في وداع الحريرية؟

هل سيستمر رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في السياسة أم لا؟ يصعب افتراض أن أحداً يملك إجابةً عن هذا السؤال، حتى عند الحريري نفسه، وهو بالمناسبة سؤال يدور في أروقة بيته الخاص وبيته السياسي الأوسع.

صعوبة الإجابة تتصل بغموض المرحلة السياسية المقبلة في لبنان، بعد زلزال 17 تشرين الأول 2019. جزء من أزمة الحريرية بهذا المعنى موصول بأزمة عموم الطبقة السياسية التي ولد بعضها، ونما بعضها، وتجدّد بعضها، في أعقاب جريمة قتل الرئيس الشهيد رفيق الحريري ظهيرة 14 شباط 2005، ووصلت مع ثورة ١٧ تشرين إلى نهاية تاريخ الصلاحية. ولعلّ شعار “كلن يعني كلن”، على اختزاليته وراديكاليته، لا يمثل إلاّ إعلان وفاة هذه الطبقة السياسية بقواها وتوازناتها وآليات اشتغالها وأدوات استغلالها للنظام العام والدستور والمؤسسات.

اقرأ أيضاً: «وصية» رفيق الحريري واغتيال لبنان

لكن يبقى أنّ للحريرية أزماتها الخاصة، بارتباطها وانفكاكها عن الأزمة  السياسية الأعم في البلاد.

هي قامت، تعريفاً، على أربع مرتكزات، لم يبقّ منها شيء مع حلول الذكرى 15 لاستشهاد المؤسس.

أولاً، هي ثروة أسطورية وقصة نجاح باهرة لرجل آتٍ إلى بلاد وإلى طائفة، منهكة، محطمة، فاقدة لبوصلتها في عقد الثمانينات، بعد سقوط الحلم الفلسطيني واستئساد النظام السوري على كبارها قتلاً وإبعاداً وتنكيلاً..  كانت البلاد والطائفة، مقسومة على نفسها بين استعدادها لترميم ثقتها بمستقبلها، وبين شعورها أنّ هذا “الثري اللبناني الخليجي” لا يليق بمستواها السياسي والثقافي والفكري والنضالي. فمن يستبدل في الوسط السني، رفيق الحريري بياسر عرفات. أو بزّة رجل الأعمال بكاكي الثورة، ولو المكسور في بيروت.

غير أنّ رفيق الحريري أضاف إلى نجاحه نجاحاً إضافياً. تسلّل كالنعاس إلى عيون بيروت، التي لا تزال تنام وتصحو على أمل رؤية طيفه مجدداً، يعبر شوارعها أو يطمئن إلى أعمدتها أو يصافح ناسها كواحد منها ومن أهلها.

والحريرية ثانياً، هي العلاقة الاستراتيجية مع المملكة العربية السعودية. وهنا، وللإنصاف، لا بدّ من التدقيق في خطأ شائع يفيد أنّ رفيق الحريري صناعة سياسية سعودية. واقع الأمر أنّ الرجل صنع جزءاً كبيراً من الدور السعودي السياسي في لبنان. وانتزع لنفسه موافقة سعودية متردّدة على دور سياسي مباشر كان يرغب فيه منذ شبابه، مشتغلاً على تطوير لحظة التقاطع بين الرياض ودمشق، إلى ما صارته لاحقاً، خلافاً لتفضيل الرياض إيكال أمر لبنان “ووجع رأسه” إلى الراحل حافظ الأسد، الشريك الذي ورثوا معه اللحظة العرفاتية في لبنان.

أصّر الحريري الأب على دخول السياسة مباشرة، بعد عقد من العمل السياسي في الكواليس، وحمل معه تدريجاً دوراً سعودياً إلى قلب لبنان، حيث كانت السياسة معقودة إما للزعيم المصري جمال عبد الناصر أو أبو عمار، ولم يتجاوز فيه الدور السعودي يوماً السقف الديبلوماسي أو الاستثماري أو السياحي.

والحقيقة أنّ وقائع الثمانينات لم تكن تسمح  بترف الأدوار السعودية في لبنان. ففي مقابل همّ الدبابات الإسرائيلية في بيروت كانت الأولوية السعودية لهمّ الدبابات الإيرانية على أبواب البصرة في العراق، وهمّ إعادة التوازن الى السياسة العربية مع خروج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي بتوقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل ثم اغتيال الرئيس أنو السادات نفسه. وكان رأس الهموم غزو السوفيات لأفغانستان مقروناً بالثورة الايرانية وما أشعلته من صحوات الإسلام السياسي..

