المفاوضات بين «إسرائيل» ولبنان في مسألة الحدود البحرية

الحدود البحرية

توجد مصلحة للبنان بما فيه حزب الله في الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل. ولكن مفاوضات معقدة وقاسية تحتاج الى مديرية مختصة خاصة.
يفترض ان تبدأ في الاسابيع القريبة مفاوضات بين اسرائيل ولبنان في موضوع ترسيم الحدود البحرية بينهما. وتحقق الاتفاق على ذلك في اعقاب جهد مكثف لنائب وزير الخارجية الامريكي، ديفيد سترفيلد، وتقرر ان تجري في منشأة الامم المتحدة في الناقورة. وعقب المعارضة في لبنان للوساطة الامريكية، سترافق الولايات المتحدة المحادثات بمكانة جهة مساعدة ( Facilitator) فقط. ان النزاع بين اسرائيل ولبنان هو على مساحة مثلث بحجم نحو 860 كيلو متر في البحر المتوسط، وهو ينبع من خلاف بينهما على طريقة الترسيم (اسرائيل ترسم الحدود كعمود بـ 90 درجة من نقطة الحدود البرية؛ وبالمقابل يرسمها لبنان كاستمرار لخط الحدود البرية). لقد اصبحت المسألة ذات صلة اكبر والنزاع علني في اعقاب اكتشافات الغاز في البحر المتوسط. لبنان، الذي اراد العمل على تنقيب الغاز امام شواطئه، أودع في الامم المتحدة قبل نحو عقد ترسيما لحدوده البحرية، في ظل ضم هذه المساحة الى مياهه الاقتصادية (Exclusive Economic Zone). اما اسرائيل التي رأت في ذلك مسا بحقوقها، فقد اودعت هي ايضا في الامم المتحدة روايتها لترسيم الحدود.
سطحيا، للدولتين مصلحة واضحة في الوصول الى اتفاق في موضوع الحدود البحرية بينهما لاسباب اقتصادية بالاساس. ففي 2011 توجهت اسرائيل الى الولايات المتحد بطلب للتوسط والمساعدة في تحقيق اتفاق مع لبنان. وذلك للامتناع عن البحث في المسألة في اطار اللجنة العسكرية المشتركة التي نشأت بقوة قرار مجلس الامن 1701، والذي تم تبنيه في نهاية حرب لبنان الثانية (2006)، وفي اطاره طالب لبنان البحث بالتوازي في المسائل المتعلقة بالحدود البرية والبحرية على حد سواء.

اقرأ أيضاً: عيون واشنطن على كنوز لبنان.. الرسالة وصلت ولا حرب!

