الميثاقية: قناع الطائفيات السياسية لحرف الثورات المدنية وتأبيد الطبقة الحاكمة

I – الميثاقية في مرحلة التأسيس: ميشال شيحا شاهدًا

عند كل منعطفٍ تمر به الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان، ولا سيما عندما يستحكم الصراع بين أطرافها ويتفاقم على حلبة توزيع مراكز القرار ومفاتيح أبواب السلطات المؤدية إلى التحكم بقرارات المحاصصة وتوزيع الخدمات والوظائف أو استرضاء سياسات إقليمية أو دولية أو الانصياع لها، يبرز أول ما يبرز سلاح الطائفيات السياسية المسمّى بعلم الكلام اللبناني السياسي “صيغة الميثاق” و”الميثاقية”، فيشهر في وجه بعضهم البعض لتأكيد “الحق الميثاقي” لكل طرفٍ باسم “كامل طائفته” أو “أكثريتها” المدَّعاة. كما أن لهذا السلاح وظيفة أخرى أكثر أهمية ونفعًا: ضبط جمهور الطائفة إذا ما حصل خرق له، واستعادته إلى حظيرة الولاء والطاعة، بل استخدامه قوى مضادّة لانتفاضات مدنية يُعتقد انها تهدد مصالح الزعامة المتماثلة في وعيهم المستلب مع “مصالح الطائفة”، بل مع وجودها ومصيرها كما أوهموا.

فما هو سر هذا السلاح الذي اختبره تاريخ لبنان المعاصر خلال مئة عام، أي خلال حركة قرنية كاملة عرفت مراحل وانقطاعات ومشاهد وتجارب، اختلطت فيها وعبرها التسميات والمصطلحات والعناوين. فمن إعلان لدولة لبنان الكبير، إلى إعلان جمهورية ودستور، إلى استقلال فثورة، فحرب أهلية، أو حروب أهلية، إلى تحرير (بالمفرد أو الجمع).

والحاصل أن لبسًا يتلبّس كل هذه المصطلحات فتختلف معانيها ودلالاتها في الذاكرات الجماعية الطوائفية للشعب اللبناني، فيصار إلى استخدامها في الخطاب السياسي بأوجه مختلفة بل متناقضة، ثم يسكت عليها.

اقرأ أيضاً: بصماتٌ لبنانية في سيرة السلطان «الشاطر… الرياضي والمتفوّق والصَدوق»

ولكن وللمفارقة التاريخية، يبقى مصطلح الميثاق والميثاقية، واحدًا موحدًا في الاستخدام الوظائفي لدى الطبقة السياسية اللبنانية المتشكلة من زعماء ظهروا واستظهروا البأس والقوة والجاه في طوائفهم ويبدو أنهم اتفقوا ضمنًا أو عرفًا أو فرضًا، أن الميثاق يعني في ما بينهم “عقد شراكة” باسم طوائفهم، ويقوم هذا الميثاق كما توهموا وأوهموا طوائفهم أنه هو العقد الاجتماعي الذي يقوم في نظرية “الدولة الديمقراطية” بين الدولة والمجتمع (مجتمع المواطنين).

وبهذا المعنى المحرّف لمعنى العقد الاجتماعي تصرف ويتصرّف اليوم أطراف الطبقة السياسية اللبنانية. فإذا ابتعد أو أُبعد أحد الأطراف عن المشاركة بنصابٍ من أنصبة السلطة (أيًا كانت المرتبة)، فقدت الدولة “ميثاقيتها” أي شرعيتها، وسمح هذا الطرف أو ذاك لنفسه، جَعْلَ مقاطعته أو تخليه عن المشاركة (في برلمان أو حكومة…)، حالةً غير ميثاقية (تنسف ميثاقية الآخر)، الأمر الذي يسمح له بتعطيل أوالية الحكم بشتى الوسائل، بدءًا بالتشكيك بشرعية السلطة أيًا كانت (تنفيذية أو تشريعية أو قضائية) إلى تعبئة جمهور الطائفة التي يتزعمها (أو يهيمن عليها) ضد الآخر المنعوت (مستوليًا أو مستأثرًا أو فاقدًا الشرعية…).