تخيّلوا حجم لبنان وسط هذه الأزمات، وتخيّلوا حجم الحريري يومها بالمقارنة مع “القادة التاريخيين” الزمنيين والدينيين للطائفة. انتظر الحريري إطلالة عقد التسعينات ليبدأ بصناعة سياسة لبنانية سعودية في لبنان، بعد حرب الخليج الثانية وسقوط الاتحاد السوفياتي وازدهار وعود السلام العربي الإسرائيلي الذي كان في صلب وصفته السحرية مبادرة الأمير فهد بن عبد العزيز، التي تجدّدت في بيروت خلال القمة العربية عام 2002. 

والحريرية ثالثاً، هي عضوية رفيق الحريري الأكيدة في نادي الكبار حول العالم. من جاك شيراك أوروبياً إلى جورج بوش أميركياً ومهاتير محمد آسيوياً وفلاديمير بوتين شرقاً، وكوفي أنان أممياً، إلى الملك حسين والرئيس حسني مبارك، والملك الحسن الثاني، والشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والأمير صباح الأحمد الجابر الصباح… واللائحة تطول!

حين قال رفيق الحريري أنّ أحداً ليس أكبر من بلده، كان يعرف أنّ الحقيقة عكس ذلك، وأنّه أكبر من لبنان بهذا المعنى، تحديداً، لعضوية البلد الصغير في نادي الكبار، وما تستدرجه من أدوار خفية ومعلنة، لعبها أو كان يمكن أن يلعبها في قلب صناعة السياسة العربية والإقليمية.

والحريرية رابعاً، هي رئاسة مجلس الوزراء، التي ما كان يمكن تخيل امتلائها بغير رفيق الحريري. تكبر معه وتتواضع مع غيره.

مرّة جديدة ستكشف التطمينات العلنية سطوة الوقائع الحقيقية حول زعامته. على بلاطة وضعت على مدخل السراي، علّق رفيق الحريري شعار “لو دامت لغيرك لما اتصلت إليك”، مدركاً في قرارة نفسه أنّه في السياسة، يسود الظنّ عند عموم الساسة اللبنانيين أنّ السراي، متى دخلها الحريري صارت له، هو وهي صنوان في لبنان الجديد.  

مرتكزات أربعة صنعت الظاهرة الأكثر حفراً في تاريخي لبنان الحديث والمعاصر: ثروة طائلة، علاقة استثنائية مع السعودية، عضوية أكيدة في نادي الكبار دولياً، ورئاسة الحكومة.

لا شيء من ذلك باقٍ في جعبة سعد الحريري، وهو يتوجه إلى مصارحة مواطنيه وجمهوره بحصيلة السنوات الماضية التي قضاها إمّا زعيماً لتيار المستقبل أو رئيساً للحكومة. لعبة الملامة لن تطمئن من سيسمعون ما سيسمعون. لعبة الوعود، حتى وعود التغيير والإصلاح، (يا لمفارقة هذه العبارة) جرّبها قبلاً وصرخ عالياً عالياً  ومراراً مراراً أن الذئب آتٍ، أكثر مما يتاح للمرء أن يستمر في التصديق.

ولعبة “الضحوية” ما عادت تستدرج التعاطف الذي كانت تستدرجه في وقت صار فيه اللبنانيون كلهم ضحايا عراء يتمهم بالحريري الأب وحسب، بل يتم الوطن الذي كأنه يتسرّب من بين أصابعنا كحبات تراب.

فالبلاد تطرح مستقبل البلاد نفسها لا مستقبل الحريرية فيها بما لها وما عليها..

ثم ما الدافع؟

دخل سعد الحريري السياسية بدفع من قوتين: الانتقام لوالده والاستمرار بنهجه. فممن ينتقم ونحن أمام محكمة خاصة نُفذت كل أحكامها تقريباً قبل صدورها؟ وأي نهج سيستمرّ في بلاد تبدو موضوعة بقرار سياسي كبير على طريق الإفلاس الممنهج كبديل عن الحروب؟ 

واشتغل الحريري في ضوء آلية محدّدة تفيد بأنّ الحريرية ابنة باب دوار: الثروة تؤدي إلى السياسية والسياسية تضمن تنامي الثروة. لا الثروة بقي منها ما يعين على العمل السياسي ولا الأداء السياسي يشجّع على تمويل صاحب السياسة.

في الذكرى 15 لرحيل الكبير رفيق الحريري، لا شيء إلاّ اليتم. اليتم البارد المضني. والسؤال الحارق عن الغد وشكله ومواقيته، وعن طائفة، تحاول من لبنان إلى سوريا إلى العراق، أن تحتفظ بالحدّ الأدنى لنفسها “بحق العودة”.

السابق
«حرب كلامية» لا تهدأ.. بومبيو: إيران تستغل شباب لبنان والعراق!
التالي
«ستدفعون الثمن-لا شرعية».. مسيرة شعبية من الأشرفية إلى ساحة الشهداء!