مارسيل خليفة… أجمل الأوطان؟

حين أراد الرياضيون الأميركيون السود، أبطال الركض في مسافاتهم المتفرقة في دورة ألعاب مكسيكو العالمية 1968، التنديد بسياسة التمييز العنصري وقمعها احتجاجات الافريقيين – الاميركيين في شيكاغو 1968، وقبلها في 1966 وفي 1963، ارتقوا منصات الفائزين عند عزف النشيد الوطني “الأميركي” (الولايات المتحدة) ونكسوا الرؤوس ورفعوا القبضات. وسدد الأولمبيون السود ثمن الرأي الجسماني هذا في إقصاء شطر من المواطنين وتعريضهم للعنف والاغتيال، طوال حياتهم المهنية. ولما سخر سيرج غانسبور، المغني والموسيقي الفرنسي، من النشيد الوطني الفرنسي (“المرسيلية”) غناها على وجه نؤاسي (نسبة إلى أبي نؤاس، الحسن بن هانئ، المولى الشاعر)، وتعتع جملها، وأتبع أشهر هذه الجمل وأولها مطلعها: “هيا يا أبناء الوطن/ يوم المجد جاء”، بـ”إلخ. إلخ. إلخ.”، وهو مغمض العينين، مشتعل السيجارة، متهافت الوقوف.


والفرنسي المحدث، ذو المنبت البولندي، واللاجئ اليهودي مع أهله إلى الملجأ الفرنسي، “حاور” وطنه على هذا النحو، فدعا إلى الازراء والحط بأصل البلاء: “القومية” الضيقة، وتمجيد الأصول العرقية، وترتيب الناس على مراتب بحسب قربهم من رأس الخلق أو بعدهم المزعومَيْن منه. أما المغني العمشيتي، من ساحل جبيل – البترون، مارسيل خليفة، فيجيب الزبالةَ والكهرباءَ المقطوعة، والبيئةَ الملوثة، وموت الناس على باب المستشفيات، وحلول الحصى والرمل محل جبال الوطن، وثرثرات الخصوم، ودعوات الأعداء إلى محبته (هو المغني)، و”منبت الفتن”، و”الأمكنة الدبقة والمهسترة”، والشعورَ بالفراغ والحاكم الواحد، ولَوْك النشيد في وطن الطوائف، وقذارة اليأس …( وأجزاء الجمل والعبارات هذه من قطوف تعليقه على حائطه في “فايسبوك”)- يُجيبُ هذه كلها بجملة – ماركة (علامة) طنانة وتافهة وركيكة، تشبه لعب أولاد المدارس بمحفوظات لفظية: “تصبحون على وطن”.

وهي من الجمل – الماركات التي ابتكرها الأدب الوطني المقاوم في أوائل الحروب الملبننة على لسان ربيع الخطيب وزياد الرحباني وأمثالهما: “بعدكم طيبين؟ قولوا ان شاء الله!”. فحُملت الحروب هذه على “فيلم أميركي طويل”، “عَملِ” الرحباني الابن الخالد إلى يوم دينونة التفاهة، وهو ليس قريباً. وحملت على مباراة كرة قدم يرويها بعض أعلام الثقافة الوطنية والشعبية المنتصرة. وولد هذا الأدب “كل الجهات الجنوب” و”أجمل الأمهات…” و”يا علي…”. وبعد أعوام مُدحت “ثقافة الدم”، ولون بالأحمر ماء النوافير في معارض غرفة الزجاج في وزارة الإعلام. ودعا بعض “شعراء” هذه “الشعرية”، الوطنية والشعبية المحلية، إلى مبايعة ثقافة الدم التي شيدت على جثث بعض أنصار “الحركة الوطنية”.

والحق أن إجابة مارسيل خليفة هذه لا تعدو، إلى غنائيتها الركيكة، التنصل الطفولي من الواقع. فهو حين يكتب ما كتب، ينزل نفسه منزلة البريء الذي لم يأتِ ذنباً، وصادف حظه العاثر أن “وقع” في لبنان و”وحوله”، على قول اسرائيلي سائر. ويندرج هذا التنصل في تراث لبناني عريق يتصل من “لكم لبنانكم ولي لبناني” (جبران) إلى تنصيب أدهم خنجر بطلاً استقلالياً (“السيد” نواف الموسوي)، ويمر بتعريف لبنان “فدرالية طوائف ودكاناً على البحر” (كمال جنبلاط) وبـ”ابنوا دولة أولاً ثم ناقشونا” (حسن نصرالله).

وصور التنصل الساذجة والقاتلة هذه تشترك في استقوائها بقيم بطولية، عسكرية وأخلاقية، وفي حملها الولادة من أهل، وفي بلد وزمن- أي ما سماه المتكلمون المسلمون “الإنّيات”، وهي المعطيات الأولى التي تستأنفها الحياة المدركة- على الرغبات والتمنيات والإرادات. فيستولدون تواريخ ومواريث وأحوالاً ثقيلة الوطأة أوطاناً ومجتمعات وأمجاداً من بنات “مبدأ اللذة”، على ما سماه فرويد، “الساحر اليهودي” على قول إحداهن. ويوكلون هذه الولادات إلى سحر غيرهم، ويتوقعون، أو هكذا يشبِّهون، أن يصنع غيرهم الولائد البهية، الديباج، اليوم قبل الغد والبارحة قبل اليوم. وبعضهم، معظمهم، قضّى إلى اليوم ستة أو سبعة أو ثمانية عقود وهو يتقلب بين أظهر عالم الخطيئة والشر، ويعتزله، ويقدم القرابين على مذابحه الملوثة.

السابق
إيران تتحدى وتزيد تخصيب اليورانيوم الى 4.50%
التالي
الاتفاق النووي الإيراني: ما أهمية تخصيب اليورانيوم بنسب معينة؟