انتفاضة لبنان والعراق وآفاق الدولة المدنية

الدولة المدنية هي حلم قابل للتحقق ونافذة لاستعادة الكرامة الإنسانية، وهي هزيمة حضارية فعلية للأيديولوجيا الإيرانية في أبرز قواعد نفوذها.

انعقد مؤتمر “المسيحيون العرب” (23 نوفمبر- باريس) في لحظة تحولات سياسية ودينية وحراك شعبي عربي يعم المنطقة تحت شعارات محقة للتحرر من أنظمة فاسدة وعابثة، تمعن في هتك حرية الفرد والدين والمعتقد.

النهوض العربي في بُعده الجوهري لا يمكن أن ينفصل عن الوجود المسيحي الراسخ والعميق في المنطقة العربية، باعتبار أن الهوية العربية، هوية مؤسِسة ليس في الفكر والثقافة والتاريخ والجغرافيا، بل فعل تكامل مع الهُويات الإنسانية والوطنية والدينية والمناطقية والعائلية في الدول العربية من مشرقها إلى مغربها. والديانة المسيحية التي خرجت إلى العالم وبشّرت برسالة السلام من هذه المنطقة، هي رسالة فعلت وتفاعلت ولا تزال في تشكل الهوية العربية التي تكتسب حضورها ومعناها من تشكل دائم ومستمر، ومؤتمر “المسيحيون العرب” هو مصدر من مصادر الحياة والنمو والحضور لهذه الهوية العربية.

ليس من اليسير مقاربة مسألة النكوص والتراجع في إدارة المجتمعات في الدول العربية، من دون التطرق إلى مسألة فشل مشروع الدولة كإطار لعقد اجتماعي بين السلطة والشعب، يقوم على أساس المواطنة، من دون تمييز بين أفراد المجتمع. ولا شك أن هذا الخلل يفتح في الكثير من الأحيان الباب للأطماع الخارجية سواء كانت غربية أو إقليمية. ومن دون أن نقلل من شأن عوامل سياسية واقتصادية منها دور الحروب الإقليمية والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ولأراض عربية، في تعميق المأزق الوطني وتصدع مشروع الدولة، والتي باتت تهدد العديد من المجتمعات العربية في وحدتها الوطنية. قصدت الإشارة إلى ما بات يعرف منذ عقود بـ”مسألة الأقليات” ولاسيما في المشرق العربي.

إن غياب دولة المواطنة أو اختلالها منذ عقود، كان سببا من أسباب ترسيخ الدكتاتوريات في المنطقة، وفي نشوء أنظمة مصالح تستقوي بالانتماءات العصبية وتعزز دورها ونفوذها الاجتماعي والسياسي وتزيد من تراجع وضعف دولة المواطنة، من جهة، ومسألة الأقليات في المنطقة العربية التي تفاقمت في ظل غياب المساواة بين المواطنين داخل الدولة الواحدة، من جهة ثانية. من دون أن نغيّب دور الأيديولوجيات الدينية التي قامت في مشروعها السياسي على شيطنة المختلف وعلى النقيض من دولة المواطنة.

تعدد الأديان الذي ميّز الفضاء العربي، يؤكد أن سمة التنوع في المجتمع أصيلة في الثقافة العربية والإسلامية، وهو حقيقة ناصعة في تاريخ مجتمعاتنا العربية والإسلامية، تؤكدها تفاصيل العيش المشترك وترسخها التطلعات الصادقة للحرية والاستقلال والارتقاء.

انعقد مؤتمر المسيحيين العرب وسط أصوات تضج بها أوطاننا، ولاسيما لبنان والعراق، أصوات حرة، تنشد الوطن والدولة، انتفاضة تعيد ترتيب أفكارنا وتخترق جدران الوهم والخوف، وهم السجن الطائفي والخوف الأقلّوي. وهي انتفاضة الذات على الذات قبل كل شيء. ما يشهده لبنان والعراق اليوم، هو انتفاضة الدولة في وجه الدويلة، وانتفاضة الهوية الوطنية ضد تضخم الهويات الطائفية وتشوهها. هي قبل ذلك وبعده فعل خلّاق لدولة المواطنة والمساواة بين المواطنين.

بهذا المعنى تقترح انتفاضة العراق كما انتفاضة لبنان، برنامج دولة القانون، وعصب الدولة إذا صحّت المقولة في مقابل عصب الطائفة أو المذهب. نحن مواطنون نحتكم كأفراد في علاقاتنا إلى عقد اجتماعي، يحكم العلاقة بين المواطنين والسلطة. في المشهد اللبناني اليوم نكتشف لبنانيتنا ونختبر قوتها في الميدان، ليست الانتفاضة في عمقها فعل انفصال عن الانتماءات والهويات الدينية، بل هي فعل انعتاق من سجن الخوف الطائفي، الذي لطالما كانت الأحزاب الطائفية والأيديولوجيات الدينية وزعاماتها، ولا تزال، تستثمر هذا الخوف وتعززه في سبيل تعميم السلطة العمياء وتهميش سلطة القانون.

