ثورة لبنان تدخل التاريخ

التظاهرات في لبنان

لابن خلدون رأي في قيام السلطان ونشأة الدولة السلطانية مفاده أن العصبية والدعوة الدينية، عنصران يتكاملان منهجاً ووظيفة، حيث أن العصبية بتكوينها الأولي القبلي أو العشائري لا تحوز الغلب إلا باستتباعها قبائل أخرى تنتسب لها عضويًا أو وهمًا، والأغلب مصلحةً، لكنها وفي كل الأحوال، لا بد لها من “دعوة دينية” تستقوي بها “فتزيدها قوةً على قوة”. ولا بد من التذكير هنا بأن هذه الثنائية القائمة بين “الملك والدين”، أي بين السياسة والدعوة الدينية، كان قد سبق إلى التأسيس النظري والتطبيقي لها الملك الساساني أردشير والذي دخلت نصيحته المعروفة ب “عهد اردشير” في النصوص التراثية العربية كأسلوب حكم وطريقة. وتتلخص بمعادلة جدلية عُبّر عنها بأن “التملك والدين توأمان” يحتاج الواحد منها للآخر، كي لا يفلت الدين من حوزة المُلك، فتستخدمه “قوى مستسرّات” على حد قول أردشير.

عندما يستحضر الباحث النصوص الكثيرة التي زخرت بها كتب الفقه وكتب “مرايا الأمراء والملوك”، ولا سيما تلك التي شكّلت مراجع مرشدة وناصحة للسلاطين والأمراء، يتوصل أولاً بأن “ثقافة سياسية” سادت في حقبة قديمة من التاريخ الإسلامي يمكن تسميتها “بالثقافة السلطانية”، ثم يستدرك ثانياً، بأن “ذاكرة تاريخية” لا تزال تحيا أو يعاد إحياؤها في الزمن العربي والإسلامي المعاصر، وبأن أحزابًا دينية حاكمة أو أحزابًا دينية معارضة (سراً أو علناً) تنتظم بوعي أو بغير وعي في بنيةٍ ثقافية كامنة لا تلبث أن تطبقه كظاهرة اجتماعية – سياسية، تفرض نفسها على الواقع الاجتماعي المفكك والحياة السياسية الشاغرة وفي زمنٍ غير زمانها.

وهكذا بين وهابيةٍ سعودية تحاول فرض نفسها في العالم الإسلامي (السني) بوسائل كثيرة أخطرها في المجال الثقافي، منشورات التكفير واعلامه والدعوة إلى مذهبية إسلامية أحادية، كان من “إنجازاتها” المباشرة أو غير المباشرة ظهور القاعدة وداعش والنصرة، وخلايا أخرى.. وبين ولاية فقيه مطلقة إيرانية، احتكرت التشيع ونطقت باسم الشيعة في العالم، وحوّلت بعضهم إلى عساكر وجيوش، كما احتكرت “الثورة” و “المقاومة” على طريقتها ووفق أجندتها وأهدافها الإيرانية… فبين هذين التيارين أو المدّين التسوناميين، غرقت بلدان من العالم الإسلامي وخلال عقودٍ لم تنته بعد، بدوامة من العنف والحروب الأهلية والإقليمية، دمّرت كل ما في مجتمعات تلك البلاد من مظاهر حياة بشرية وحضارية، حتى ليتساءل المرء هل هي النسخة الإسلامية للحروب الدينية المسيحية الأوروبية التي انفجرت في القرن السادس عشر؟ وكما كاد يحصل أو حصل في العراق وسورية واليمن ولبنان؟ 

تلك مخاطر كنّا نخشاها فعلاً ونحن نشاهد الموت ونشم رائحته قريباً منا، ونعاين مأساة المهاجرين والنازحين والأطفال والمطمورين تحت الأنقاض أو المختنقين بغاز الخردل، أو الأطفال الغرقى في بحرٍ كان “متوسطاً وأبيض”، في حين حوّلته نتائج الحروب إلى مكباتٍ بسبب استنكاف الطبقات الحاكمة المستفيدة من هذه الحروب وتسوياتها عن أن تعالج “زبالتها” فترميها وتطمرها في البحر “لتحوّلها” إلى “أملاك بحرية” مُدرّة، هي وغيرها من المرافق، لثمار نهب غير محدود، ومن غير حسيب أو رقيب أو وازع أخلاقي، وكما جرت في لبنان في ظل شعار البناء والإعمار. 

