عصر الحيوية الأميركية

خالد حماده

إنّ التساؤل عن القوة الكامنة لبيان السفارة الأميركية في بيروت الذي حمل أكثر من دلالة وأطلق جرس الإنذار بوجه كلّ من يعنيهم الأمر من حلفاء إيران والنظام السوري على السواء وفرض التئامهم، كما أوقف محاولات العبث بالستاتيكو السياسي القائم وأسقط أيّ محاولة لتغييره مجاهراً بحماية حلفائه، يصيب كبد الواقعية. أخرجت ريادة الرئيس نبيه بري ودوره المرجّح مصالحة بعبدا الى الوجود بأقصر العبارات وبالكثير من الدلالات، وليس أدلّ على التأثير العميق لبيان السفارة من التداعيات التي ترتبت عليه، وفي طليعتها الإنكفاء غير المألوف للوزير جبران باسيل عن المنابر وعن وسائل التواصل الإجتماعي، هو الذي افترض منذ الإنتخابات النيابية الأخيرة وتشكيل تحالف لبنان القوي القدرة على برمجة كلّ جوانب الحياة السياسية واقتراح إيقاعاتها. التأثير الكبير لبيان السفارة كان واضحاً في خطاب الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله الذي دعا الى احترام الأحجام التي أفرزتها الإنتخابات النيابية وعدم الموافقة على إلغاء أحد، بما يشكّل فارقاً نوعياً عن موقفه السابق الذي كان واضحاً في الدفع باتّجاه الإقتصاص السياسي على خلفيّة استخدام فائض القوة المحقق لمحور الممانعة، وفي الذهاب الى عكس ما ذهبت إليه مصالحة بعبدا.