فضلاً عن ذلك، عارضت اسرائيل وتواصل المعارضة لاعطاء دور للامم المتحدة في ترتيب حدودها، بما في ذلك الحدود البحرية وذلك ايضا لانها لم توقع على ميثاق الامم المتحدة في موضوع القانون البحري (United Nations Law of the Sea). ويشار الى انه في المفاوضات غير المباشرة التي جرت في 2011 – 2012 وافقت اسرائيل على اقتراح حل وسط لترسيم الحدود البحرية، تنازلت فيه للبنان ومنحته قسما اكبر من المساحة التي موضع الخلاف (بنسبة 45:55)، ولكن حتى الان لم يصل رد فعل لبنان على ذلك.
أبطأ الخلاف مع اسرائيل عملية تنمية اقتصاد الغاز في لبنان. ومع أن شركات اجنبية حظيت بعطاءات لامتيازات التنقيب حتى في المساحة المختلف عليها، الا انها سارعت الى الاعلان بانها لن تعمل فيها. فموافقة حكومة لبنان على استئناف المفاوضات، وهذه المرة كمفاوضات مباشرة، تتاح ظاهرا في اعقاب استكمال تشكيل الحكومة اللبنانية في بداية هذه السنة، ولكن واضح أنه في خلفية ذلك يوجد اساسا الحاجة الاقتصادية العاجلة التي مصدرها في الضائقة الاقتصادية العسيرة للغاية للبنان (في تصنيف شركة الائتمان “موديس” في 2018 يوجد لبنان في المكان الثالث من بين الدول ذات الدين الاعلى، مع دين بنسبة 140 في المئة من الناتج القومي). ونجحت حكومة الحريري قبل نحو شهر في اقرار “ميزانية تقشق” للعام 2019، الا انها منذ الان – وقبل أن تقر في البرلمان، تثير هذه الميزانية احتجاجا في إثر التقليصات الواردة فيها في اجر العاملين في الخدمة العامة ومتقاعدي الجيش، وعلى الارتفاع المرتقب في الضرائب. ويقدر بان هذه الميزانية ستكون هي ايضا ميزانية عاجزة، الا انها لن تؤدي الى تغيير هام في الوضع الاقتصادي للبنان (موديس تقدر بان الدين سيرتفع الى 155 في المئة من الناتج القومي في 2023).
فضلا عن ذلك يبدو انه طرأ تغيير في موقف حزب الله من الموضوع، إذ انه ما كان يمكن للاستعداد اللبناني للمفاوضات ان يتاح لولا موافقة المنظمة، التي عززت قوتها في الانتخابات الاخيرة وتشكل اليوم عامل قوة رائدة ومؤثرة في الساحة السلطوية اللبنانية. يعرف حزب الله المنفعة الاقتصادية المرتقبة للبنان من تطوير التنقيب عن الغاز في البحر، وأهم من ذلك – تتوقع المنظمة نفسها ارباح من ذلك لها ايضا، في ضوء الضائقة التي تعيشها في اعقاب الارتفاع في نفقاتها (عقب التدخل في الحرب في سوريا) وتقلص مداخيلها (كنتيجة لاثار العقوبات الامريكية على سيدتها ايران واضافة الى العقوبات المباشرة التي فرضت على المنظمة نفسها). هذا التغيير في موقف حزب الله وان كان يزيد من الاحتمال لتحقيق اتفاق، ودور المنظمة في اجهزة الحكم يفرض عليها اعتبارات “رسمية” تؤثر على مواقفها في المواضيع المتعلقة بعلاقات لبنان – اسرائيل، الا ان المفاوضات مع ذلك ستكون صعبة ومركبة. وذلك على افتراض أن اللبنانيين سيطلبون نصيبا اكبر من ذاك الذي عرض عليهم في الماضي، بينما ينبغي الافتراض بانه لا يوجد أي سبب يجعل اسرائيل توافق على صيغة مغايرة لتلك التي عرضت في الماضي وتضمنت منذئذ تنازلا اسرائيليا (أي كما أسلفنا 55 في المئة للبنان و 45 في المئة لاسرائيل).
كما يذكر، بدأت اسرائيل التنقيب عن الغاز في البحر المتوسط قبل نحو 20 سنة. استثمارات كبرى في وضع خرائط للمخزونات المحتملة، في تقدير قيمتها الاقتصادية، في الحفريات التجريبية وفي اقامة البنى التحتية للانتاج والنقل للغاز الى اسرائيل، بررت نفسها عندما بدأ الاقتصاد الاسرائيلي ينتقل الى مصدر طاقة زهيد الثمن واكثر نظافة من النفط والفحم. واليوم، اكثر من ثلثي الكهرباء التي تنتج في اسرائيل مصدرها الغاز الطبيعي، وفضلا عن فضائله على مصادر الطاقة الاخرى، فان المردودات من انتاجه تثري صندوق الدولة. حل النزاع مع لبنان لم يغير وضع اسرائيل في مجال توريد الغاز الطبيعي، إذ للمدى البعيد ايضا، الكميات المعروف منذ الان عن وجودها تكفي لتلبية الاحتياجات الداخلية، بما في ذلك القدرة على استيفاء العقود القائمة لتوريد الغاز لجهات خارج اسرائيل، كالسلطة الفلسطينية، الاردن ومصر.
