عن قصة صحافية مشتراة

قبل نحو عامين التقينا نحن مجموعة صحافيين عرب في متوسط عمرنا المهني، ونعمل في مؤسسات إعلامية عربية (كبيرة)، هي جزء من حال الانقسام الهائل الذي يشطر المنطقة، وقررنا أنه يجب أن تكون لنا مؤسسة إعلامية مستقلة، ليست جزءا من مشهد الانقسام وغير ممولة من أطرافه، وتتقدم هموم المهنة فيها أي همٍ آخر، مع احتفاظ المساهمين فيها، كتابة وقولا وتعبيرا، بحق الاختلاف، ضمن قيمٍ لا يمكن الحياد عنها.

المهمة لم تكن سهلة طبعا، لكننا وجدنا من يتبناها. مؤسسات مانحة أوروبية وغربية أعلنّا أسماءها ونسبة مساهمتها في موازنة المشروع.

اليوم وبعد نحو سنة ونصف على إطلاقنا المشروع، وعلى اختبار فكرته الرئيسية المتمثلة بإنتاج قصة صحافية مكتملة العناصر وتسعى للتخفف من أثقال التمويل السياسي والطائفي والقومي الذي ابتليت به معظم مؤسساتنا الإعلامية، صار يسعني البحث في مستوى آخر من مستويات أزمة الإعلام العربي، في ظل تخبطه اليوم في معضلة إفلاس حكومات دول المنطقة التي تتولى تمويله وتوجيهه.

اقرأ أيضاً: صفقةٌ يمكن لترامب وخامنئي إبرامها

الأزمة هائلة. صحف كبرى أقفلت مثل “الحياة”، وصحف أخرى مثلت مرحلة ولغة وخطابا وحروبا مثل السفير اللبنانية قرر ناشرها أن الوقت حان للمغادرة. وحين تفلس الحكومات تنكمش الأسواق، وما كان يتولاه السوق من حصة في التمويل ينعدم. والسوق هنا ليس خاضعا للعرض والطلب، إنما لنفوذ الدول وأجهزتها الحاكمة. ووسط هذا الانهيار الكبير، لا مكان إطلاقا للقارئ والمشاهد والمتصفح. هذا الأخير عنصر سلبي في حلقة الإعلام العربي. عنصر عديم التأثير ومنقاد بالكامل للجهات التي تقف وراء وسيلة الإعلام، وبالتالي وراء القصة الصحافية الناقصة أو المحرَفة التي تصله.

اليوم ووسط هذا الانهيار الكبير تلوح فرصة لإعادة الاعتبار لمستهلك الإعلام وللقارئ والمشاهد، بصفته “بيضة القبان” في القصة الصحافية. وحين تكاشف صحيفة “الغارديان” البريطانية قراءها بضرورة نجدتها لحماية الحقيقة التي تنقلها إليهم، فهي لا تطلب منهم الكثير. القصة الصحافية التي تقدمها “الغاردين” لقارئها تستحق الاحتضان، وخسائر القارئ في حال لجأت “الغاردين” إلى غيره لكي يتولى حمايتها من الانهيار كبيرة، فهي ستنقاد حكما لرغبة من أبقاها على قيد الحياة.

كيف لنا أن نبحث عن قارئ أو متصفح عربي يدرك أن الحقيقة ليست مجانية، وأن إيران أو السعودية أو قطر إذا ما تولت دفع ثمنها عنه فحينها ستصله القصة الصحافية التي تنسجم مع موقعهم فيها. وثمن الحقيقة التي على القارئ أن يدفعه ليس باهظا على الإطلاق. هو جزء من ثقافة يجب أن نبدأ ببنائها، والمهمة ليست سهلة ولم يسبق أن اختبرتها وسائل إعلامنا.

العالم كله شرع بالتفكير بعلاقة مختلفة بين الوسيلة الإعلامية وبين القارئ والمشاهد والـ”user”. علاقة مباشرة ويومية وتفاعلية يشعر طرفاها بمدى تأثيرهما ببعضهما بعضا. القارئ يجب ألا يبقى عنصرا سلبيا في معادلة النشر. هذا ما تسعى إليه وسائل الإعلام في العالم اليوم.

أليس غريبا مثلا ألا تجد صحيفة السفير اللبنانية، والتي مثلت مرحلة وجيلا وخطابا تخطى لبنان، من يقف إلى جانبها لكي تبقى على قيد الحياة. الأرجح أن حزب الله قرر أن يوقف دعمه لها فأقفلت. الصحيفة التي ولدت قبل الحزب والتي أنشأت قاعدة قراء وتأثير تتجاوزه طائفيا وجغرافيا تلاشت فور شعور الحزب بعدم الحاجة إليها. الصحيفة التي كان يتجاوز حضورها حجم خلافنا معها ومع موقعها، تمثل عينة عن سوء التفاهم الكبير في العلاقة مع قارئ لا يشعر بالمسؤولية حيال مشهد انهيارها. الأمر أشد تراجيدية بما يتعلق بصحيفة النهار، ذاك أن من تعانيه الأخيرة يمثل تداعيا لقرن كامل من عمر المهنة في لبنان. أفلس سعد الحريري فأفلست “النهار”. أي قدر هذا، وأي بؤس ينتظر المهنة إذا لم يتم تصويبها.

الحاجة إلى القصة الصحافية زادت، ومستوى انتشار وتأثير هذه القصة أصبح مضاعفا. القدرة على تفكيك القصة الركيكة وغير الموثقة صار أكبر بفعل تقنيات الـ”فاكت شاكينغ” المتاحة للجميع. إذا الخلل هو في مكان آخر، وهو ليس جديدا، إلا أنه لم يعد ممكنا أن نستمر من دون معالجته. الحكومات ليست الجهة الأمثل لصناعة الإعلام. الصحافة الممولة من السياسة وأهلها ورجالها صارت نكتة مضجرة. الأسواق أيضا ليست جهة صالحة لهذه المهمة، خصوصا أن الحكومات هي من يتحكم باستثماراتها في الاعلام، ناهيك عن أنها في العالم العربي محتكرة من قبل لوبي واحد.

إذا للبقاء على قيد الحياة يجب أن نباشر خطة لبناء علاقة مختلفة مع قارئ ومع مستخدم يشعر بالمسؤولية حيال الحقيقة، وقبل هذا يجب أن نعثر على من يؤمن بأن قصتنا الصحافية غير مشتراة، وأنها لا تخدم سوى معرفته الحقيقة، ولكي نعثر على هذا القارئ يجب أن تكون قصتنا هذه غير مشتراة فعلا.

السابق
هل قلصت زيارة بومبيو لألمانيا الخلافات بين واشنطن وبرلين؟
التالي
أصحاب «المولدات الكهربائية»: لسنا «قرطة حراميّة» ولا مافيا استغلاليّة!