البؤس الفلسطيني في لبنان

علي الأمين
قبل نحو عشرة أيام صادفت خلال عودتي من الجنوب الى بيروت، ازدحاماً على الطريق البحري في مدينة صيدا، سبب الازدحام الأهم، مسيرة للأخوة الفلسطينيين من أبناء مخيم عين الحلوة للمطالبة بالحقوق ورفض الإجراءات التي قامت بها وزارة العمل في فرض إجازة العمل على العمال الفلسطينيين.

الازدحام هذا، وفّر لي فرصة التأمل بهذه المسيرة، وفي الوجوه التي تحتشد فيها، وبنظرات يلتبس فيها البؤس والتحدّي، وتلك الحَيّرة التي تجعل المشاركين في المسيرة يستحضرون مشهد الإجراءات الأمنية المشددة على مدخل المخيم، والتي طالما شكَوا أو أقرانهم في المخيم طوال سنوات، من تحويل المخيم الى ما يشبه المعتقل، ثم وجدوا أنفسهم هذه الأيام وفجأة  يخرجون بحرية بالمئات والألاف وبرعاية أمنية رسمية ليتظاهروا من دون أن يتعرضوا لأيّ مساءلة من أي جهة أمنية، إذ طالما كانت هذه الفئات تشكوا من مبالغات هذه الأجهزة نفسها، في التفتيش والتدقيق على مداخل المخيم، ومن الاستدعاءات للتحقيق، وما الى ذلك ممّا خبرته وعانيت جزءا منه، أنا اللبناني خلال زيارات لأصدقاء كثر لي من الفلسطينيين في داخل المخيم.
الحَيّرة هذه، أفهمها وأعرفها وأخاف منها، لا لبراءة في الوجوه التي تكشف عنها، بل لهذا الاختلال النفسي والوجداني، الذي يسببه سلوك قمعي خبيث، عميق ومتراكم في تشويه الهوية الفلسطينية، عبر استثمارها سياسياً لمصالح شتّى الاّ الفلسطينيين، وتحويل البؤس الى نهر جارٍ لا تجفّ مياهه ولا يتوقف جريان المآسي فيه.

رايات أمل وحزب الله

في تلك اللحظة حضرني الزعيم الفلسطيني الراحل أبو عمار، ربما لأن صورته كانت غائبة عن تلك الرايات المرفوعة في المسيرة، بل الأرجح كان بسبب كثافة الأعلام التي كانت ترفرف مزهُوةً فوق رؤوس المتظاهرين، وأقصد أعلام حزب الله وحركة أمل، الى جانب اعلام حركة فتح وحركة حماس والعلم الفلسطيني، طبعا الى جانب غياب صورة عرفات كان العلم اللبناني مغيباً أيضاً.
في هذا المشهد ودلالاته ما يجعل الخوف داهماً لمثلي، لا لموقف سلبي من الحزبين المذكورين، بل للبؤس الذي وصل اليه اللاجئون الفلسطينيون في لبنان، البؤس السياسي في الدرجة الأولى. تذكّرت أبو عمار أيضاً من خلال فكرة طالما كانت من أسرار زعامته الفلسطينية، وهي “القرار الوطني الفلسطيني المستقل” هي تكاد تختصر هذه العلاقة السرّية بين الشعب الفلسطيني وياسر عرفات. هذه الفكرة الشعار والنهج السياسي، هو ما ساهم الى حدّ بعيد في حماية الهوية الفلسطينية، وجعل من القضية الفلسطينية، قضية عصّية على المصادرة، ولأن أبو عمّار كان صادقاً في حماية القرار الفلسطيني المستقل، غفر له شعبه كثيراً من الأخطاء. 

لم يكن هذا المشهد في دلالاته، الاّ محاولة مشوّهة للتعبير عن الاحتجاج الفلسطيني على إجراءات قامت بها السلطات اللبنانية الرسمية، كان المتظاهرون يحتَمون بهذه الأعلام، بل يستقوي بعضهم بها، إذا ما لمس نوعاً من استياء بعض المارة، أو الذين ينتظرون في مركباتهم نهاية الازدحام كي يكملوا طريقهم. وهو في دلالاته العميقة، سلوكٌ يترجم استمرار تطويع الفلسطينيين في لعبة انقسامات داخلية، اذ يعرف أبناء المخيم الذين يحقّ لهم عملياً اقتناء السلاح والحصول عليه في المخيمات، أنّه حقّ ملتبس ومشبوه، لأن وظيفة هذا السلاح الوحيدة هي المزيد من القتل الذاتي وادامة البؤس، أي وظيفة داخلية في لعبة الصراعات المحلية والإقليمية، باستثناء فلسطين!

