الثورة تُدحرج «الرؤوس الحامية».. والحكومة بخواتيمها!

جسر الرينغ

أبشروا إيها اللبنانيون الأحرار، فقد تكللت جهودكم أخيرًا خلخلةً في أساس منظومة الفساد، وأبشروا أيها الثوار فقد أثمر تعبكم فَرْض تنازلات على القوى المتعجرفة والرؤوس الحامية، وأصبتم ركاب الرباعي “نصر الله – بري – باسيل – الحريري” بالارتجاف، فامضوا لا بُحَّت حناجركم ولا كلَّت هممكم ولا ضَعُفت عزيمتكم ولا أخطأت حكمتكم ولا خاب سعيكم.

اقرأ أيضاً: الجولة الأولى إنتهت.. اليكم حصيلة الإستشارات النيابية

وأخيرًا حسم رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري موقفه برفض التكليف، ولم يبح بمن سيسميه في الاستشارات. ليس موقف الحريري سوى واحد من مسلسل التنازلات التي قدمها السياسيون كافة أمام ضغوط الثورة المجيدة التي تطوي يومها الثالث والستين. تنازُل مزدوج تجلّى في تخلي “حزب الله” عن الشريك المسيحي الذي وقف إلى جانبه في أصعب أزماته، رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل لأجل الحريري، وفي انسحاب الأخير بعد أن فهم من اجتماعه بوفيق صفا بوضوح أنه بات عبئًا على الحزب، وخصوصًا بعد أن طاولت حزمة العقوبات الأميركية “مقرّباً” منه هو طوني صعب، في ترجمة لكلام مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر بأنّ “كلّ من يتورّط في تمويل حزب الله معرّض للعقوبات”، ما أشعره بنصل سيف العقوبات ينحرف نحو رقبته، وبأنه بات منبوذًا أميركيًا بعد استثناء هيل إياه من سلسلة لقاءاته مع المسؤولين اللبنانيين، في رسالة أميركية واضحة برفض اشتراكه في أي حكومة جديدة. وبذلك، تكون الرياح باعتذار الحريري قد سارت بغير ما تشتهيه سفن حزب الله، بعد أن بات مباشرة في وجه المجتمع الدولي إثر شعوره بمساحة الأمان طوال شهري الثورة، التي حيدت في بياناتها الرسمية سلاحَه، وبالتالي عطّلت هذا السلاح عن الاستعمال أو فرض أي حلول لتغيير المعادلة أو لاتفاق دوحة جديد، وانقلب أمانُه بعكوف الحريري خساراتٍ مضاعفة، أذ أصبح فاقدًا للسد (الحريري) الذي كان يُعِدّ لنصبه في وجه الحصار الدولي عليه الذي انجرَّ على الدولة اللبنانية بكاملها، وعاد إلى الشعور بالتهديد الشديد بفقدان بيئته نتيجة التدهور الاقتصادي المستمر والعقوبات الأميركية على إيران وتهديد موارده المالية التي يجنيها بالأمر الواقع من مؤسسات دولة شارفت على الإفلاس، كالمرفأ والمطار والمعابر غير الشرعية، كما فقد غطاءه المسيحي الذي لطالما اعتمد عليه في محنه.

أما تنازُل قطب “الثنائي الشيعي” الآخر، رئيس مجلس النواب نبيه بري، فتجلّى بوضوح شديد في لقاء الأربعاء النيابي، إذ قال في الشأن الحكومي: “موضوع الحكومة أصبح كيانيًّا وتنبغي مقاربته بتقديم التنازلات”، معلنًا “رفع الغطاء السياسي والتنظيمي” عن عصابات مؤيديه الذين أشاعوا الفوضى والدمار والحرائق، وأن “مكان الاستشارات الطبيعي هو المؤسسات وليس تأجيج الصراعات وتفخيخ الساحات”، داعيًا “الجميع الى الإقلاع عن الهوبرة والمكابرة والإنكار، وإلى نزع عوامل التعطيل وعدم التقليل من خطورة الوضع اذا بقيت الامور على حالها”. وفي تنظير مضحك مبك، حذّر مَن جَهَرَ أنصارُه في جميع “غزواتهم” بشعار “شيعة شيعة” من “الشعارات المذهبية (؟!!) والواقع المرير والمشاهد المخيفة”، داعياً الأجهزة الأمنية إلى “ملاحقة مثيري الفتنة ومؤججيها”.

لقد شكل ثبات المجتمع الدولي منذ 17 تشرين على مطلبه بإصلاحات حقيقية اصفافًا غير مباشر إلى جانب الثورة، كما أن هذا المجتمع قد يكون اقتنع بأن نجاح الحريري في تشكيل حكومة بات مستبعدًا، نظرًا إلى رَفْض الحزبين المسيحيين الرئيسيين تسميته إضافة إلى تنازلاته المتكررة أمام “حزب الله”، والأهم عدم مقبوليته لدى الثوار.