لم ينج الشيعة في لبنان والعراق من سطوة الأقلّوية، وقد كانوا في العقود الأخيرة عرضة لعملية فصل ثقافي وعزل وفكري، ليس عن محيطهم الوطني أو العربي فحسب، بل عن تاريخهم الاجتماعي والسياسي والثقافي الوطني والعربي أيضا. وساهمت الأيديولوجيا التي بشرت بها إيران في خلق سياج أيديولوجي حول الشيعة، جرى مدّه نحو الأقليات المسيحية والإثنية في السنوات الأخيرة، باعتماد مصطلح أطلقه المرشد الإيراني علي خامنئي منذ أشهر وردده أمين عام حزب الله حسن نصرالله مرات عدة، هو مصطلح منطقة غرب آسيا، وهي محاولة لاجتزاء المنطقة العربية وإدخال إيران فيها، وهو في جوهره فعل تهميش للهوية العربية وتقويض النظام الإقليمي العربي، وابتداع فكرة مقابلة مفادها أن غرب آسيا هو مجموعة طوائف وإثنيات لا دول وطنية ولا عربية.

انتفاضتا لبنان العراق، هما في جوهرهما العميق ردّ على هذا الوهم الإيراني، بقدرته على تدجين المجتمعات بمقولة الأقليات، وهما تشكلان أيضا انتفاضة وعي وإدراك لنظام المصالح الوطنية، وهو بالضرورة وعي عميق للانتماء إلى الهوية العربية، ليس باعتبارها هوية صمّاء، بل هوية متفاعلة مع العصر ومع كل الإنجازات، التي حققتها البشرية على مستوى الحرية والديمقراطية واحترام تنوع المجتمعات.

اقرأ أيضاً: لماذا يبقى «الثنائي الشيعي» خارج كـــلّ ثورة؟

في نموذجي العراق ولبنان، كمساحتي تنوع ديني وثقافي وإثني في فضاء عربي، عمل المشروع الإيراني على تعزيز النزعة الأقلّوية، كمدخل ووسيلة لتبرير نفوذها وسيطرتها. وكان من الطبيعي أن تتفاعل مع كل فعل أيديولوجي تحت مسمى الأصوليات الإسلامية ذات النزعة الإقصائية والمنظمات التي اتخذت منهج الإرهاب أو العنف الأعمى كما هو حال تنظيمات القاعدة وداعش وغيرها من المنظمات التي تضيق بالتنوع الديني والإثني.

لم يكن المشروع الإيراني بعيدا عن دعم وتعزيز ثقافة الإقصاء والعزلة في العراق ولبنان، بل اعتمد في نفوذه وتمدده على ترسيخ التصدع في المجتمعات العربية، من خلال ضرب وتهميش الأسس الفكرية والثقافية للدولة الوطنية والمدنية. كما اعتمد ترسيخ مفهوم الأقلّوية، ولاسيما لدى الشيعة، سياسيا وثقافيا وأيديولوجيا من أجل صناعة الخوف أو تعميقه سواء في العراق أو لبنان وغيرهما، لتبرير دور الحماية الخارجية من قبل دولة تقدم نفسها كدولة إقليمية شيعية.

لم تكتف إيران بتعزيز مفهوم الولاء الأيديولوجي، الذي يتوسل العصبية الدينية المذهبية في تلك الدول، بل ذهبت أبعد من ذلك حين انتقلت إلى استثمار النزعة الأقلّوية في البيئات المسيحية والأقليات الدينية، وقدمت نفسها كطرف يمكن الاعتماد عليه في سياق مواجهة الإرهاب وخطر الأكثرية الإسلامية السنية. ما يقوله جوهر انتفاضتي العراق ولبنان اليوم هو أن المشروع الذي يقوم على صناعة الخوف من الآخر في الدولة والوطن، لم يعد قابلا للاستمرار، وأن دولة المواطنة والمساواة هي المرتجى والملاذ والهدف، وأن النزعات الطائفية والمذهبية ليست إلا وسيلة لتحويل الإنسان إلى مجرد ضحية، فاقد لحقوقه الإنسانية كمواطن وكقيمة، لا يمكن أن يلغيها أي انتماء لهوية دينية أو طائفية أو إثنية.

انتفاضة العراقيين واللبنانيين هي من أجل المواطنية والدولة المدنية، وهي بالضرورة انتفاضة عربية في وجه النفوذ الخارجي وهو في البلدين نفوذ إيراني بالدرجة الأولى.

استعادة الهوية الوطنية وثقافة المواطنة والإعلاء من شأن الدولة المدنية، هو السمة الأبرز والمشتركة بين انتفاضة الشعبين، التي لا تعبر عن موقف حضاري متقدم وعن رقي في مقاربة مسألة الدولة ووحدة الشعب واحترام الإنسان فحسب، بل هي إعلان صارخ بأن التعامل مع الدول العربية باعتبارها مجتمعات منقسمة طائفيا أو دينيا وقبليا، هو تعامل مرفوض وقد انتهى.

هذا المعنى الحقيقي لانتفاضتي لبنان والعراق، وأن الدولة المدنية أصبحت هدفا حقيقيا، بعدما مزقت الأيديولوجيات الدينية والطائفية المجتمع وبددت ثرواته الوطنية وزادت من التبعية للخارج.

الدولة المدنية هي حلم قابل للتحقق ونافذة لاستعادة الكرامة الإنسانية، وهي هزيمة حضارية فعلية للأيديولوجيا الإيرانية في أبرز قواعد نفوذها، هزيمة بدأت اليوم، وستتمظهر معالمها السياسية حكما بعد حين في هذه المجتمعات، بل حتى على امتداد المدن الإيرانية، التي باتت تنشد الخلاص من الأيديولوجيا وتنشد دولة المواطنة أو الدولة المدنية كبديل عن الدولة الدينية.

السابق
مصير مجهول في إيران.. متظاهرون معتقلون يواجهون خطر التعذيب والإعدام
التالي
الانتفاضة إلى أين ؟