هذا الواقع بدأنا نعانيه ونعاينه، وبشكل درامي يتفاقم بعد العام 2000، وعلى وجه أكثر تحديدًا بعد العام 2005. فهل كان هذا الفهم القطعي الطائفي للميثاق والميثاقية قائمًا قبل ذلك؟.

نرجح أن مرحلة الحرب الأهلية وتداعياتها بعد الطائف (1975-2005)، هي مرحلة وسيطة شهدت خلالها صيغة الميثاق والميثاقية تحوّلًا خطيرًا في معناها ودلالاتها وأشكالها واتجاهات ممارستها الاجتماعية والسياسية والثقافية. ألخص هذا التحوّل انه تحوّل من حالة الميثاقية الطائفية المرنة المنفتحة كإمكان على الأفق المدني – المواطني، إلى حالة الميثاقية الطائفية الصلبة المنغلقة على ذاتها والممتنعة إلى حد كبيرعن التحول إلى اجتماع وطني مدني.

من هنا يسوَّغ السؤال: هل كان هذا الفهم، الأحادي للميثاق والميثاقية، قائمًا في المرحلة التأسيسية، (أي منذ 1943 وحتى 1975)؟ نستذكر من المرحلة التأسيسية بشارة الخوري ورياض الصلح، وميشال شيحا، وهذا الأخير هو أبرز المعبرين عن نظرية الميثاق وفلسفته كما جرى فهمه ومرتجى تطوّره في أفق مستقبلي.

في البيان الحكومي الأول الذي ألقاه رياض الصلح ترد المبادئ والمفاهيم الأولى للميثاق. ومع أن تلك المبادئ انطلقت من “أساس توافقي بين الطوائف”، يأمل رئيس أول حكومة استقلالية في لبنان بما يلي: “إن الساعة التي يمكن فيها إلغاء الطائفية، هي ساعة يقظة وطنية شاملة مباركة في تاريخ لبنان، وسنسعى لكي تكون هذه الساعة قريبة بإذن الله”.

نقرأ أيضًا في أدبيات ميشال شيحا انتظارات في تطوّر تدريجي للصيغة الميثاقية “التشاركية بين الطوائف” لتتحوّل إلى وعي بالمواطنية المستقلة حيث يخرج الفرد من “تبعيته للزعيم”، وتخرج الطائفة من أسر عصبيتها الكلانية. يتساءل شيحا في أحد مقالاته: “متى تصبح البلاد غير طائفية”؟ ويجيب: “يوم تنعقد النية بجد على الا يبقى لبنان بلادًا طائفية، سيكون لزامًا على كل طائفة القبول دون كثير من الصياح، أن يكون تمثيلها في بعض الأحيان أدنى من حجمها، ويكون التعويض جعل تمثيلها أكبر من حجمها في أحيان أخرى…”. ويضيف: “وأي خير في أن تغيب عن الحكومة طائفتان أو ثلاث في وقتٍ من الأوقات”؟ (مقالة: لبنان الطائفي، 1945، في كتاب: السياسة الداخلية”.

بالنسبة لأمل رياض الصلح و”الوعد بما سماه الوقت القريب”، كنا قد علقنا في مقالة قديمة. “لا ندري إن كان اغتيال الرئيس رياض الصلح قد أطاح بتلك “الساعة” الموعودة، أم أن  الطائفية كانت (ولا تزال) أكبر من عزم الإرادات وأصعب من طيب التمنيات وأمنع من احتمال الأمل. ويبدو لي أن محنةً ظلّت قائمة من ذلك الحين وحتى اليوم بين المواطنية والطائفية. وأما النصوص الدستورية والقانونية فتحاول أن توفق بين الحقلين. ولكن يبدو لي أن التوفيق الذي يجري معرفيًا من حقل الاجتماع السياسي – القانوني لدى المشرّع، لا يزال يصطدم بمنطق السلطة وبمنطق الاستقواء بالطائفة لدى زعماء الطوائف وأحزابها وبمنطق الاستخدام الوظيفي والذرائعي الاستنسابي: سواء تعلقت النصوص بنصوص ما قبل الطائف أو النصوص المعدّلة وفقًا”لمبادئ ولنصوص وثيقة الطائف، (من مقالة بعنوان القراءة الاستنسابية للدستور بين حقوق المواطن وحقوق الطائفة 1980 – النهار)_ (نشرت في كتاب المسألة اللبنانية: مقالات في مسائل، 2019). 

