إدلب: روسيا وتركيا تتحاربان لمخاطبة أميركا وأوروبا

بوتين اردوغان
ليس عند أطراف المجتمع الدولي سوى التكاذب لتغطية عجزها عن وقف الحرب الروسية - التركية في إدلب. دول الغرب ترفع راية "الوضع الإنساني". روسيا والنظام يتغطيان بشعار "محاربة الإرهابيين". تركيا تتجه الى خسارة قد تليها خسائر.

ليلة الخميس 27 شباط قتل الطيران الروسي ثلاثة وثلاثين عسكرياً تركياً، وردّ الجانب التركي بساعات من القصف الصاروخي والمدفعي على عشرات المواقع التابعة للنظام السوري وحليفه الايراني، وهما لا يعلنان عادةً عن خسائرهما البشرية، ولا بدّ من رصد مواقع التواصل الاجتماعي للتعرّف الى بعضٍ منها.
قيل إن الطيران الحربي للنظام “المدعوم من روسيا” نفذ الهجمات ضد الأتراك، لكن صار أصحّ القول الطيران الروسي “مدعوماً من النظام”.

الصيغة الأولى السائدة تستند الى “شرعية” النظام وحقّه السيادي في التصدّي لـ “قوات الغزو التركية”، أما الصيغة الثانية غير المستخدمة على رغم أنها حقيقية فتضفي “الشرعية الأسدية” على “الاحتلال الروسي” وترخّص له بضرب أعدائها من سوريين وأتراك. لماذا الصيغة الثانية حقيقية؟ لأن طبيعة الصراع تخلّت عن غموضها وأصبحت روسية – تركية، وفي تصوّر آخر يمكن القول إن الصراع روسي – أميركي. لذلك صار الحديث عن “الشرعية” لهذا الجانب أو ذاك بلا أي معنى.
وفي إطار الصراع الروسي – التركي (الأميركي – الأطلسي) يُطرح التساؤل عمّن سينتصر، بل عمّن يجب أن ينتصر؟ الأرجح أن مبدأ “لا يصحّ إلا الصحيح” لم يعد صالحاً، لا لمن يناصر الشعب السوري وقضيّته ولا لمن يصطفّ مع النظام وجرائمه.

خطر اللجوء

ما سـ “يصحّ” هو ما ستستقرّ عليه القوى المتنافسة سواء تلك التي نسيت “المعارضة” وباتت تختبئ وراء الأوضاع الإنسانية و”مأساة المدنيين”، أو تلك كروسيا التي لا تزال تشتغل، مع حليفيها الأسدي والإيراني، تحت عنوان بروباغندي هو “محاربة الإرهابيين”. فالمسألة الإنسانية للفريق الأول تنحصر حالياً في تمكين تركيا من منع نحو مليون أو مليوني لاجئ من تجاوز الحدود في اتجاه أوروبا، فضلاً عن استخدام خطر اللجوء هذا للضغط لتحسيس فلاديمير بوتين بمسؤوليّته الدولية التي لا يعيرها أي اهتمام.

أما مسألة “الإرهابيين” فكانت ترجمتها الدائمة، روسياً وأسدياً وإيرانياً، “محاربة” مقاتلي المعارضة السورية وتصفيتها عسكرياً وبالتالي سياسياً.
لذلك لا تنفكّ مسارات النصر والانتصار ومفاهيمهما تتعرّج وتُفرّغ من مضمونها.

ومع أن الحرب بدأت قذرة منذ طلقتها الأولى ضد المتظاهرين السلميين، واستمرّت على هذه الحال، إلا أنها بلغت الآن ذروة قذارتها، فمن جهة يتجلّى فيها منطق الإبادة للمدنيين ومن جهة أخرى تكثر فيها التكاذبات الدولية وتتداخل غير مكترثة بالمآسي الإنسانية. مَن مع مَن في هذه الحرب القذرة؟ وقفت روسيا مع النظام وشاركته جرائمه بل زادت عليها فتعذّر الاصطفاف معها لكنها اعتبرت وعوملت كقوة أمر واقع. لم يكن ممكناً الوقوف مع ايران ولا قبول ادّعائها (مع روسيا والنظام) بأنها تحارب الإرهاب. كان هناك رهان على الولايات المتحدة والدول الأوروبية لمساعدة الشعب السوري لكنه سقط. وكان شائعاً في مراحل سابقة امكان الاعتماد على تركيا غير أن انجذابها الى مسار استانا وظهور اجنداتها “العثمانية” ألقيا بظلالهما على دورها.