ومع ذلك، فان لحل النزاع مع لبنان آثار على المستوى الاستراتيجي مع لبنان وفي السياق الاقليمي على حد سواء. والمسألة الاساس هي هل تحقيق الاتفاق سيشكل حافزا لحزب الله للحفاظ على الهدوء على طول الحدود مع اسرائيل؟ انطلاقا من معرفة الواقع السياسي اللبناني، ينبغي الافتراض بان كل واحد من اللاعبين في هذه الساحة، وبينهم حزب الله ضمن نصيبه في المداخيل المتوقعة من الغاز. كما يوجد من يدعي بانه مع تعميق سيطرة حزب الله على الجهاز السلطوي يتسع احساس المسؤولية تجاه الدولة اللبنانية. كل هذا – اضافة الى ضائقاته الاخرى، كفيلة بان تساهم في التطلع من جانبه للحفاظ على الهدوء في الحدود مع اسرائيل.
في السياق الاقليمي، اذا تحقق توافق اسرائيلي لبناني، فستتمكن الدولتين من أن تفحصا معا امكانية العمل على تطوير منظومة للنقليات الاقليمية من شرق البحر المتوسط الى اوروبا (سوق محتملة هامة للغاز من شرق البحر المتوسط)، بمشاركة مصر وقبرص. يوجد ثلاثة بدائل اساسية لنقل الغاز الى اوروبا: منشآت تسييل في مصر و/او في قبرص ومنهما بالناقلات الى موانيء في اوروبا؛ انبوب من شرق البحر المتوسط الى المقصد في اوروبا؛ وانبوب، قصير نسبيا، يرتبط بشبكة الانابيب في تركيا. الكلفة العالية لكل واحد من البدائل تستوجب من كل الدول في شرقي البحر المتوسط الاستعداد للاستخدام المشترك لمنشآت التسيير من أجل تبرير الاستثمارات التي سيكون مصدرها من خارج المنطقة.
ينبغي التشديد على ان الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية هو خطوة حيوية، ولكنها ليست حصرية لبدء النشاط للبحث عن الغاز وانتاجه في المساحة موضع الخلاف. من شبه المؤكد ان الغاز الذي سيوجد في هذه المنطقة سيكون جزءا من حقل حدوده تشذ عن حدود المساحة التي ستتقرر في الاتفاق. اذا ما حلت مسألة ترسيم الحدود فان اسرائيل ولبنان ستضطران الى الوصول الى اتفاق لتوزيع الارباح من الانتاج في هذه المنطقةunitization، والذي من شأنه أن يتأخر هو ايضا بسبب الخلاف بين الطرفين. يمكن للبنان واسرائيل ان يمنعا التأخير في هذا الموضوع اذا ما وافقا على ايداع الحل الفني الاقتصادي لهذه المسألة في ايدي الشركات التي نالت الامتيازات على جانبي خط الحدود المتفق عليه، بينما يبقيان لنفسيهما الحق في اقرار مثل هذا الاتفاق.
على أي حال، رغم المصلحة المشتركة للوصول الى اتفاق، من المتوقع مفاوضات صعبة ومركبة، ستحتاج الى استعداد مناسب من الجانب الاسرائيلي. وبسبب تعقيد الموضوع والاثار العرضية لهذه المفاوضات على الامن القومي لاسرائيل، نقترح اقامة مديرية مختصة لادارتها، مثل تلك التي اقيمت قبيل المفاوضات مع الفلسطينيين، برئاسة مسؤول كبير ذي تجربة في ادارة المفاوضات. ان اهمية اقامة هذه المديرية تزداد في ضوء الربط الذي يجعله اللبنانيون بين الحدود البحرية وموضوع الحدود البرية. هذه المواضيع توجد بمسؤولية وزارات مختلفة وتحتاج الى تدخل جهات عديدة في الجهازين الامني والسياسي. وعليه، نقترح ان يكون القسم الاول من المفاوضات في مسألة ترسيم الحدود البحرية، لتقودها قيادة الامن القومي ووزارة الخارجية، ويشارك فيها خبراء في رسم الخرائط، اما في القسم الثاني من العملية وبعد الاتفاق على ترسيم الحدود، يأتي خبراء في الاقتصاد ومجال الطاقة للمشاركة.

(هآرتس)

السابق
عنصر بفتح أطلق النار بالهواء في مخيم عين الحلوة احتجاجا على عدم قبض راتبه
التالي
بوتين وورقة اليهود: هذه تفاصيل خطته للمنطقة.. «ما على باتروشيف إلا البلاغ»!