أما ميشال شيحا، فإن أمله في حصول تغيُّر في العقلية القائمة بين “السياسي” والمواطن المفترض أو المرتجى (أو المتخيل بمصطلح أندرسن) خاب سريعًا. فبعد سنوات قليلة يكتب شيحا بين أعوام الثمانية والأربعين والخمسين من القرن الماضي مقالات تصل إلى حد اليأس. في مقالة بعنوان “المستوى الخلقي” (1948) يستدخل شيحا معيار الأخلاق في تقييم العمل السياسي، فيتحدّث عن “التقويض الحاصل في العمل السياسي”؛ سبب هذا التقويض علاقة فاسدة تربط بين السياسي و”تابعه”: تتمثل في “تدبر أمر المهرّب، وأمر الموظف الفاسد” لأن هؤلاء “من الذين يضمنون التأييد الشعبي”… ويضيف شيحا: “إذا لم يتحرر اللبنانيون من هذه الوصايات فإنهم يضيعون ثلاثة أرباع حيويتهم وقوتهم”، وإذ يربط رهانه على التغيير ب”الإلزام الخلقي”، يتوجّه إلى الخاضعين لذاك السلوك السياسي، فيقول” ولكنهم على ما يظهر لا يحبون إلا القامات المنبطحة والظهور المنحنية”. ينتفض ميشال شيحا أمام هذا المشهد: “أنا رجل فلان ورجل علان، أيها العبيد وأبناء العبيد، قولوا أنكم رجال مبدأ أو فكرة أو مثل أعلى، أو رجال أنفسكم، ولا تقولوا أنكم مربوطون كما الكلب بزمامه، إلى مصير فلان من الناس أيًا كان”. وفي مكان آخر ينعتهم “بالقطيع” (Troupes). 

يعبر ميشال شيحا في عام 1950 عن هذا التعثر في تصحيح العلاقة بين المواطن (التابع) والسياسي، بقوله: “إذا ظلت نوعية المواطن اللبناني تتردى، فبلادنا هذه لا مستقبل سياسيًا لها…”. ويستشرف ما سيكون عليه رأي المؤرخين في المستقبل في الحال التي يصفها والرجال الذي يتحدّث عنهم، فيكتب بذهنية المستشرف: “الأسباب واضحة للعيان سيكون مؤرخو الغد أبعد عن مودتنا وأقل رأفةٍ بنا من دبلوماسيي اليوم”. فهل كان هذا الاستشراف المستقبلي الذي عبّرت عنه كلمته الأخيرة (توقع رأي قاس من المؤرخين) يعبر عن موقف متشائم بإمكانات التطوير واحتمالاته في لبنان؟؟؟ وقد مضى حتى اليوم سبعون عامًا على هذا الكلام وكأن شيئًا لم يتغير، بل زاد سوءأً! 

