حنين شيعي إلى «الزمن العربي»

حازم الأمين

لإيران نفوذ واسع في العراق، وللولايات المتحدة الأميركية أيضا. نفوذان متفاوتان وغير مرئيان، وهما، على رغم الخصومة الهائلة بينهما، لم يباشرا حتى الآن صداما في بغداد، لا بل يمكن للمرء أن يعثر على تقاطعات يلتقيا عندها، ليس أقلها حرصهما على العلاقة مع السلطات “الشيعية” المحلية، والحرب على “داعش”، وقد يلتقيا أحيانا عند رغبتهما بعدم ضم المزيد من أصحاب الطموحات الإقليميين إلى حديقتهما العراقية.

القوى والأحزاب الحاكمة في العراق صارت تدرك طبيعة هذه المعادلة، وهي تجيد اللعب على ضفافها. لكنها في ذات الوقت تعد نفسها لتغييرات قد تصيب هذه المعادلة. ففي الأسبوع الفائت مثلا توجه وفد عراقي رسمي كبير إلى الرياض، كان على رأسه رئيس الحكومة العراقية عادل عبد المهدي، والرجل كان خيارا إيرانيا حين سُمي رئيسا للحكومة. ويبدو أن واشنطن كان لها دور كبير في تنظيم الزيارة. الرياض أيضا حرصت على تصويرها بصفتها محطة استثنائية في العلاقة مع بغداد.

الزيارة خلفت حنينا عراقيا لـ”الزمن العربي”، إلا أن أصحاب هذا الحنين مارسوا تقية ولم يصرحوا عن غبطتهم في بغداد، ذاك أن عيون طهران تحصي عليهم مشاعرهم. وطهران من جهتها لم تكن غاضبة من الزيارة، فهي في موقع المُحاصر، وأي نافذة جديدة قد يتسرب منها بعض الهواء.

اقرأ أيضاً: إيران وحلفاؤها في دوامة أزمة العقوبات

الرياض أرادت من الزيارة ما لم ترده طهران. أرادت إقفال نوافذا على طهران، وأرادت حضورا منافسا لها في بغداد. واشنطن أيضا نظمت الزيارة معتقدة أن ذلك قد يفتح أفقا بديلا للعراق.

هذا المشهد المعقد يلتقي على توافق على ما يبدو يتمثل بالسماح للجميع في أن يلعب في العراق. ويبدو أن قوى السلطة في العراق تدرك هذه الحسابات، وهي على رغم اندراجها بين نفوذي طهران وواشنطن، ليست مستتبعة بالكامل على نحو ما هو مستتبع لبنان مثلا. اللعبة في العراق مختلفة، وإيران شريك بالنفوذ وليست مطلقة اليد، وواشنطن أيضا. وهذا خلف مساحات تحرك للعراقيين يمكن للمرء أن يرصده في بلاد الرافدين.

المسؤولون بغداد متخوفون من أن تضيق مساحات التحرك في ظل تصاعد المواجهة بين صاحبي النفوذ. لكن في المقابل تبدو الحقائق العراقية أثقل من أن تعدل منها مواجهات وحُزم عقوبات. الباحث عن مصادر نفوذ طهران في العراق سيُدهش من صعوبة العثور عليها.

العراقيون الشيعة، مسؤولون ومواطنون، لا يشعرون بالراحة من طوفان البضائع والشعائر الإيرانية في بغداد. في الضاحية الجنوبية لبيروت تظهر صور خامنئي على نحو طوفاني. في بغداد لا أثر لهذه الصور، وهي إن وجدت، فعلى نحو خجول وغير مجاهر.

سائق التاكسي الذي كان مقاتلا في سوريا مع “عصائب أهل الحق”، سريعا ما يكشف لك عن ضيقه بتدفق البضائع الإيرانية وعن “المعاملة السيئة” التي تعرض لها كعربي حين كان يزور مقام الإمام الهادي في مشهد.

سبعة أيام أمضيتها في بغداد معظمها في مناطق الشيعة وفي منازل مسؤولين كبار منهم، ولم أسمع كلمة إيجابية واحدة عن الدور الإيراني. مرة واحدة خلال الزيارة استعرض أمامي سياسي عراقي، من غير حلفاء طهران، حقيقة أن العلاقة بين البلدين تتعدى المشهد السياسي الراهن، وأن إيران وعلى رغم الحروب والنزاعات تمثل للعراق عمقا اجتماعيا ومذهبيا واقتصاديا، والعكس صحيح، وأن تجاوز هذه الحقيقة خلال تفسير المشهد الراهن يبقى أمرا غير واقعي.

لكن الإشارة إلى “الحنين إلى الزمن العربي”، تتطلب التوقف عندها، على رغم ما تحمله من ابتذال وركاكة في صورها ومعانيها؛ فزائر بغداد سيلمس هذا “الحنين” لدى سياسيين شيعة أكثر من أقرانهم السنة، إذ أن الأخيرين لم يجروا قطيعة مع هذا الزمن، في حين يبدي الشيعة شوقا فعليا إليه، ومرارة من استبعادهم عنه.

لواشنطن أيضا حضور مواز ومشابه على رغم أنه حديث. الدولة العراقية الجديدة أُسست تحت أنظار السفارة الأميركية في بغداد، والأخيرة تدرك جيدا أن ابتعاد واشنطن سيكسر الكثير من التوازنات العراقية الهشة أصلا. هزيمة “داعش” ما كان يمكن أن تتم من دون واشنطن. التنظيم الإرهابي كان على أبواب بغداد وأربيل، ومن كان في الموصل حين تم تحريرها يدرك أن ذلك ما كان ليحصل لولا الحرب الجوية التي أسعفت فيها واشنطن جيش العراق وحشوده.

العراق اليوم أمام احتمالات افتراق الخصمين المتعايشين في بلاد الرافدين. من جهة يشعر زائر بغداد أنه وعلى رغم الفوضى والفساد والوهن أن عاصمة الرشيد بدأت تلتقط أنفاسا وتؤسس لموقع لها وسط هذا المشهد المعقد، ومن جهة أخرى يشعر أن توازنا هشا مهددا بالانهيار في حال قرر أحد الخصمين خوض المواجهة في العراق. طهران ليست في وارد فتح هذه المواجهة، فهي في الموقع الأضعف اقتصاديا، والقابليات العراقية للابتعاد عنها موجودة على رغم متانة نفوذها. لكن واشنطن تمارس جهودا من أجل إنتاج وضع عراقي يسمح بالابتعاد. مهمة واشنطن ليست سهلة، والعراقيون، من غير محبي طهران، يدركون أن كارثة بانتظارهم إذا ما وضعوا بمواجهة المصالح الإيرانية في بلدهم.

في بغداد تراجع كبير في شعبية طهران، لكن الذهاب بهذه الحقيقة إلى استنتاج أن اللحظة سانحة للابتعاد عن إيران لن يكون واقعيا.

السابق
هؤلاء هم المتضررون من العقوبات الاقتصادية على حزب الله
التالي
اليونيفيل تؤكد وجود نفق ثالث يعبر الخط الازرق في انتهاك للقرار 1701