بصماتٌ لبنانية في سيرة السلطان «الشاطر… الرياضي والمتفوّق والصَدوق»

السلطان قابوس

استطلعت «الراي» الملف المدْرسي لـ«الطالب» هيثم بن طارق آل سعيد في «برمانا هاي سكول»..

… في ملف مدْرسي عمره 50 عاماً لم تَقْوَ عليه نكساتُ الزمنِ اللبناني، ويُشْبِهُ في لوْنه ووقاره المحفوظات التاريخية، فصلٌ من حكايةِ شابٍ يافعٍ جاء من بعيد إلى واحدةٍ من التجارب التعليمية الفريدة في «بلاد الأرز» التي صار اسمُها وقبل مئة عام… لبنان.
إنه سلطان عُمان هيثم بن طارق آل سعيد، الذي تُدَوَّنُ في دفتر حياته إقامتُه في لبنان لعامين يوم كان في مقتبل العمر… جاءَ من المدرسة السعيدية في السلطنة إلى ربوع برمانا الجبلية في العام 1970 وهو في الخامسة عشر من عمره.

اقرأ أيضاً: من عبد الناصر إلى نصر الله: بلاد العملاء أوطاني

كانت عُمان تُدَشِّنُ عصرَها الحديث مع تَسَلُّمِ السلطان قابوس بن سعيد مَقاليد الحُكْم، حين شدّ الطالب هيثم الرحالَ إلى لبنان للالتحاق بـ«برمانا العليا» (Brummana high school)، إحدى المدارس النُخْبَوية التي تَخَرَّجَتْ من على مقاعدها أسماء لمعتْ في عموم العالم العربي كرجالِ دولةٍ ورواد في ميادين الحياة.
سَطْرٌ واحِدٌ في سيرة الرجل الذي تُوِّجَ السلطان التاسع في بلاده جاء فيه «إن هيثم بن طارق آل سعيد تلقى علومَه الثانوية في برمانا العالية في لبنان»، قادَنا للبحث في بداياتِ صاحب الجلالة الذي أُوكلتْ إليه قيادةُ عُمان، المتسارعة الخطى نحو العصْرنة رغم وجودها في «ممرّ الفيَلة».

إلى برمانا العالية، الاسم على مسمى، بلدةً ومدرسةً، اتجهت «الراي» صعوداً نحو «تحفةٍ» في أحضان الطبيعة، تبعد عن بيروت نحو 20 كيلومتراً وتسترخي على علو 750 متراً… خليطٌ جميلٌ من التراث والحداثة جَعَلَ من هذه البلدة في جبل لبنان معقلاً ساحراً للسياحة والاصطياف.
أما «برمانا هاي سكول» فحكايةٌ أخرى تمتدّ لنحو قرن ونصف القرن من الزمن، حين وضع السويسري ثيوفيليوس فلاديمير أول مدماكٍ لصَرْحٍ تعليمي صارت مساحتُه (20 ألف متر مربع) كأنها العالمُ العربي بجهاته الأربع بعدما تحوّلت مقصداً لطلابِ العلم والتفوق والتَمَيُّزِ الذي وفّرتْه هذه المدرسة.

لم نكن نحتاج لثلاث ساعات على ظهْر الخيل للوصول إلى «برمانا العالية» كما جرتْ العادة أيام زمان… اجتزنا الشارع العريض في البلدة، الذي تتراصف على جانبيه المقاهي والمطاعم في انتظار الزوار قبل بلوغ الصرح المُسْتَلْقي في أحضان لوحة خلابة يزيّنها قرميده وبلاطه الأحمر ومبانيه العتيقة.
وفي اللحظةِ التي كان السلطان هيثم يتقبّل التعازي من زعماء العالم وقادته بـ «باني عُمان» السلطان الراحل قابوس، كنا على موعدٍ مع «البصمات اللبنانية» في سيرةِ الرجل الذي تَعَهَّدَ مواصلةَ سياسة سلَفه في الداخل ومع الخارج القائمة على معادلة النهوض والحياد.

