في هلوسات أعداء الثورة

بات يصعب العثور على خبر أو تقرير أو تحليل أو رأي، في الصحافة الاجنبية او حتى الصحافة العربية، عن ثورة لبنان المذهلة، التي غطى الاعلام الخارجي  أيامها الاولى، بحماس شديد وتركيز لافت على علاماتها الفارقة، من كسر الحاجز الطائفية الى خرق المحرمات السياسية الى دور المرأة اللبنانية الرائد والمميز، الى الشعارات والهتافات والشتائم، وبينها الشتيمة الاشهر التي صارت نشيداً وطنياً ثانياً، وأنشودة عالمية ترجمت الى معظم لغات العالم.  

لم يكن ذلك الغياب اللبناني شبه التام عن صحف العالم وشاشاته المختلفة، وليد موقف سياسي، او توجيه رسمي، او تقدير خاطىء. المعيار المهني ولا شيء سواه هو الذي شرّع صرف الانظار عما يدور في العاصمة بيروت وكبرى المدن اللبنانية بلا إنقطاع، طوال الايام الـ48 الماضية من عمر ثورة جرت فيها مياه لبنانية كثيرة، وفاضت أثناءها شوارع العراق وإيران وغزة وليبيا بالدماء والدموع، والاخبار العاجلة.

اقرأ أيضاً: لبنان أسير «مثلّث الفواجع» فكيف… ينجو؟

خسر لبنان المنافسة على صدارة الاخبار العربية والعالمية، لكنه حقق ربحاً صافياً لم يسبق له مثيل، عندما إنطوى على نفسه وشرع في التفكير بشؤونه الخاصة، من دون أن يستدعي ، للمرة الاولى في تاريخه، أي طرف خارجي للتدخل، كما جرت العادة.. وثمة من يجزم بأنه ليس هناك مثل هذا الطرف الذي يقدر او يرغب بالتدخل في شأن لبناني محلي جداً، تفصيلي جداً.. لم يغامر أحد من الخارج في تصنيفه ثورة أو إنتفاضة، على الرغم من أن البعض أدرجه، بتحفظ شديد، في فصول الربيع العربي.

رغم أنف ذلك الاعلام العربي والعالمي، هي ثورة في الوعي الوطني اللبناني، وثورة في الثقافة السياسية اللبنانية، وفي السلوك الاجتماعي اللبناني. لكنها ليست كذلك، وفق ابسط الحسابات الخارجية وأدقها: فهي لم ولن تضع على جدول أعمالها السياسة الخارجية اللبنانية، التي تعتمدها السلطة، والتي لا تقل سوءاً عن سياساتها الاقتصادية والصحية والتربوية الداخلية. وهي لم تدرج على سلم أولوياتها، أيا من الملفات الخارجية المتفجرة، بدءاً من العلاقة مع سوريا، والعداء لاسرائيل، والتفاهم مع إيران، والتقارب مع الخليج العربي، وصولا طبعا الى التعامل مع أميركا وفرنسا.

لكن هذا الاستثناء اللبناني، المنقطع عن تجارب الماضي القريب والبعيد، والذي يمكن ان يضيف الى الثورة مصدراً مهماً للفخر، ما زال يثير حنق بعض اللبنانيين، المسيسين أو الموجهين من الخارج،  وإستغرابهم، وإنكارهم الشديد أن يكون لبنان فقد منذ عقود، قيمته – وظيفته الخارجية التقليدية، ولم يعد مغرياً أو جذاباً لأحد في الخارج، ليس فقط للمسؤولين العرب والاجانب بل أيضا للمفكرين والباحثين وحتى الصحافيين، الذين يبحثون دائما، عما يثير إهتمام جمهورهم، الذي طرح في البداية سؤاله عما إذا كان الحراك اللبناني اللافت، صدى لأي صراع إقليمي، إسرائيلي إيراني سعودي، أو عما إذا كان ذلك الحراك يتقاطع مع الثورة الشعبية (الشيعية) العراقية التي باتت توجه غضبها ضد نفوذ إيران المفرط ودور حلفائها الأشرار.

من اليوم الاول للثورة اللبنانية كانت شبهة الارتباط بالخارج ولا تزال، هواية فريق من اللبنانيين المعادين لها، والذين يدعون المعرفة والخبرة في بواطن الأمور الدولية والاقليمية. وهكذا تم إختراع مبادرة فرنسية غير موجودة ومساعي بريطانية غير متمكنة ووساطات عربية غير متاحة، ومؤامرة أميركية غير واردة ألصقت أولا بالسفير المتقاعد جيفري فيلتمان، ثم أحيلت مؤخراً الى صهر الرئيس الاميركي جاريد كوشنر الذي صار رئيساً للجنة رباعية تدير الملف اللبناني.. برغم أنه أُبعِد نهائياً عن جميع ملفات السياسة الخارجية الاميركية، ومنها إيران طبعا، لأسباب لا تنحصر فقط بحاجة عمّه الرئيس دونالد ترامب الى كل دعم داخلي ممكن في معركته الرئاسية المقبلة.

عندما يصر ذلك الفريق على إدراج الثورة اللبنانية ومساراتها الداخلية الصعبة، في ذلك الصراع الاميركي الايراني، أو في الطور الجديد من الازمة السورية، أو في الرحلة العتيدة لجبران باسيل الى دمشق، أو في عمليات الحفر والتنقيب عن النفط  والغاز في المياه الاقليمية اللبنانية في المتوسط.. فإنه لا يعبر فقط عن حنين الى الماضي وإستدعاءاته الخارجية ، بل عن درجة غير مسبوقة من التخريف والهلوسة، وعن رغبة جارفة في طعن الثورة بأعز ما تملك حتى الآن.  

السابق
لو تتكلم جدران قصر بعبدا: الانهيار الكبير بعد شباط!
التالي
الباص الأخضر في سوريا.. حكاية موت عابرة للحدود