الانتفاضة بدأت بترويض «تنين» حزب الله

علي الأمين
حزب الله استثمر طويلا في بناء سلطة مطواعة ولم يعد يملك أي مرونة للعودة إلى الوراء في زمن الحصار الأميركي، الذي يعاني منه.

الانتفاضة اللبنانية أو الثورة البيضاء، لمّا تزل في بداية الطريق، رغم أنها حققت في أقل من شهر سلسلة إنجازات لا يحلم اللبنانيون بتحقيقها في سنوات. نجحت الانتفاضة في فرض استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري، وفي فرض تبني سلسلة إجراءات، التزمت السلطة بها، هي بعض ما رفعه الشعب اللبناني في الشارع من مطالب تتصل بإلغاء الضرائب التي كانت قد أدرجت في موازنة العام 2020.

حققت الانتفاضة أيضا إقرارا من السلطة بالتورط في الفساد، وتم استدعاء بعض السياسيين للاستماع إليهم في هذا الشأن من قبل المدعي العام المالي، على الرغم مما يحيط بهذه الاستدعاءات من شكوك بخلفيتها، حيث اعتبرها البعض تنطوي على تصفية حسابات سياسية. لا يهم ما دام أن السلطة اضطرت إلى فتح الباب، الذي يدرك المنتفضون أن فتحه كفيل بجعل قضية المحاسبة للسياسيين مفتوحة وستجر لاحقا ملفات مالية مشبوهة، طالما كان التعتيم عليها هو الحقيقة التي تفرض نفسها في مثل هذه الملفات المتصلة بالفساد المالي والسياسي.

هذا غيض من فيض الانتفاضة اللبنانية المستمرة دون توقف، حتى تحقيق المطالب، التي لم تقتصر على استعادة الأموال المنهوبة، بل تجاوزتها إلى الدعوة لإجراء انتخابات نيابية مبكرة. على أن سلة المطالب التي يتنازعها ميل سلطوي لإدراج الانتفاضة في سياق مطلبي، ونزعة في هوية الانتفاضة تنحو لإحداث تغيير سياسي، غايته تغيير نظام المحاصصة وتقويضه، لصالح آلية حكم تحول دون تسييس القضاء وآلية فعلية للفصل بين السلطات، إضافة إلى اعادة الاعتبار للقطاعات الإنتاجية والحدّ من سياسة الاستدانة التي أغرقت البلاد في عجز كان من أسباب انفجار الانتفاضة.

لا يخفى على اللبنانيين وسواهم، أن حزب الله يشكل سند السلطة وحاميها والمدبر لسياساتها، منذ إبرام التسوية الرئاسية قبل ثلاث سنوات، ومخاوف انهيار هذه السلطة التي اهتزت مع الانتفاضة، أثار قلق حزب الله الذي بات منهمكا في إعادة ترميمها، رافضا أي محاولة لتغيير قواعد الحكم التي رسمها وحددها.

في المقابل ثمة انتفاضة غير مسبوقة على هذه السلطة، التي أجمع أطرافها قبل خصومها على أنها أوغلت في الفساد، وزادت مآسي الشعب وأضعفت الدولة. وقد فرض تحدي الشارع على حزب الله التعامل معه بوسائل مختلفة، محورها المراوغة للوصول إلى إعادة إنتاج السلطة عبر حكومة لا تخل بما يعتبره توازنات سياسية لا يمكن القفز فوقها مهما بلغ حجم الاحتجاجات في الشارع.

اقرأ أيضاً: إيران والمعركة المستمرة للاستيلاء على لبنان

اشترط الرئيس سعد الحريري لإعادة تكليفه رئيسا للحكومة الجديدة، أن يكون أعضاؤها من التكنوقراط، فيما كان لحزب الله رأي آخر مفاده أن تكون حكومة سياسية مطعمة بالتكنوقراط، في وقت يصر فيه الشارع على أن أي حكومة جديدة يجب أن تكون من شخصيات مستقلة تحظى بثقة الشارع، وهو ما ليس واردا في حسابات حزب الله وسواه من شركائه.