من الوصاية السورية الى ..الايرانية

هذا هو الحال منذ الوصاية السورية الى زمن الوصاية الإيرانية. واذا كان أبناء المخيم أو أولئك الذين استهواهم الخروج الاستعراضي من المخيم، فان هذا الخروج محكوم لحسابات المزيد من استخدام حال الاحتجاج في عملية تسجيل نقاط داخلية وإقليمية، لن تفيد الفلسطينيين الاّ بشعارات التأييد الخاوية من ايّ مكسب حقوقي واجتماعي، بل تعزيز السّير في طريق الاستغلال السياسي الرخيص لقضية فلسطين واللاجئين.

ما يثير الدهشة، بل الريبة ليس اندفاعة الشباب الفلسطيني للاحتجاج والاعتراض، ولا الوقوع في فخّ التلطّي والاستقواء من قبل من صار اللجوء سجناً له في لبنان، الرَيّبة هي، من سلوك وأداء الشرعية الفلسطينية، ولا سيما حركة فتح، فالأخيرة التي ظلت ديمومة الشعب الفلسطيني، تبدو اليوم في حال من الميّوعة السياسية، أكثر مما هي في موقع قيادة الثورة والشعب، واذا كانت حركة حماس قد سلّمت مقاليد سلطتها للعبة المحاور الإقليمية ولايران أخيراً، فان سلوك “فتح” يكشف عن انقياد مجاني لما يشبه التعليمات الأمنية والسياسية الحزبية، فحركة فتح ومن خلفها السلطة الوطنية الفلسطينية، معنية بوقف هذا العبث بالوجود الفلسطيني في لبنان، وهو يتطلب جرأة سياسية لا تجعل القيادة الفلسطينية في لبنان متمادية في عملية الانسحاق السياسي أمام مسؤول سياسي أو أمني.

ميوعة القيادة الفلسطينية في لبنان

الشعب الفلسطيني وأقول اللبناني، يريد أن يلمس أن ثمة وجود لقيادة سياسية فلسطينية مستقلة، قيادة تشعر الفلسطيني في لبنان أولاً، أنه يستند الى جدار صلب، الى قيادة مسؤولة، تعرف كيف تحمي حقوقه، ولا تكتفي بالميوعة السياسية أمام شهوة استثمارها من هذا الطرف السياسي أو ذاك. لم نسمع من هذه القيادة ما تتداوله في السر وخوفاً، عن من يدخل السلاح الى المخيمات ولأيّة أسباب؟
عن كيف يتم استدعائهم وتأنيبهم بل تهديدهم احياناً.
‏ ثمة حقوق للفلسطينيين على الدولة اللبنانية بالتأكيد، ولكن ثمة حقوق للدولة اللبنانية على الفلسطينيين وأولها السلاح، السلاح الذي يُمنع عليكم وباسم “المقاومة” عدم استخدامه في مواجهة إسرائيل، ولكن يلزمكم باستخدامه للتقاتل، واذا تعبتم قليلا، فأهلاً بكم في ساحات مقاومة “الارهاب” سوريا، لكن على حدود فلسطين الشمالية فهذا من الكبائر!

البؤس الحقيقي

‏تعلمون أن واقعكم البائس هذا، هناك من ينال ثمنه نفوذاً ومالاً وسلطة في لبنان، طالما بقي الوجود الفلسطيني ورقة ابتزاز واستثمار، الى الحدّ الذي وصل اللاجئون فيه، ان يخرجوا في شوارع صيدا رافعين بحَيّرة وانسحاق، أعلام أحزاب لبنانية، فيما هم حذرون من رفع صورة أبو عمار والاحتماء بوجهه أو حتى علم لبنان..
‏حالٌ يعبر بأسف عن غياب القيادة الوطنية للشعب الفلسطيني في لبنان.. وهنا البؤس الحقيقي. 

السابق
«الطبلة» التي هزّت إيمان النبطية
التالي
أسرار الصحف المحلية الصادرة يوم الجمعة في 2 آب 2019