وإذ تتشابه الأحوال العربية، أقله في مشرق عربي ممتد من العراق إلى سورية إلى لبنان، تختلط التعابير عن المأساة “الواحدة” فيذهب التعبير بنا إلى دمج الأوصاف واشكال المعاناة لأن الأسباب واحدة والنتائج واحدة فتعليلها أو تحليلها يصبح متشابهاً بل واحداً. 

اقرأ أيضاً: الثورة اللبنانية في سياقها العالمي: حدود الاهتمام

ألغت أنظمة الاستبداد والعسكريتاريا والأحاديات الدينية المذهبية وأنظمة الطائفية الزبائنية الحياة السياسية في بلدانها، فتحوّلت السياسة إلى ولاءات استتباع وتحوّلت المواطنية إلى حالة ضياع تجاذبتها هوياتٌ فرعية عائلية أو سلفية أصولية طائفية، أو هروبٌ إلى هجرةٍ يُؤمل منها عملاً أو كسباً، أو مواطنية أخرى تُعوّض التهميش والإذلال أو الأذى وربما القتل أو الإخفاء (حسب الحالة). 

في لبنان: نظام الطائفية – الزبائنية قسّم المجتمع اللبناني طوائف مغلقة وحاول أن يجعل من المواطنين “زبائن” بأسعار مختلفة حسب المواقع والوظيفة، بدءاً بالحاجب إلى حمّال المطار إلى الموظف الصغير إلى أستاذ الجامعة وعميدها ورئيسها صعوداً إلى المدير العام إلى السفير إلى الوزير… أما إذا اتخم قطاع الوظيفة في هذا النظام – في العام وفي الخاص – تُرك جمهور العاطلين عن العمل كماً مهملاً ولكن جمهوراً قابلاً للاستيعاب تُنفخ في عواطفه مشاعرٌ هي خليط من خوفٍ وحقدٌ، خوف من “الطائفي الآخر”، وحقد واستعداد للانقضاض عليه كلما زينت له الزعامة الطائفية “أن مؤامرة تحاك على الطائفة، وأن سبب مشكلته الاجتماعية تقع دائماً في المعسكر الآخر. 

نظام الطائفية – الزبائنية عجز أيضاً أن يحمي لبنان من اعتداءات إسرائيل ومطامعها في مياهه. وكان ذلك يقوم على معادلة مُذلّة سمّتها أحزاب يمينية في السلطة بصيغة قوة لبنان في ضعفه، وكان ذلك في ظل تقاسم للسلطة تراتبي بين زعماء الطوائف، وتوزيعٍ للأدوار والمواقع مضبوطٍ بسقف خارجي وموزون بميزان المصالح المتفاوتة كماً ونوعاً. 

إذاً تقاسم غير متوازن ما لبث أن انفجر في حرب أهلية تجاذبت ايقاعاتها واتجاهاتها أطرافٌ إقليمية ودولية، حتى انتهى الأمر، وبعد مسارٍ طويل دموي، إلى دكتاتورية وصايةٍ سورية ثبتت بل عمّقت هيكلية القسمة الطائفية والزبائنية واستخدمت أبشع وسائل الترهيب والترغيب وأحطها وأحقرها فساداً وإفساداً في هذا النظام. بل كان أسوأ وأخطر ما قامت به هذه “الوصاية” وخلّفته في الحياة السياسية اللبنانية تجميد وتعطيل أهم بندٍ من بنود وثيقة الطائف وهو: إلغاء الطائفية السياسية حيث دخل هذا المطلب في مقدمة الدستور اللبناني وفي النص المعدّل للمادة 95. ولكن للأسف توافقت منظومتا الفساد (السورية واللبنانية) على هذا التجميد حتى كاد أن يُنسى أو يُتجاهل. أما إذا ذُكر به سارع أهل السلطة اللبنانية، (حتى بعد الانسحاب السوري وإلى اليوم، بل وحتى الذين طالبوا ودعوا إلى إلغاء الطائفية السياسية) إلى القول جهراً أنه غير مناسب، أو غير ملائم. وفي طليعة هؤلاء حزب الله. 