لعبة عض الأصابع لم تزل قائمة في ظل ضغوط اقتصادية ومالية أدت إلى إرباك شعبي وسياسي، من افتقاد السيولة بالعملة الصعبة إلى بروز أزمات فقدان المواد الأساسية من الأسواق، وهو ما اعتبره بعض أطراف الانتفاضة، عملية ضغط على الشارع والمنتفضين من أجل القبول بأي حكومة جديدة ولو كانت لا تتوافق مع مطلب الانتفاضة. ويرى فريق آخر من المنتفضين أن تفجر الأزمات سيشكل رصيدا للانتفاضة في معركتها مع السلطة، وتقوم بالتالي عناصر ضغط إضافية من أجل الاستجابة لمطالب الشعب.

في هذا السياق أيضا، يعمد حزب الله، الذي يدير عملية الاتصالات بين أركان السلطة، إلى استغلال الوقت بانتظار ما يتوقعه من تراجع زخم الشارع، ليتسنى له العمل على إعادة إنتاج السلطة بطريقة تضمن له الاحتفاظ بقرار الحكومة السياسي من خلال شرط الموافقة على كل من يمكن أن يشارك في الحكومة المزمعة.

رهان حزب الله ينطلق من عدة اعتبارات، أولها، أنه حاول ترهيب المنتفضين من أجل فض الاحتجاجات. وعندما فشل، دفع الانتفاضة إلى التمترس خلف الاحتجاجات المطلبية إلى حد كبير وحال دون تبلور إطار سياسي معبر عن هذه الانتفاضة. وساهمت عمليات القمع المعنوي والاتهامات بتلقي المنتفضين أموالا من الخارج، في تعطيل تبلور خطاب يمهد لبرنامج سياسي، يجري القياس على أساسه في مواجهة السلطة، ذلك أن السلطة التي تحكم في لبنان، لا تريد للانتفاضة أن تتجاوز المطالب المعيشية والحقوقية، معولا على أن الوعود كفيلة بإطفائها، وكفيلة باستيعاب أي شخصية نزيهة ومستقيمة في حال شاركت في الحكومة، إذا كان دخولها الحكومة لا يستند إلى مشروع سياسي وبرنامج تغيير لمعادلة الحكم والسلطة في لبنان.

وقد تمكن حزب الله إلى حد ما، بالتحالف مع الرئيس نبيه بري، من منع الاختراق العميق للبيئة الشيعية من قبل الانتفاضة، التي هزت في البداية أركان الثنائية الشيعية، وتمكن نسبيا من إعادة تحصينها بالخوف وبالسطوة الأيديولوجية والأمنية داخل هذه البيئة.

وقد عزز ذلك إصراره على إعادة ترميم السلطة، مستندا إلى أن تشكيل الحكومة بما لا يوافق المنتفضين، هو الأولوية، التي يمكن له من خلالها إعادة تنظيم المواجهة مع الانتفاضة. ولكن ما لا يمكن توقعه، هو كيف ستكون ردة فعل الشارع الذي يصعب خداعه بتغيير شكلي؟ وهل ستلبي حكومة تكنوقراط يمسك حزب الله بقرارها السياسي، متطلبات التعاون الدولي على مستوى تقديم المساعدات للبنان؟

ثمة أسئلة عديدة تواجه سيناريو الالتفاف على مطالب الشارع، دون إحداث تغيير فعلي في السلطة وفي بنية الحكومة، لعل أبرزها هل أن اللبنانيين سيقبلون بالخديعة مجددا أم أن خيار التغيير سيفرض نفسه كبرنامج لا مفر منه للانتفاضة من أجل إحداث التغيير في السلطة؟ وترتبط الإجابة بصعوبة استعادة ثقة الشعب بالسلطة إذا لم يلمس أن تغييرا حقيقيا قد حصل، وهذا ما لا يحتمله حزب الله الذي استثمر طويلا في بناء سلطة مطواعة، في وقت لم يعد يملك فيه مرونة العودة إلى الوراء في زمن الحصار الأميركي، الذي يعاني منه.

السابق
الأزمة الحكومية تتفاقم.. بري: سأكون على عداء مع الحريري للأبد!
التالي
هذا ما نصح به حنبلاط الحزبيين في الشوف!