على موقعه الدائم المهيمن على الدولة والمجتمع، قام بوتين أكثر من مرة في إعادة الهندسة السياسية، وفرض توازنا مدروسا بين مراكز القوة، ومنع تبلور شخصية روسية لخلافته، فمنذ سنة 2000 وإلى 2024 تاريخ انتهاء الولاية الرئاسية، يواجه المجتمع الروسي أزمة في تشخيص الرجل الثاني أو الوريث للمرحلة البوتينية.

تعديل صلاحيات بوتين

هذا الغياب أو التغييب المتعمد في الأسماء سهل أمام فلاديمير بوتين طرح تعديلاته الدستورية التي سيصوت عليها مطلع في 22 أبريل المقبل، وبموجبها سيتم توزيع الصلاحيات ما بين مؤسسة الرئاسة والسلطات التشريعية والتنفيذية، مع إعطاء دور أكبر لمجلس الدولة الذي من المتوقع أن يكون برئاسة بوتين، وعضوية رئيس الجمهورية المقبل (المحدود الصلاحيات)، تسمح لبوتين الاستمرار في الحكم المطلق باعتباره ضامنا لقوة الدولة ورمزا لهويتها.

وفي هذا الصدد يقول الكاتب في الشؤون الروسية سامر إلياس في مقال له بعنوان “تغييرات الدستور الروسي: حصانة أبدية لبوتين” يبدو “أن بوتين يسعى إلى تمرير دستور جديد يحدد هوية جديدة لنظام الحكم السياسي والاجتماعي والاقتصادي ولبلاده عالميا، باختيار شعارات تجمع شعارات روسيا القيصرية والسوفييتية في إناء واحد، لبناء دولة قومية دينية برأسمالية مشوهة يصعب حكمها إلا وفق النهج “البوتيني”.

السابق
معلومات «جنوبية»: وساطة إبراهيم تتجاوز إجلاء قتلى «حزب الله» من إدلب!
التالي
إدلب: روسيا وتركيا تتحاربان لمخاطبة أميركا وأوروبا