«وصية» رفيق الحريري واغتيال لبنان

قبل اغتياله في 14 فبراير 2005 على يد مجموعة أمنية تابعة لـ “حزب الله، وفق اتهام الادعاء العام في المحكمة الخاصة بلبنان، كان الرئيس رفيق الحريري، قد توصّل إلى قناعة رسّختها الوقائع والخبرة، بأن فصل المسار السيادي في لبنان عن المسار الاقتصادي مستحيل، ولا بد من العمل على إيجاد التناغم بينهما، من أجل إنقاذ البلاد.

وانطلاقاً من هذه القناعة، سعى رفيق الحريري، ولا سيما بعد تلمّسه أسباب إفشال مسار مؤتمر “باريس ـ 2” الهادف إلى إنقاذ لبنان ماليا واقتصاديا، إلى “تحجيم” تأثير احتلال النظام السوري لـ “بلاد الأرز”، فانتقل من مؤيّد إلى” مزعج”، قبل أن يعود ويتموضع، عشية اغتياله، في موقع المعارض.

ولكن، مع توالي الأيام، سرعان ما جرى إهمال الوصية التي كتبها رفيق الحريري بدمه ودفع حياته ثمنا لها، فسلك السلطويون، على مختلف انتماءاتهم، المسار الذي ثبت بطلانه، وأعادوا لبنان إلى سياسة فصل السيادي عن الاقتصادي، متوهّمين أنهم أذكى من رفيق الحريري، وأكثر “براغماتية” و”ليونة” و”حنكة” و”حيلة” و”إبداعاًَ” و”إقناعاً” و”تأثيراً” و”خبرة” و”تحليلاً” منه.

التدابير القمعية يقدّر لها أن ترتفع شدّتها كما وتيرتها في الآتي من الأيام

ونتيجة لإهمال وصية الرجل الذي تخلّص منه الإرهاب بعبوة ناسفة بقوة ألفي كيلو من مادة “تي.أن.تي”، جرى التسليم في لبنان بحصر المسار السيادي بـ”حزب الله” الذي ارتفع منسوب افتخاره بالتبعية المطلقة لإيران عموما ولـ”فيلق القدس” خصوصا، في مقابل تولّي جميع اللاعبين السلطويين الآخرين، بالاشتراك مع “حزب الله”، للمسار المالي ـ الاقتصادي.

وبناء عليه، سار لبنان، عن جهل أو سوء تقدير أو عجز أو طمع أو تآمر، نحو الهاوية. فسياسة “حزب الله” التابعة للأجندة الإيرانية جرّت على لبنان غضبا إقليميا ودوليا، فيما توزيع الملفات المالية ـ الاقتصادية أنتج ويلات المحاصصة واللصوصية والفساد والزبائنية والنقص الحاد في الكفاءة.

ومع تبيان تداعيات الانهيار، وخروج اللبنانيين إلى الشارع في إطار “ثورة 17 أكتوبر”، وعد الجميع بتغيير يؤدي إلى الإنقاذ.

ولكن وعد التغيير كان وهما جديدا يضاف على جبل من الأوهام السابقة، إذ سرعان ما اتضح أنه جرى تكريس النهج الكارثي، من خلال الاستمرار بفصل السيادي عن المالي ـ الاقتصادي والاكتفاء بتغيير الوجوه الوزارية.

وليس سراً لبنانياً أن “حزب الله” بالاشتراك مع حليفه، رئيس الجمهورية ميشال عون، شكلا الحكومة الجديدة المناط بها “الإنقاذ”. وهذه الحكومة أخذت على عاتقها أن تراعي مصالح “حزب الله” في الداخل والخارج، وألا تغيّر حرفا واحدا من المسار الذي اعتمدته سابقاتها، بما يختص به.

ويبدو واضحا أن غالبية الأطراف السياسية في لبنان متواطئة لمصلحة هذا المسار. وفي هذا السياق، كان واضحا أن القوى السياسية التي تسابقت على التبرؤ من الحكومة السابقة والاستقالة منها، بحجة الاستجابة لتطلعات اللبنانيين الذين ثاروا، قد غطت، بمشاركتها في “جلسة الثقة” التي عقدها المجلس النيابي، التدابير القمعية للقوى الأمنية التي استهدفت الثوّار الذين كانوا يحاولون منع انعقاد الجلسة.

وهذه التدابير القمعية يقدّر لها أن ترتفع شدّتها كما وتيرتها في الآتي من الأيام، وهي بدأت تتخذ منحى خطرا، إذ تطورت من مواجهة المتظاهرين إلى تنظيم حملات اعتقال لاحقة لهم، قبل أن تصل، حاليا، إلى مرحلة الاعتداء المباشر على الخبراء والإعلاميين الذين يناصرون الثوّار ويقدمون لهم الأسباب الموجبة لاستمرارهم في الثورة.

وتغطية هذا السلوك القمعي، من غالبية مكونات الطبقة السياسية، بما فيها تلك التي انتقلت إلى المعارضة “السلطوية”، يعني، عمليا، موافقة الجميع على مواصلة النهج الذي يتناقض مع “وصية” رفيق الحريري السيادية، سواء عن قناعة أو عن مصلحة أو عن… خوف.

ومع ذلك، وهنا الطامة الكبرى، فإن جميع هؤلاء مقتنع، وبتصريحات علنية واضحة وصريحة ومباشرة، بأن انتشال لبنان من الحفرة العميقة التي وقع فيها، مستحيل من دون دعم من الخارج الذي باتت تختصره “المجموعة الدولية لدعم لبنان”.

اقرأ أيضاً: في الذكرى الـ 15.. هكذا يستذكر السياسيون الشهيد رفيق الحريري!

جرى تكريس النهج الكارثي، من خلال الاستمرار بفصل السيادي عن المالي ـ الاقتصادي

ولكن جميع من يزعم حرصه على إنقاذ لبنان ويتواطأ لإبقاء نهج فصل السيادي عن المالي ـ الاقتصادي، يتعاطى مع “خطر الانهيار” الذي يجزم رئيس الحكومة حسّان دياب بأنّه “ليس وهما”، كالنعامة، إذ إن جميع هؤلاء لا يريد أن يفهم ما قالته بوضوح “المجموعة الدولية لدعم لبنان” في بيانها الأخير الصادر في 12 فبراير الحالي، وهي تعدد السبل التي تفتح أبواب المساهمة في إنقاذ لبنان.

في بيانها الأخير الذي صدر غداة منح الحكومة الجديدة الثقة، شددت المجموعة على “أهمية تطبيق لبنان لقرارات مجلس الأمن 1701 (2006) و1559 (2004) والقرارات الأخرى ذات الصلة، وكذلك اتفاق الطائف وإعلان بعبدا والتزاماته التي قطعها في مؤتمرات بروكسل، باريس وروما”.

لافت هذا البيان، فـ”حزب الله” يبرز مشكلة تحول دون الإنقاذ، بشق المساعدات الخارجية المرجوّة، وذلك واضح وضوح الشمس، في كل حرف ونقطة وكلمة منه.

وفي هذا البيان، تتجسّد أبعاد “وصية” ذاك الذي اغتالته بعبوة ناسفة اليد نفسها التي تحاول اغتيال لبنان مالياً واقتصادياً واجتماعياً وحياتياً وثقافياً.

السابق
الصراع بين أنصار «الثنائي الشيعي» يتوسّع.. جريحان في شحور الجنوبية!
التالي
أخبار سارة للصينيين..أعداد المصابين بـ«كورونا» تنخفض!