عن الثورة وموجتها الثانية

مواجهات وسط بيروت

العنف الشديد الذي شهده وسط بيروت ليل السبت لم يكن خروجاً على سياق الثورة الشعبية التي انطلقت في ال17 من تشرين الاول اكتوبر الماضي. هو إستكمال طبيعي لها، وتتمة منطقية كان يسهل توقعها، بل كان ترقبها رهاناً شائعاً وتقديراً ثابتاً.. يسخر من النداءات المتكررة للجؤ إليه، والتي لم تلق على الارجح آذاناً صاغية من الذين إجتاحوا العاصمة بالامس بكامل وعيهم وإرادتهم الحرة.  

العنف ما زال نسبياً حسب المعايير اللبنانية السابقة والحافلة بأشكال من الدم والدمار، وحسب المعايير العربية الراهنة التي تتقبل فكرة المذبحة وتتكيف معها، وربما أيضا حسب المعايير العالمية التي تسلم ضمناً بأن أي تحرك شعبي لا بد أن يقود الى قتلى وجرحى..مع بعض الاستثناءات المحدودة التي لا تعترف بالثورة إلا إذا كانت مخملية، بيضاء، لا يلوثها اللون الاحمر.

سقط شهيدان و180 جريحاً كانوا يدركون سلفاً أنهم ذاهبون الى مثل هذه التضحية الغالية. لم يكن سقوطهم صدفة، ولا كانت مواجهتهم للقوى الامنية عبثاً. ثمة حاجة شعبية عامة للانتقال بالاشتباك مع السلطة الغائبة والمغيبة، الى شكل جديد، ومستوى مختلف، ومكان محدد، تم إختياره بعناية ليكون فاتحة الموجة الثانية من الثورة وعنوانها الرئيسي.

اقرأ أيضاً: الإنتفاضة تنهي شهرها الثالث: الفساد باقٍ.. والأزمة تتفاقم!

المدخل الاول لقراءة تلك الموجة هو أن ثورات المحافظات_الارياف  بلغت ذروتها ولم تؤد الى النتيجة المرجوة، بل هي تحولت الى حراك محلي تكاد تكون صلته معدومة مع بقية الحراكات، عدا بعض اشكال التضامن والتعاطف الضيق.. التي تقطعت في وجهها الطرقات وارتفعت الحواجز. الآن يمكن الزعم بان “الريف يغزو المدينة_العاصمة”، لكي يثبت بما لا يدع مجالا للشك أن الثورة وطنية تمتد على مساحة الجمهورية وتعبر جميع الطوائف والمذاهب من دون إستثناء. وهي بهذا المعنى نداء ملح الى البيارتة لكي يتخلوا عن تحفظهم ويلتحقوا بصفوف الثورة، وهي أيضاً، نداء الى شيعة الثنائي الحاكم، بأن مكانهم الطبيعي هو في صفوف الثوار وفي ميادين المواجهة.

والمؤكد ان إدانة الرئيس سعد الحريري للعنف الذي جرى في وسط بيروت ليلة البارحة، لن تجدي نفعاً في تخويف البيارتة من الغزاة الذين جاؤوا هذه المرة من الشمال والبقاع أكثر مما جاؤوا من مناطق الغالبية الشيعية، التي لم تشعر، كما في السابق، بالاستفزاز لعصبيتها المذهبية عندما بدأت المحاولات لاقتحام ساحة ومقر مجلس النواب، ولم ترسل مواكب دراجاتها النارية لقمع الثوار وتفريقهم، على ما جرى في محطات عديدة في الاشهر الثلاثة الماضية.

ما جرى بالأمس كان طبيعياً جداً، بل هو حق مكتسب، مثله مثل أي شكل من أشكال المقاومة، لقوة_سلطة، تستولي على الدولة وتنحدر بها الى القاع، وتحتل المؤسسات الرسمية وتعيث بها فساداً ما بعده فساد، وتتعمد سرقة لقمة عيش الغالبية الساحقة من اللبنانيين. لم تتمكن الموجة الاولى من الثورة من تحرير الدولة أو أي من مؤسساتها.. ولا هي نجحت في تفجير الصراع بين أهل السلطة وتحويله الى ثغرة لإختراقها وتغيير بنيتها، أو على الاقل فرض بعض الاسماء على لوائحها.

العنف كان عفوياً، لم يستجب لدعوة حزب او تيار او هيئة. لبى نداء الجمهور الذي يغرق في الفقر والجوع. وهكذا استعادت بيروت دورها كعاصمة، طليعة للوطن، وجبهة مواجهة متقدمة وربما وحيدة مع السلطة، التي لا تزال في مرحلة إنكار الثورة والتنكر للأزمة، وهي تحاول ان تكسب المزيد من الوقت قبل أن تذعن لمطالب الشارع الواضحة والصريحة، التي لن تستكين بحكومة مستشارين يشكلها حسان دياب.

قبل البارحة، كان تقييم الموجة الاولى من الثورة، مؤداه أن اللبنانيين إكتشفوا ان المصارف أقوى مما كان يعتقد، وأن الأثرياء أجبن مما كان يتوقع، وأن الشارع، المتفرق والمتقطع، لم ولن يهز السلطة. لكن غداً يوم آخر.

السابق
إيران تضع الصدر على رأس صفقة اختيار رئيس الحكومة العراقية
التالي
هجُوم جديد بطائرات مسيّرة.. قصة القاعدة التي حذفَت روسيا «باسل الأسد» من اسمها!