الزحف إلى القصر بديلاً من الانتحار

ظهرت في الأيام الأخيرة مخاوف لدى المنتفضين اللبنانيين من أن يُصاب الشارع المنتفض بالتعب بعد نحو 50 يوما من التظاهر، وفي المقابل بدا أن السلطة تنتظر ذلك، وتستثمر الوقت لحلوله عبر البطء القاتل والبليد الذي تعاملت به مع مطالب الناس. وهو بطء متعمد وظيفته امتصاص وتيرة الغضب، لكي يتاح لسكان القصور الرئاسية استئناف مهمتهم المتمثلة بسرقة ما تبقى من أصول الدولة.

والحال أن ما جرى في لبنان في السنوات الثلاث الفائتة، وكان أُسس له في العقدين الفائتين، بدأ يتكشف، ولن يساعد على الطلب على التعب والإرهاق، لا بل أنه سينقل مزاج المنتفض اللبناني من موقع المتحمس للتغيير والمنخرط في فرصة لجعل بلده مكانا أفضل للعيش، إلى موقع من شعر وعايش حقيقة تتمثل في أنه ليس حيال سلطة فاسدة وفاشلة ومرتهنة فحسب، إنما حيال سلطة سرقته بالمعنى المباشر. سلطة مدت يدها على مدخراته التي لا يملك غيرها ليُكمل ما تبقى له من عمر يعيشه.

هذا ما جرى حرفيا وليس مجازيا. فهناك أكثر من مليون حساب مصرفي في البنوك اللبنانية معظمها لصغار ومتوسطي الدخل، أقدمت المصارف على إقراضها لمصرف لبنان في مقابل فوائد مرتفعة وصل بعضها إلى 40 في المئة! والفارق الهائل بين الفوائد التي تقاضاها المودع وبين الفوائد التي تقاضاها المصرف تحول إلى أرباحٍ مذهلة لمصلحة المصرف.

اقرأ أيضاً: حكومة الظل كمطلب للثورة

قصر بعبدا الذي تتركز فيه السلطة لن يكون بمنأى عن غضب المتظاهرين

وفي هذا الوقت كان مصرف لبنان يقرض الدولة الفاسدة والفاشلة والمرتهنة الودائع التي صارت بحوزته. إلى أن حان موعد الإفلاس، وأعلنت المصارف لمودعيها أنه لا يمكنهم التصرف بودائعهم، وأن دولتهم أكلت مدخراتهم.

تولت هذه العملية تمويل نظام سياسي وظيفته الرئيسة احتضان الموقع الإقليمي لدولة “المقاومة”، وهو ما يفسر صمت “حزب الله” عنه، وقبوله بحفلة نهب المواطنين التي كانت تجري تحت ناظريه، كما تولت تمويل آلة الفساد الحريرية التي كانت شريكة الحزب في السلطة وفي فسادها، أما الشريك الثالث فتمثل بنخبة سياسية مسيحية قدمت إلى السلطة في العام 2005 وانغمست في الفساد حتى أذنيها محاولة تعويض ما فاتها من غنائم خلال سنوات الإقصاء، ونعني هنا طبعا التيار الوطني الحر.

هذه المعادلة صارت حقيقة في الشارع المنتفض. وقائع من نوع أن المصرف قامر بودائع الناس، وأن السلطة ابتلعتها، هي اليوم قضية غير مختلف حولها عند جميع الشرائح في لبنان. المهمة كانت تمديد عمر “دولة المقاومة وريوع الفساد” ولا شيء آخر، وما ينتظر اللبنانيين في الأيام والأسابيع القادمة ليس حكومة تتصدى لحال الإفلاس والانهيار، بل مزيدا من الوقائع الكارثية.

فعدد المصروفين من أعمالهم، ويقدر اليوم بنحو 130 ألف عامل وموظف، سيتضاعف في الأيام القادمة، وسيترافق مع تضاعف في عدد المنتحرين. مدارس ومؤسسات تعليمية واجتماعية واقتصادية ستقفل أبوابها، وهذا ليس تبشيرا بالكارثة بل هو إعلان عن بدئها.

ستستعيض التظاهرة عن الطلاب والناشطين بغاضبين من نوع آخر، وسيتصدرها من تولت السلطة سرقته بالمعنى المباشر، وهذا ما سيرشحها لأن تكون أكثر عنفا وأكثر إصرارا على الصدام المباشر مع وجوه السلطة ومع مؤسساتها وأحزابها.

وفي هذا الوقت سيتولى الفشل والعجز عن معالجة الكارثة بحكومة أو ببرامج، إنضاج المهمة. وما سيضاعف من شعور الناس بضرورة الانقضاض على هذه الطبقة الحاكمة هو تحققهم من أن السلطة ترفض السير بخطة إنقاذ قد تساعد الناس على التقاط أنفاسهم، ذاك أن هذه الخطة تقتضي أن يدفع النظام أثمانا ما زال يعتقد أن بإمكانه تفاديها.

عودة الناس إلى بيوتها ستكون بمثابة عملية انتحار جماعي

اقتطاع أرباح المصارف خلال السنوات الثلاث الفائتة ما زال غير مطروح، وحكومة من دون “حزب الله” تستطيع إقناع المانحين الدوليين والعرب بضرورة إنقاذ لبنان أيضا تبدو اليوم مستحيلة، وقانون انتخابات عادل ينتج طبقة سياسية تبعث على الثقة أمر غير وارد!

وأكثر من ذلك بدأ ينكشف، ذاك أن كلاما عن أن مرحلة تصريف الأعمال ستكون طويلة، وهي خيار “حزب الله” ورعاته الإقليمين في لبنان وفي العراق، وهذا ما يعني أن ظاهرة الانفصال عن الواقع تتعاظم لدى سكان القصور الرئاسية، وأن الخدر الذي خلفه تراكم الأموال في خزناتهم قد وصل إلى خلايا أدمغتهم.

إذا عودة الناس إلى بيوتها ستكون بمثابة عملية انتحار جماعي، وهو انتحار باشره لبنانيون قبل أيام، إلا أن الانتحار فعل استثنائي في لحظات الاحتقان، ولا تقدم عليه إلا نسبة قليلة من المصابين بالكارثة. البديل سيكون الشارع، وقصر بعبدا الذي تتركز فيه السلطة لن يكون بمنأى عن غضب المتظاهرين.

السابق
«أحد الغضب»: الحراك الشعبي لن يقف مكتوف اليدين!
التالي
بالصورة.. احراق خيمة الثورة في تعلبايا