… «شاطِرٌ، مُتَعاوِنٌ وصَدوقٌ، علاماته جيّد جداً في السلوك والدراسة»، هذا ما خلص إليه مدير «برمانا العالية» وهو يقلّب بعنايةٍ وحبورٍ صفحات ملف «الطالب» هيثم بن طارق، الذي انتسب إلى المدرسة العام 1970 وغادرها في 1972، وكان مقيماً في القسم الداخلي قبل أن ينتقل إلى بريطانيا لاستكمال دراسته.
صورةٌ شمسيةٌ تتوسّط الملف، علاماتٌ مدرسية، ملاحظاتُ الأساتذة وخلاصاتُ تجربةِ عامين لمَن أصبح بعد 50 عاماً سلطاناً لعُمان… كان رياضياً، متفوّقاً بالعربية،«شاطر» بالفيزياء والبيولوجيا والجغرافيا، نتائجه على الدوام «جيد جداً»… هي العلامةُ الفارقةُ التي رافقتْ ابن الـ 15 عاماً الذي كبر عامين في الربوع اللبنانية.

وفُهم من ملاحظاتِ الأساتذة المُدَوَّنَة في الملف، كما ملاحظات الإدارة أن الطالب هيثم حقّق نقلةً نوعيةً في تجربته الدراسية، سلوكُه جيد جداً، مُتَعاوِنٌ جداً مع المسؤولين عنه، خصوصاً في القسم الداخلي، يحترمهم جداً، كان صدوقاً، لمّاحاً في ذكائه، رياضياً ومٌواظِباً… شهاداتٌ من عائلته المدرسية، كبرتْ به وكبر معها.
ورغم الأيام التي طوت الأيام، استمرّت «برمانا العالية» حاضرةً وغاليةً في ذاكرة هيثم بن طارق، الذي لم يفوّت فرصةَ وجوده في بيروت في العام 2009 كوزيرٍ للتراث والثقافة من دون «زيارةٍ خاطفةٍ» للمدرسة التي أحبّها وأحبّتْه، فعاد إلى أدراجها ومدرّجاتها، إلى ناسها ومَلاعبها وأشجارها.
في زيارته لبيروت العام 2009 وَضَعَ الوزير هيثم بن طارق، يداً بيدٍ مع نظيره اللبناني رئيس الحكومة السابق تمام سلام، يوم كان وزيراً للثقافة، الحجرَ الأساس لدار الثقافة والفنون (المركز اللبناني – العُماني) في وسط العاصمة، في مبادرةِ دعمٍ من السلطنة للبنان والحياة الثقافية والإبداعية فيه.

للرئيس سلام حكايةٌ مزدوجة مع السلطان، الذي كان مرّ على «برمانا العليا» في صباه، وشغل منصب وزير التراث والثقافة. فتمام بك الذي استضاف نظيرَه العماني يوم جاء إلى بيروت، هو رئيسُ مجلس أمناء قدامى مدرسة «برمانا العالية» (انتُخب العام 2019)، وفي جعبته تالياً ما يقوله في الاتجاهين.
… «إنه شخصيةٌ دمثة، عميقة، واثقة ومثقّفة»… عبارةٌ على طريقة ما قَلَّ ودَلَّ، عبّر من خلالها سلام عن خلاصة معرفته بسلطان عُمان الجديد، بعدما كانا وضعا معاً قبل نحو 11 عاماً الحجر الأساس للمركز اللبناني – العُماني في وسط بيروت، وجالا في قلب العاصمة وعلى مشاريعها الإعمارية وزارا مسجد محمد الأمين.
سلام، الذي استضاف الزائر العُماني يومها في منزله على مائدةِ غداءٍ عائلي، كان التقى أيضاً الوزير هيثم بن طارق في مسقط خلال زيارة رسمية للرئيس السابق ميشال سليمان على رأس وفد لبناني رسمي في إطار تعزيز العلاقات الأخوية بين الدولتين والشعبين وتطوير أواصرها.

وروى سلام لـ «الراي» أن وزير التراث والثقافة العُماني حرص يوم كان في بيروت على زيارة مدرسته (برمانا العالية)، وهو الحرص الذي يُخالِجُ غالبية قدامى المدرسة وخرّيجيها الذين يحْفظون لها دورَها في بناء أجيالٍ تلو الأجيال على العلم والقيَم وخدمة المجتمع.
… بين لبنان وعُمان مفارقاتٌ كثيرة. لبنان الذي يستحي حاضرُه من ماضيه لم يعد يملك سوى ذاكرة مضيئة بعدما أطفأ حكّامه الأملَ عندما استسلموا للعنة الجغرافيا ولعبة المَحاور، أما عُمان التي يفاخر ماضيها بحاضرها فجعلتْ من الجغرافيا قيمةً، مضافةً لدورها كـ «ضابِطِ إيقاعٍ» في حيادها الإيجابي.

السابق
السيد محمد حسن الأمين: الإسلام لا يمنع طموحات قومية ضمن دائرته الكبرى
التالي
المرجع السيستاني أصيب بكسر ويخضع لعملية جراحية