اقرأ أيضاً: نعم.. واشنطن قررت التدخل العلني في شؤون لبنان

الحيوية الأميركية في الشأن اللبناني كذلك عبّرت عنها زيارة رئيس الحكومة سعد الحريري الى واشنطن التي التبست ظروف الدعوة لها وترتيب جدول أعمالها بين الخاص والدبلوماسي، وحملت اللقاءات الرسمية التي تمتّ خلالها مع فريق الرئيس دونالد ترامب للسياسة الخارجية طابع المتابعة لملفات وإجراءات سبق أن طُلب الى الحكومة الللبنانية السير بها، والتي تندرج تحت عنوان عدم قبول الإدارة الأميركية بالتغطية السياسية والمالية لحزب الله تحت مصطلح الخصوصية اللبنانية وتكوين السلطة السياسية التي يشكّل حزب الله جزءاً منها. المؤتمرات الصحفية التي تخللت الزيارة ودعوة الوزير مايك بومبيو الى غداء عائلي والتي حاول الرئيس الحريري عبرها إشاعة جو من التفاؤل والدعم وتفهم الإدارة الأميركية للظروف اللبنانية لم تُثنِ المضيف الأميركي عن التمسك بالثوابت والعناوين التي سبق وأعلنتها هذه الإدارة في أوقات سابقة. طرحت واشنطن قلقها من تطور قدرات حزب الله كجزء لا يتجزأ من المنظومة الإيرانية وأذرعها العسكرية التي تهدّد الإستقرار الإقليمي، وأكّدت عزمها على الإستمرار في العقوبات على كوادره وكياناته ومن يدعمها، وأتى التذكير بالدور الأميركي في دعم مؤتمر «سيدر» من الأموال التي يدفعها المواطن الأميركي والتي لا يعقل أن تكون غطاءً لحزب الله في استمرار هيمنته على لبنان ليخفي تهديداً بحجب هذه الأموال في حال استمرار الشراكة السياسية معه.
 أعلنت واشنطن ضمانتها لاستقرار لبنان واستمرارها في دعم الجيش اللبناني بما هو واجب أميركي منفصل عن الأداء الحكومي وغير خاضع للمساومة والإستخدام من قِبل خصوم الحريري، ولامست واشنطن الملف الإقتصادي من خلال دعوتها الرئيس الحريري للتأكيد على قدرات لبنان الذاتيّة في الدفاع عن نفسه بعيداً عن حزب الله، ليتسنى للولايات المتّحدة مساعدته في ترسيم حدوده البحرية والإستفادة من ثرواته البترولية بعيداً عن سيطرة حزب الله.
 عكست إجابات الرئيس الحريري على الأسئلة المتعلّقة بالعقوبات على حزب الله وحلفائه من الطوائف الأخرى إصراراً على التمايز عن الرؤية الأميركية بما يؤكّد على النأي السلبي بالحكومة عن كلّ الإجراءات الأميركية التي قد تتُّخذ بحق الحزب أو سواه، مستعيراً موقف المنتظر على ضفة النهر الذي أطلقه يوماً وليد جنبلاط. ردود الرئيس الحريري على ترسيم الحدود جاءت في نفس السياق لتؤكّد على نيّة لبنان بالتفاوض على ترسيم الحدود وفقاً لمسار دولي تشارك فيه الولايات المتّحدة والأمم المتّحدة نظراً لحاجة كل من لبنان وإسرائيل لتسويّة هذا الملف.
الحيوية الأميركية الإقليمية تتمثّل بالمرونة في الموقف في مواجهة النفوذ الإيراني وبضرورة الذهاب الى اتّفاق نووي جديد يعالج جذريّاً مسألة الإستقرار في الشرق الأوسط ودور إيران في دعم الميليشيات المذهبيّة. فبالرغم من الفرص التي أتاحتها الولايات المتّحدة للدول الأوروبية المشاركة في الإتفاق، واتّخاذ بعض الدول الخليجية دور الوساطة، لم تنجح أيٌّ منها في تعديل التوجّه الأميركي الهادف لتحويل المواجهة مع إيران الى مواجهة بين إيران والمجتمع الدولي. نجاح الولايات المتّحدة في جذب المملكة المتّحدة الى الفلك الأميركي شكّل المقدّمة لإرساء تحالف دولي محكوم بالتعاظم لتحويل الخليج الى بحيرة دولية خارج الإستئثار الإيراني. الوضع المرتقب في الخليج سيفضي الى جانب العقوبات الإقتصادية للتأسيس لمسارٍ من التفاوض سيُلزم إيران بتحديد أولوياتها ومقايضة المكتسبات بالإستقرار الأمني والإقتصادي.
يقدّم الإتفاق المبهم بين الولايات المتّحدة وتركيا في نهاية الأسبوع المنصرم لإنشاء المنطقة الأمنيّة في شمال سوريا نموذجاً آخر على الحيوية الأميركية في الإقليم والقدرة على صياغة المواقف. الإتفاق المُبهم الذي لم توضع آليات تطبيقه حتى الآن والذي يتجاوز هواجس الأكراد وطموحات ونضالات قوات سوريا الديمقراطية ولا يستجيب للمطالب التركية المعلنة، دفع بتركيا للزج بقواتها في خان شيخون لمواجهة قوات النظام السوري ووقف تقدّمها مكرّسة بذلك حواراً بالنار بين روسيا والولايات المتّحدة على مشارف إدلب.
كيف سيقارب مجلس الوزراء، المنضبط بقواعد التوازن وتحديد الأحجام الجديدة التي أرستها مصالحة بعبدا، في جلسته المقبلة بعد يومين الملفات الإقتصادية ومسألة ترسيم الحدود البحرية وتداعيات الدور الإقليمي لحزب الله في ضوء الهوامش الأميركية المسموحة التي ينقلها الرئيس سعد الحريري معه من واشنطن، لتفادي الأزمة الإقتصادية وعدم المضي في فرض العقوبات على شركاء حزب الله .
يبدو التكهن صعباً في هذا العصر من فائض الحيوية الأميركية….

السابق
مؤتمر لحلف الأقليات في «بيروت الإيرانية»
التالي
أكبر سجادة إيرانية يدوية في العالم!