يتوقّع شيحا أن يُدين مؤرخ اليوم حال الأمس. لكن ما يلفت في كلام شيحا تلك الأداة الشرطية: إذا ظلّت “نوعية المواطن”… في حين أن مؤرخ اليوم يفضل التعامل البحثي والمعرفي مع الأسباب البنيوية للعلاقات. فإعادة إنتاج علاقات الاستتباع بين السياسي والمواطن، واستمرارها بل تجددها وتمكينها وتعميقها وتوسيعها لتصبح آفةً جماهيرية شعبوية وأداة قمع وتعمية واستلاباً، بل “استحمارًا”، بتوصيف المفكر علي شريعتي، أي استغباءً وتجهيلًا، فإن اللوم الذي ينتظره شيحا من “مؤرخي المستقبل” أي مؤرخي اليوم، يصبح لومًا بسيطًا “للماضي” معقولًا ومفهومًا في زمنه، إذا ما قورن بمدعاة النظر في أحوال الطبقة السياسية اليوم والحكم عليها مقابل ثورة مدنية كانت تبشر منذ أسابيع بخير كبير، وتغيير مرتجى. 

ولكن ما الذي حصل بين المرحلتين، ليسوء الحال ويهترئ، “والناس سكارى وما هم بسكارى”!؟ يتفرجون على أول “ثورة مدنية” يصنعها مواطنون في تاريخ لبنان المعاصر، أقول: “مواطنون” لا رعايا طوائف؛ ذلك أن المتفرجين أو المشككين أو المعتدين من هؤلاء ينطبق عليهم قولة السيد المسيح “لا يدرون ماذا يفعلون” أو أنهم “مستلبون فحسب بأفيون الطائفية” الطائفية التي سمّوها “ميثاقًا” وميثاقية. 

II – الميثاقية بين مرحلتين 

من الطائفية الرخوة إلى الطائفية الصلبة

على ضوء استحضار ذاكرة ميشال شيحا “للميثاقية”، كما فهمها وتمثلها في المرحلة التأسيسية، وهو في الأصل من أهل البيت المؤسس الذي كان يأمل بالتطوير والتجاوز، تستيقظ ذاكرات أخريات عاصرها جيلنا وكتب عن بعضها باحثون وكتّاب وسياسيون كثر: بعضها عُبّر عنه بصيغة “المذكرات” وبعضها الآخر بصيغة مباحث وأطروحات أو مقالات. ومهما تكن أشكال التعبير عنها، وغناها كمصادر للتأريخ للحياة السياسية المعاصرة في لبنان، فإن مقالة “قصيرة” كهذه، لا بد من أن تكتفي بلقطات مشاهد مقارنة بين “زعماء” ما قبل الحرب الأهلية التي اندلعت بدءًا من العام 1975، من جهة (زعماء خمسينيات وستينيات القرن العشرين) وزعماء الحرب الأهلية وما بعدها من جهة ثانية. وموضوع المقارنة ما أضحى يُسمّى على لسان السياسيين وفي طليعتهم جبران باسيل: ” الأكثرية في الطائفة الواحدة”؛ إذ هي “الأقوى” التي تقرر من هو رئيسها” الذي هو حكمًا رئيس أحد أطراف المثلث الرئاسي في النظام السياسي اللبناني.

– في المشهد الأول: صحيح جدًا ما كان يلاحظه ميشال شيحا عن تردّي العلاقة بين الزعيم وتابعه لدرجة أمست فيها علاقة المنفعة الشخصية والعائلية هي أساس معيارية العلاقة المتبادلة؛ وهي التي أدّت إلى تعميم سيستام الزبائنية. غير أن مفهوم الطائفية واستدخاله عنصرًا عقائديًا شرطيًا لإستقامة الميثاقية في شرعية الحكم ودستوريته، لم يكن واردًا آنذاك ولم يكن متصورًا كشرطٍ منوطٍ بزعيمٍ تبايعه أكثرية طائفته بزعامته و”رئاسته” معًا كما يحصل اليوم في أحد أطراف المثلث الرئاسي. ولنلاحظ من المشهد الأول الظاهرات التالية:

– على صعيد رئاسة الجمهورية: لم يدّعِ واحدٌ من الذين تلي أسماؤهم تمثيل الأكثرية في طائفته: بشارة الخوري، كميل شمعون، فؤاد شهاب، شارل الحلو، الياس سركيس،سليمان فرنجية…

