متل سيرة الحيّات

الحية
"متل سيرة الحيّات" أي كالحديث عن الأفاعي، هكذا يعلقّون عند توصيف مواضيع كثر الكلام فيها، ورغب المستمعون بتناولها ليفرغون ما اختزنته الذاكرة من تجربتهم، وراح المتحدثون يتزاركون على الكلام.

فعند أبناء القرى وغالباً أيام الصيف الحارة، كثيراً ما يصادف الناس الأفاعي أثناء تجولهم على الطرقات وبين الحقول، يتعرضون معها لمغامرات فيها الكثير من التشويق، وطبعاً لكل شخص انفعالاته وقصته، ولكل أفعى اسمها وشكلها، ومدى خطرها، وطريقة قتلها، فتشكل كل حادثة رواية، من هنا جاء المثل ليقول: “متل سيرة الحيّات”.
“متل سيرة الحيات”، قال صديقنا حين شرعت للحديث عن الضابط السوري الذي كان يترأس المركز العسكري للجيش السوري الموجود داخل حرم كلية العلوم في الجامعة البنانية قرب المدينة الرياضية في بيروت خلال فترة الوجود السوري في لبنان.
عام 1990 كنّا وقتها سنة أولى في الكلية، ومبنى الكلية هذا، هو في الأصل مبنى تابع لوزارة التربية وتحديداً لدار المعلمين والمعلمات، وقد شغلته الجامعة اللبنانية ككلية علوم الفرع الأول لأن المبنى الأساسي للكلية هو خط تماس في الحدث وقد دمرته الحرب، وأعيد بناؤه لاحقاً.
كان المركز العسكري عبارة عن بعض الغرف الملاصقة للصفوف، بل كانت صفوفاً للدراسة قبل أن تتحول لمكاتب جدرانها سوداء من كثرة الدخان المنبعث من الخشب الذي كان يحرق داخلها للتدفئة، وأذكر أن وصل الأمر في بعض أيام الشتاء الى حرق خزائن وأدراج وطاولات وأبواب المبنى. وعلى هذه الجدران السوداء كتبت عبارات عن سوريا الأسد والبعث وعلّقت صور كثيرة لآل الأسد أيضاً.

اقرأ أيضاً: أينما حلت الأنظمة الشمولية والاشتراكية حل معها الخراب… ولكن

فمن المشاهد القاسية العالقة في ذاكرتي، هي تعذيب العسكريين الصباحي، أمام هذه المكاتب وعلى مرأى طلاب الجامعة، كان يقف ضابط وبيده سلك نحاسي بطول متر تقريباً، وأمامه تمدد عسكري شبه عاري، مكبل بالحبال، وهو ينهال عليه ضرباً بهذا السلك، ليخرق صوت صراخه قاعات الجامعة كلها. والمؤلم أكثر أن العسكريين أنفسهم هم المجبورون على تكبيل بعضهم البعض، وعليهم أيضاً مساعدة الضابط على تعذيب رفاقهم، ولكل واحد منهم دوره المنتظر، فهذا المشهد قد يتكرر مرات عديدة في الأسبوع.
كانت الطريق الى قاعات دروسنا تبدأ بالبوابة الأساسية للكلية، فالمدخل، ثم ممر طويل يمتد على جانبي باحة كبيرة نصل من خلاله الى ثلاث قاعات كانت مخصصة للسنة الأولى.
ولأن المبنى هو في الأصل ليس جامعياً، وغير معدّ للنشاطات الرياضية، فكنّا نستفيد من الباحة الكبيرة، نمارس فيها رياضة كرة الطائرة، بعد أن قمنا وبعض الزملاء بتخطيط الأرض وتركيب شبكة في الوسط.
لم يكن حماسي الرياضي هذا، ناجم عن قناعتي بأهمية وضرورة ممارسة الرياضة، لكنه بحثاً عن مساحات ترفيه وتسلية تخفف من الملّل وثقل الدرس وهمومه.
أيام قليلة مرّت بعد استحداث الملعب، ليصبح الضابط السوري واحد من اللاعبين الدائمين، فقد اكتشف موهبته وقرّر أن يشاركنا اللعبة كلما أتيحت الفرصة لنا باللعب، فقد فرض نفسه لاعباً أساسياً، وطبعاً هو القائد، الآمر الناهي، في كل تفصيل يبدأ باللعبة ولا ينتهي عند حدود الكلية وحدود الوطن.
طاب للضابط وجود فرصة للرياضة والتسلية اليومية قريبة من مكتبه، فقرر أن ينشئ مجموعة من بعض الطلاب يشكلون فريقاً يلعب بينهم. ولسوء حظي وقع الخيار عليّ أن أكون واحداً من هذه المجموعة.
لم أكن رياضياً، وما هويت الرياضة يوماً أو حتى تابعت نشاطاً رياضياً، حتى ساعات الرياضة القليلة في المدرسة لم تكن تعني لي شيئا،ً على خلاف سائر التلاميذ الذين يجدون فيها الأفادة والمتعة ووقتاً للتسلية والمرح. وقع خياره عليّ لسبب ما زلت أجهله، لعّل القدر أراد أن يضيف سبباً آخر يعزز سلبية موقفي من أترابه ومن الرياضة.
لم أفلح بالهروب من المأزق اليومي، فطريق قاعة الدرس تمر بالباحة. كان عليّ أن ألعب رغماً عني وبشكل يومي، فحين أحاول التملص لسبب أو لآخر من اللعبة، كان يجبرني على مشاركة الفريق باللعب، أخترع له أسباباً دون جدوى. فكان أعضاء فريق الضابط يتعرضون للاهانات والشتائم بشكل متواصل، وكلمة “حقير” حلّت مكان كل اسم من اسمائنا على مدار الوقت، “ردّها لك حقير”، “ليش ما شلتها لك حقير” ونحن نلعب رغم أنوفنا، بأياد ترتجف وقلوب تخفق خوفاً.
أذكر يوماً، أن الضابط السوري ارسل أحد الطلاب لاستدعائي من داخل حصة رياضيات كنت اتابعها، فقد احتاجني لأكون لاعباً، يكمل فيه فريقه، امتعضت من حجم سلطته، بأن يخرجني من صفي ليرضي أنانيته، وأدّى غضبي هذا وفشلي بردّ ضربة طابة الى خسارة الفريق، فكانا السبب لنيلي تلك الصفعة القوية القاسية والموجعة، كوجع الكثيرين ووجع الوطن كلّه في تلك المرحلة، صفعة صعب نسيانها.

السابق
«لقاء سيدة الجبل» زار غبطة البطريرك الراعي داعماً مواقفه في حماية الصيغة اللبنانية
التالي
إيران نفت نيتها تطوير مدى صواريخها