فكيف يُتوقّع من “القيصر” أن يوقف حربه في إدلب طالما أنه لم يتعرّف الى الثمن المقابل وكيف يمكنه أن يمنح نفوذاً لـ “السلطان” في إدلب ما دام الأخير خيّب آماله بانتزاعه من “الناتو”؟

تُضاف الى ذلك مراهنات على دور للأكراد الطامحين الى نمط من الانفصال في نهاية المطاف، أو بالأخصّ على دور لإسرائيل في تقليص النفوذ الإيراني وهي لا تؤدّي أي خدمات لقوى دولية أو إقليمية بل سعت وتسعى الى مكاسب تتيح لها ابتلاع الجولان وفلسطين.
يجدر النظر هنا الى تقلّبات المواقف العربية ولا سيما الخليجية والمصرية، فهي تتبادل الإشارات مع بشار الأسد الى أنها تسانده لكنه أشهر عملياً عجزه التام عن مقابلة دعمها الموعود بأي مكاسب سياسية أو حتى معنوية، فالقرار ليس عنده بل عند الروس، وفي جوانب منه عند الإيرانيين.

وجدت تلك المواقف تشجيعاً من موسكو، التي تعتبر الآن أن عودة أنقرة الى اصطفافها الأميركي يمكن أن تعوَّض أو تُستثمر في العداء الخليجي – المصري المحتدم مع تركيا، سواء على خلفية ادارتها للإسلام السياسي ورعايتها لجماعة “الاخوان المسلمين” أو بسبب سعيها الى توسيع نفوذها في سورية استناداً الى فصائل عسكرية مكتملة “الأخونة”. غير أن الدول العربية الراغبة في التطبيع مع الأسد اصطدمت بتشدّد أميركي في ضرورة مواصلة التضييق على النظام السوري اقتصادياً وسياسياً، مع مضاعفة العقوبات عليه بموجب “قانون قيصر” وكجزء مكمّل للمواجهة مع إيران وكذلك للضغط على روسيا.

لا معركة بين الناتو وروسيا

إذا لم تكن روسيا قد غرقت فعلاً في سورية فإنها بالتأكيد لا تستطيع حتى مجرد التفكير في الانسحاب كما فعلت في أفغانستان، ولعلها بلغت منذ عام ونيّف حقيقة أن بحثها عن احتلال بلا تكاليف ومسؤوليات، أو عن إعادة إعمار تموّلها دول الخليج واوروبا والصين، لم يعد مجدياً ولا واقعياً. في المقابل، إذا لم تكن تركيا متجهة الى خسارة ما حصّلته من نفوذ في شمال سورية فإنها معرّضة لهزيمة في إدلب، ولعلها تأكدت مجدداً أن كونها أطلسية لا يعني أن “الناتو” سيدخل مواجهة مع روسيا لدعم طموحاتها في سورية.
الواقع أن فلاديمير بوتين ورجب طيب اردوغان متفقان، موضوعياً، فالأول يقتل المعارضين السوريين العسكريين وبالأخص المدنيين ليضغط على أوروبا كي تدعم احتلاله وعلى واشنطن كي تخفّف من تشدّدها، والثاني يقاتل بالسوريين ايضاً ويهدّد بدفع موجات اللاجئين نحو اوروبا ملحّاً على “دعم ملموس” من أميركا ودول “الناتو”.

فكيف يُتوقّع من “القيصر” أن يوقف حربه في إدلب طالما أنه لم يتعرّف الى الثمن المقابل. وكيف يمكنه أن يمنح نفوذاً لـ “السلطان” في إدلب ما دام الأخير خيّب آماله بانتزاعه من “الناتو”؟ صحيح أن بوتين كان لوّح، على سبيل التفاوض مع الغرب، بأن لا يغيّر الوضع في إدلب في انتظار “الحل السياسي”، إلا أن الظروف تغيّرت، كذلك طبيعة الصراع (وفقاً لتوصيف أنطونيو غوتيريش).

السابق
روسيا 2024..أزمة سلطة أم أزمة هوية؟
التالي
مقدمات نشرات الأخبار المسائية ليوم السبت في 29/2/2020