– على صعيد رئاسة الحكومة: لم يدّعِ أحدٌ من هؤلاء الذين مروا برئاسة مجلس الوزراء تمثيل أكثرية السنة بدءًا من رياض الصلح، إلى سامي الصلح، إلى تقي الدين الصلح إلى رشيد كرامة إلى صائب سلام إلى عبدالله اليافي وصولًا إلى سليم الحص… 

– على صعيد رئاسة مجلس النوّاب: تناوب عليها: أحمد الأسعد، عادل عسيران، صبري حمادة…

فهل يصح التساؤل ومن قبيل الافتراض أن نسمّي تلك الطائفية – مع نقدنا لها آنذاك وأملنا السابق في تجاوزها – “طائفية رخوة أو مرنة”؟ حيث كان يمكن تجاوزها بإصلاح ممكن؟؟

– في المشهد الثاني: بعد الحرب الأهلية وتداعياتها حتى اليوم تشكل نوع من طائفية صلبة. كان ذلك بفعل الأعمال العنفية والعدوانية المتبادلة بين الميليشيات الطائفية، الأمر الذي أدى وبفعل عوامل أخرى إعلامية وثقافية وسياسية واقتصادية (داخلية وخارجية) إلى تجذر مفهوم أحادي للسلطة التشاركية القديمة – أي مفهوم الميثاقية انبثق بشكل أساسي عن واقع جديد هو التالي: مشاريع زعماء جدد طلعوا من بؤر قيادات شعبوية وأمسى لهم – بفعل عوامل كثيرة أهمها: المال والسلاح – أحزابٌ طائفية وجمهور معوز مستلب، وبيئات طائفية حاضنة. اكتسبت الطائفية الجديدة (النيو طائفية) عبر ذلك أبعادًا أيديولوجية (وأحيانًا عقائدية) تحاكي المفاهيم والمقولات، أو تجنح إلى استخدامها وترسيخها حقوقًا ومكتسبات تاريخية. شجع على ذلك شيوع الإحساس الصحيح أو الموهوم في الوعي الشقي للطوائف أي في مخيالها وإدراكها المتخيل، أن كل واحدة منها “مهددةٌ بالإلغاء” أو “محرومةٌ”، أو “محبطةٌ”. وإذ تنتقل هذه المشاعر من طائفة إلى أخرى، (ولا تزال في حال التجوال حتى اليوم)، تتصلّب أكثر فأكثر “أعصاب الطوائف” وأوتارها، فيحلو “للقائد” آنذاك، وهو الزعيم الجديد، لكنه العارف والملهم والبصير والحكيم والأستاذ أو “الأب” الأدرى والأذكى أن يستخدم الوتر المناسب. وقد أحسن الإعلاميون – في المناسبات – استخدام تعبير “شد عصب الطائفة”. فالشد هنا قوة استقواء بالطائفة من أجل السلطة، والنتيجة يُغيب أو يَغيب “المواطن” ليعود “تابعًا” و”مصفقًا” و”متظاهرًا” و”قاطع طريق”، “وبالدم يفدي زعيمه”، أي “عبدًا محاربًا”، وكما كان الحال في نظام العبودية. وللمقارنة، كان الحال – والحق يقال – أرحم وأكثر رأفةً في عهد ميشال شيحا، فلو قدر لمؤرخ اليوم الذي تخيله ميشال شيحا ناقدًا لمرحلته، أن يخاطبه آسفًا على حال التردي. فـ “التقويض” السياسي الذي شكوت منه يا أستاذ ميشال شيحا، أمسى اليوم “نهايةً” للحياة السياسية اللبنانية برمتها، فتأمّل:

– وزراء الشيعة يستقيلون من حكومة السنيورة؛ إذًا خلل ميثاقي، بل إسقاط للميثاق بغياب أربعة وزراء! 

– يرد السنيورة بدعوة المفتي لأداء صلاة الجمعة في السراي، مقر مجلس الوزراء، باعتبار رئاسة الحكومة منصبًا سنيًا، أيضًا تأكيد ميثاقي سني للشرعية القائمة! 

