مدن عصية على الموت!

الثورة اللبنانية

هل تريد كلَّ بلدي يا ابنَ بلدي؟
خُذْها.
هل تريد بيروت؟
حصتي فيها رغيفٌ ورصيفٌ أتسكّعُ عليه، وكتاب، ومقهى للكلام، وخطوتان على البحر لتأمّل أفول النهارات، وحانةٌ كانت لليل  الندماء،  اتكأ بعضُهم على بعض، ومضوا على مضضٍ  بعد أن أعلن الساقي الكأس الأخير.
تريد صور؟
لي صورةٌ  فيها يوم كنت في العاشرة 
جغرافياً غرّاً، أتعرّفُ على البلاد وأسماءِ الأقوام التي بنت قلاعها  في البحر والبر ِّ
لغرضِ الدفاع والخلود،
ذهبوا كلّهُم وبقي الحجر!
خُذْها،
تريد طرابلس؟ 
كلُّ بواباتها توصِلُك إليها. من باب الرمل الى باب التبانة، يستقبلك فقراءُها بالغناء وعصير التوت.
وبحرفِ الألفِ المكوَّر الصوت.
فتّش في اسواقها عنّي، تراني أتعلّم طرقَ النحاس وحياكةَ عباءةٍ لجدي وحملَ المكاييل، وصنعَ أسوارةٍ للعرس، ورتقَ الثوب العتيق، وجرَّ عربةِ  العنب والرمان.

تستَدلُّ على إسمها، من عطرِها في بساتين الليمون وسوق الهال وعرق الشيالين.

اقرأ أيضاً: من قلب محروق إلى حارقي الخيم!

تراني أسري وأترابي بين مساجدها العتيقة وكنائسها، لغرضِ التعرّف على الله.
عاد قطارها الأخير من الشرق يوم ولدت  ابنة جارتنا، سماها والدها آسيا.
احتلَّ  الغزاة قلعتها وماتوا بعد حين.
لي صورةٌ هناك وصديق لي، كان والده قبطانَ سفينة، تقاعدت على الشاطئِ، مائلةً، نصفها في الرمل ونصفها في الهواء،  كما أعمارنا، تحمل نفس الإسم، ونحمل نفس المصير.
آسيا…
خُذْها،

تريد صيدا؟
حفرت اسمي على حجر فينيقي مرمي في الممر البحري الى القلعة، كنت دليلا سياحيًا اعرف حبيبتي الاولى على بيوت الأسلاف واسماء البحارة القدماء. أضفت اسمينا الى قائمة العابرين…
خُذْها.
خذ بعلبك، بمعابدها واترك لطلال حيدر معبد باخوس، ولميشال  طراد كوخ فيروز ولسعيد عقل قصيدة علي.
واترك لي المسافة بين أعمدتها.
خذ عكار مسقط راسي أهديك حجرًا من قلعتها حفر عليه  ما قاله فخر الدين في بني سيفا. الحجر مرمي في الدرب بين دير القمر وعكار، مموه بالعشب مستسلم للنسيان.
خذه
خذ غابات الأرز وكتاب النبي لجبران.

خذ سهل البقاع وازرعه قمحا للفرس
هل تريد البحر؟ خذه  بمراكبه العائدة من أندلس الامس.
هل تريد حرمون وجبل المكمل وصنين وقلاع الرومان. جبال شاهقات خذها بثلجها، خذ ما شئت من شموخها المستحيل.
لكن!
ماذا ستفعل بها غدًا بدوني بعد شروق الشمس
هل فكرت؟
لا أضمن لك أن نهاراً يعطيك ما أخذته ليلاً.
تعبت البلاد من توالي جنازات متصلة لم تنته، مديدة، تستهويك لغرض أرضي فإن، حزني كبير على فتية ترسلهم في الغموض لتزداد وضوحًا، في ليلك الطويل.

أعلم أنك تريد كل ما هو صعب علي،
لا يمكنني إعطاءك ما انجبت أمي من اسماء. ولا يمكنني أن أقرأها بالخط الكوفي على حجر مغطى بالثلج في مقبرة السلالة.
لا يمكنني اعطاؤك ما
اطربني  من غناء أو شجاني
او ما حفظته من شجر 
أو  ما  رددته من شعر في مجلس جدي المعري ونديمي  ابي النواس، أو ما  دونته من ترادفات في المعنى ومن تجليات ، في دفاتري.
لا أستطيع إعطاءك ملمحي وصوتي ولغتي، ولا طريقتي في التسكع في المدن وذهابي وايابي في كتابي وفِي البحث عني فيك.
انت لا تنتبه انك ممعن في حفر هوة بيني وبينك، كلما ردمت منها ما يوصلني إليك فرغت منها ما يبعدك عني، 
ماذا تريد مني؟
بيتي؟
كان لي بيت في  حيفا اخذه اشكنازي  يوم هجم العرب وربح الروم.
وبيت في إشبيليا قدمته لعازف غيتار غجري  يوم خرج العرب ودخل الروم، وبيت أموي في دمشق  نهبه الحرس
وبيت على دجلة الخير  هدمه الفرس.
بقي لي بيتي الشتوي في بيروت، 
ولي مركبٌ في البحر اسكنه، يهدهد عمري الموجُ، وأنا اكتب سيرة المدن التي بكيناها.
انتبه صورة ابي على الجدار، مائلة لخطئٍ في الخيط، ومكتبتي لا كتاب فيها يُمهّدُ الطريق إلى الجنة، بمقدار ما يسهّلها الى الله.
خُذْها.

اقرأ أيضاً: ثوار طرابلس يشحنون أحرار الجنوب

كنت  أميل برأسي حين أنظر الى البحر من نافذتي:

رأيت أعمى، تمشي خلفه جنازةٌ طويلة،
في أرضٍ  مهجورة وأطلالِ بيوت…
كلُّ الذين هتكوا المدينة
لم ينتبهوا
أن اسمها بيروت.
خُذْها
تعلم أنها باقية
وتعلم أنك ستموت …

#ثورة_تشرين.

السابق
نيران الغضب تتصاعد ضد النظام الإيراني في العراق
التالي
بسبب الدولار.. مواطن يتعرض للاهانة داخل مطار بيروت!