ومع الإرهاصات الواضحة على فرض عقوبات على حليفَي “حزب الله”: “التيار” و”حركة أمل”، لا يبقى أمام الرئيسين اللذين يرأسانهما ويمسكان بمفاتيح التغيير الحقيقي، ميشال عون ونبيه بري، وبالطبع بقيادة عصا المايسترو الإيراني الذي يتميز بسياسة النفَس الطويل من ورائهما، سوى خيارين لا ثالث لهما: إما الانحناء أمام العاصفة في لبنان والتظاهر بالموافقة على حكومة مستقلين بشرطين جازمين هما عدم إجراء انتخابات مبكرة وعدم البحث في قانون انتخابي جديد، ثم محاربتها ومشاكستها عبر المجلس النيابي الذي يملكون وبقية فريق الممانعة الأكثرية فيه، ولن يسمحوا لها خلال عملها بالوصول إلى حيتان المال الكبار، وربما يجعلون صغارها كبش فداء لذر الرماد في عيون المجتمع الدولي، كما حصل أمس مع إعلان وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال ألبرت سرحان في تغريدة على حسابه عبر “تويتر”، أنه “اتّخذ اليوم قراراً بوقف قاضٍ عن العمل”، وتعطيل أي قرار جدي لبناء الدولة بهدف إظهار عجز الحكومة وإعادة تلميع صورتهم مع الزمن، أو أن يسيرا في الخيار الثاني (وخصوصًا في ظل التحسن الطفيف في العلاقات الأميركية – الإيرانية) المقصود به أولًا تحدي الموفد الأميركي دايفيد هيل في حال كانت زيارته لإبلاغ المسؤولين بأن العقوبات الأميركية على “حزب الله” مستمرة مهما كان تأثيرها في الاقتصاد اللبناني ومعيشة اللبنانيين، وفق معطيات وصلتهم، وثانيًا إبلاغ من يعنيهم الأمر بأنهم لا يزالون يملكون مفاتيح قوة سياسية كثيرة، المتمثل في تكليف شخصية من هذا التوجه (على الأرجح حسان دياب) تشكيل حكومة اللون الواحد بعد جمع أصوات نواب حزب الله وأمل والتيار الحر واللقاء التشاوري والمردة والمستقلين المؤيدين لـ8 آذار في الاستشارات (وهو ما اشتُمّت رائحته من تغريدات نواب “التيار الحر” ووزرائه عقب اعتذار الحريري مباشرة، كتغريدة النائب سيزار أبي خليل “الترشح او الانسحاب شأن وقرار خاص اما تحديد موعد الاستشارات، التي طلبتَ تأجيلها مرتين، فهذه صلاحية رئيس الجمهورية”، وتغريدة الوزير سليم جريصاتي “عذرا دولة الرئيس لا يعود لك الإصرار على الاستشارات وعدم تأجيلها فهذا اختصاص حصري لرئيس الجمهورية، بحسب الدستور، وانت تشكو دوما من تجاوز مزعوم لصلاحياتك”)، وهي حكومة ستضم على الأغلب باسيل وإلياس بوصعب، بعد أن أقيمت الحواجز الخرسانية في محيط مجلس النواب وأعطيت الأوامر للجيش والقوى الأمنية بقمع أي احتجاج للشارع ولو بالقوة، ومحاصرة الثوار داخل الساحات بعصابات البلطجية التابعين لهذه الأحزاب في أماكن ضيقة يصعب التحرك فيها أو الالتفاف عبرها.

وبذلك يكون الرئيس الحريري صاحب الفاتورة الأكبر جراء انخراطه في التسوية الرئاسية التي تسببت بخسارته شعبياً ونيابيًّا أولاً ونتيجة التساهلات والتنازلات التي تلت هذه التسوية ثانيًا، والتسريبات التي أفادت بـ”عدم رغبة” أميركية- أوروبية- خليجية في عودته ثالثًا، ما قد يجعل مصير حياته السياسية على المحك.

اقرأ أيضاً: لبنان… الحريري انسحب لغياب ضمانات تأليف الحكومة بعد التكليف

سؤال يطرح نفسه في الختام: إذا قررت الرؤوس الحامية الكبيرة السير في شوط التحدي إلى النهاية إذا لم تفلح حيلهم ومناوراتهم وأصرت الثورة على إقصائهم من المشهد، فهل يبقى السياسيون المحيطون بهم في اللعبة الخطرة، وخصوصًا أن مسلسل الإغراءات لإبقائهم عبر غض النظر عن نهبهم المال العام قد أشرف على حلقته الأخيرة، ونظرًا إلى إنّ عدداً كبيراً من هؤلاء يحمل جنسية أخرى إلى جانب اللبنانية وحسابات في مصارف أوروبية، وهو ما قد يدفعهم إلى التفكير ألف مرة قبل الانخراط في مواجهة غضب الشعب في الداخل والمجتمع الدولي في الخارج، واضعين عينًا على ولاءاتهم وعينًا على إمكان خسارة مكتسباتهم، فينسحبوا بهدوء وينسل بانسحابهم الغطاء من تحت أرجل السياسيين الذين ما فكروا يومًا بمصلحة لبنان ويقودونه اليوم إلى التهلكة؟
ستبدي لنا الأيام ما كنا نجهل، وسيأتينا بالأخبار من لم نزوّد. 

السابق
الجولة الأولى إنتهت.. اليكم حصيلة الإستشارات النيابية
التالي
«الكتائب» تُسمّي نواف سلام.. لهذا السبب