وإذ نشير هنا إلى حالة لبنان – مثلاً أو استطراداً – فلأن لبنان كان مختبراً لفحص التناقضات العربية – العربية وساحة صراع بديلة من ساحاتها وميادينها تُهرب إليه تناقضات الأنظمة العربية ومشاكلها ومآزقها. أما وقد انفجر غضب الشعوب العربية بدءاً من العام 2011 وعبّرت هذه الشعوب عن غضبها في ميادينها وساحاتها، أضحى للثورات العربية معنى آخر، معنى جديداً، معنى الاستقلالية عن المحاور والتدخلات الأجنبية والتركيز على أولوية الوطن والإنسان، كما أضحى للانتفاضات اللبنانية خاصة معنى خاص، لقد اكتسبت الثورة في لبنان معنى جديداً ومميزاً، سواء سميناها حراكاً، أو احتجاجاً أو أي تسمية أخرى. الأهم مضمونها وفي ما حملته عفوية الناس المحتجين وعبّرت عنه بهتافاتها وشعاراتها وسلوكها وقيمها وروحيتها. فماذا نسمي كل هذا؟ وماذا تحمل؟ 

“إنسانيات” “مدنيات” “أخلاقيات”، انها كل هذا، وهي إذ لا تحيل إلى معنى “القومية الشمولية” ولا لأية قومية أخرى، ولا إلى خصوصيات ماضوية أصولية (لا تاريخية) مستحضرة قسراً من تاريخ مضى للتبرير أو الأدلجة عبر  خلط الأزمنة، كما هو الحال مع الفرعونية أو الفينيقية أو البابلية أو الآشورية…الخ. بل انها تنبع من معايشة زمن جديد “حاضر” يُحضّر لقطيعة قادمة مع عقليات وذهنيات وسياسات قديمة وتهيئ لإرهاصات قادمة ستحملها “حركة مدنية”، تبدو ملامحها اليوم ظاهرة في الوعي الشبابي والإرادة الصلبة والمشاركة النسائية الواسعة، بل القيادة النسائية التي أعطت للثورة ميزتها الكبرى، فأضافت إلى جديد الثورات العربية أي “الربيع العربي” – لكي لا ننسى – بعداً مميزاً، بعد الولادة المتجددة من ربيع إلى ربيع… 

هذا البعد يصعب أن يدركه من حبس نفسه وحبس أتباعه في عهود وولايات، وأصوليات وقوميات شمولية وسلفيات أحادية، فمن عهد أردشير إلى عهد خامنئي ومن زمن الفتنة الكبرى في الإسلام المبكر إلى زمن الفتنة الكبرى بين التكفيريين والتخوينيين في الإسلام المعاصر، يبدأ عهد جديد وزمن جديد. قد يتعثر العهد الجديد وقد يطول، لكن زمنه لن يتوقف، رغم التهديد والوعيد. وأمثولة كربلاء المعاصرة والنجف الشريف الحديث عبرة لمن اعتبر، وطرابلس “عروسة الثورة” كما سميت بحق، عبرة أخرى.  

السابق
قطع للطرقات في طرابلس واعتصام امام البلدية
التالي
«هدر و​اختلاس​ الأموال العامة».. الادعاء على مدير مستشفى بيروت الحكومي وموظفيَن!