– يفتي رجل دين شيعي (معمم) بتحريم قبول بديل شيعي في الوزارات الشاغرة وتأكيد أيضًا على صفة “اللاميثاقية” لأي تعيين بديل.

هذا ويتطوّر الأمر إلى تعميم المعيار على كل شيء: في القطاع العام، من تعيين موظف صغير إلى وزير؛ وفي المجتمع والقطاع الخاص، أضحت القيمة والأفضلية لمن ينتظم في قطيع طائفي.

على أنه يبقى “للميثاقية” دورها الأيديولوجي الأخطر: حرف الثورات والانتفاضات والحركات الاحتجاجية عن مضمونها المدني والاجتماعي والمواطني عبر اختراقها أو تفكيكها أو توظيفها لمطالب أو مطامع أو طموحات يُحرص على إدراجها في باب الميثاقية دائمًا وأبدًا. كأن يعود سعد الحريري ليستمر بعد كل هذا، رئيسًا للحكومة بصفته ممثلًا “لأكثرية سنيّة”، أي بالمنطق نفسه الذي تكرّس فيه نبيه برّي رئيسًا أبديًا للبرلمان، وبالمنطق نفسه الذي أتى وفقه الجنرال عون رئيسًا للجمهورية؛ يعني ذلك أن يستمر الحال كما كان عليه، وكأن ما جرى ويجري من انهيارات كارثية، لا علاقة لهم به لا من قريب أو بعيد. بل ان اعترافاتهم بأحقية مطالب الحراك الشعبي واستعداداتهم لتبنيها، تبخّرت، وأضحت المشكلة الكبرى في مطلب “حقوقهم الميثاقية” بعد أن نجحوا في تفكيك أجزاء من هذا الحراك، فمارسوا عليه وعلى جماهيره عبر وحدة الحلف بين الطغمة المالية المصرفية والطبقة السياسية الحاكمة، أبشع أنواع الحرمان والنهب والتعذيب والإذلال. 

كانت تلك على الدوام محنة العمل السياسي في لبنان. منذ صيحة ميشال شيحا “اليائسة” من إمكان التطوير إلى سلسلة من الحركات المطلبية التي تنادي بالإصلاح والدولة المدنية خلال عقود من تاريخ لبنان المعاصر، كانت الأجيال الشابة تتحدى وتطالب وتأمل، ولكن تصدّها لعبة الميثاقية. 

فهل سيكون مصير ثورة 17 تشرين مصير غيرها من الاحتجاجات؟

أرجح أن تلك بداية لمرحلة جديدة يقوم فيها جيل جديد متجاوز للطائفية ثقافةً وتطلعًا وتكوينًا، يقوم بتأسيس مشروع جديد للبنان، بنت لبنته الأولى ثورة الشباب والشابات وبأسلوب القلب والعقل معًا، وبأسلوب الحب والمعرفة معًا، وبأسلوب الجمال وروعة التعبير معًا. إنها وكما عبّر عن ذلك كثر “ثورة قيم وأخلاق”. أما المشاهد الظرفية لهذا الحراك، فكانت من قبل، هامشيته والمؤكد من جراء اختراقات طائفية حاولت استثماره. 

الرهان أن يبقى الحراك وشبابه وشاباته عينًا ساهرة وعقلًا مفكرًا وناقدًا ومبدعًا وملاحقًا، وموحّدًا على قاعدة التنوع، ومنسجمًا على طريق الثورة التي أطلقها. وعمر الثورة لا يقاس بأيام وشهور ولا سنوات. المهم بل الأهم أن قناع “الميثاقية” الذي هو الاسم الآخر للطائفية، سقط بفضل الثورة وانفضح الوجه القبيح، القبيح جدًا جدًا: “القبيحون كلن يعني كلن”. 

السابق
الافراج عن جميع موقوفي مظاهرات الحمرا والمزرعة.. بإستثناء هؤلاء!
التالي
لقاء مالي «ثلاثي» في بيت الوسط.. والحريري: من حارب الحريرية السياسية أوصل البلد إلى هنا!