عندما يمنّنا «الزعيم الملهم» بإنجازاته: أنتم أحياء

التلوث
الموت، التلوث، الفقر، الاستعباد، التجهيل، السرقة، مصطلحات ومفاهيم تشكل مصدر قوة الحاكم في لبنان، من هنا لا يمكن أن يصل اللبنانيون إلى ما هو أفضل من واقعهم الذي يعيشونه، إن لم يحدث تغيير في التفكير، وإن لم نستطع الخروج من الحلقة المفرغة أو الدوامة التي وقعنا فيها وندور كل يوم حول أنفسنا من دون أن نرى أو نلمس بارقة أمل في هذا الدوران، إن لم نظهر أننا على عداء مستحكم مع هذه المصطلحات والمفاهيم.

في صناعة الخراب اللبناني

وصل حال اللبنانيين مع السلطة التي تدير البلاد، إلى مرحلة باتت السلطة فيها تمنّن شعبها، بأنها لا تطلق النار على المواطنين صبيحة كل يوم، فهذا “الإنجاز” الذي يتحفنا به كل يوم صاحب السلطان عن توفير الأمن، يقول للّبنانيين الذين احتفلوا باليوبيل الماسّي للاستقلال، إنكم لا زلتم تتنفسون، ولازالت الشمس تشرق في الصباح وتغيب في المساء.

الأنكى من ذلك هو أن يطالعك هذا “الزعيم المفوّه” أو ذاك “القائد الملهم” أنه يحميك من غدر المتربصين بك، ممن تظنهم مواطنين مثلك، ليضيف كمن يسرّ إليك بأسرار الآلهة، أنهم يستعدون ليل نهار للانقضاض عليك، وأنا زعيمك وقائدك من يحميك من حقدهم، وهذا فعل أقوم به تقرباً إلى الله تعالى، أو يقول آخر هذا ما تعلمته في مدرسة الشهيد والشهداء.

اقرأ أيضاً: لبنان في الكوما الإيرانية

استغباء واستحمار الشعب اللبناني “العظيم” يفسره إيغال السلطة في تدمير الدولة، وإنهاكها بسوء القيادة والإدارة، وبنهب ثرواتها أو إفسادها، باللامسؤولية تجاه حقوق الناس، بالتبجح في الحديث عن الكرامة الوطنية أو الطائفية. أما “المقاومة” فهنا الطامة الكبرى فقد صارت عبارة لا تعني شيئاً في وعي المواطنين، إلا القبول بالظلم وتغطية السرقة، والتشبيح، لا تعني الاّ الاستقواء على اللبناني.

لا أفهم كيف أنه في زمن هذه “المقاومة” وانتصاراتها الإلهية صار لبنان في أسوأ مرحلة من مراحل تاريخه الحديث، منسوب الفساد فيه زاد وحلّق… ، منسوب العدالة تراجع، اليأس استحكم بالناس، قيّم البلطجة، والتشبيح ترسخت في زمن الانتصار أكثر مما كان عليه الحال خلال الحروب وحتى الاحتلال، البطالة والفقر ازدادا، التلوث في الهواء والماء وفي النفوس، زاد وتفاقم إلى حدّ الاختناق، ما معنى كل هذه الانتصارات إن لم تترجم مزيدا من احترام الانسان، وما معنى الانتصارعلى العدو سواء كان “إرهاباً” او “استعماريا صهيونيا وامبرياليا”، إن لم يترجم مزيداً من تعزيز قيّم العدالة والمساواة وأسس الدولة وان لم يحل دون تراجع الظلم الاجتماعي والاقتصادي.

لا معنى للانتصارات إن لم تتحول الى خطط بناء للإنسان وللدولة وتثبيت للقانون والنظام، لذا هي لم تكن إلا وسيلة وفرصة للاستقواء ليس على العدو، بل على اللبناني، وفرصة لاستعراضات طائفية ومذهبية ولادعاءات فارغة بالتميّز، لكأن اللبنانيين يختلفون في أخلاقهم وفي تربيتهم وفي مطالب عيشهم بعضا عن البعض الآخر.

من قال إن هناك وظيفة للسلطة غير تحسين شروط عيش المواطنين، ومن قال إن وظيفة السلطة في أي دولة تحترم واجباتها، هي تحويل الناس إلى عبيد للمسؤول فيها، السلطة مطالبة بأن توفر ظروفاً مادية ومعنوية وقيمية، لتنتج ما يعزز في الشعب قيّم العدل والمعرفة واحترام القانون، وظيفة السلطة معنية أن ترتقي بشعبها إلى مصاف الشعوب الراقية، لا الشعوب والدول المستلبة في إرادتها.

في المقابل نجد أن شعوباً تفتقد النخب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأكاديمية وفنية حيّة، هي شعوب عاجزة عن التفكير أو فاقدة لارادة التعبير والنقد والتحرر، هي شعوب فاقدة لفرص الارتقاء في عيشها وفي اجتماعها السياسي.

في لبنان نجحت السلطة في إقصاء مثل هذه النخب، عندما أعلت من شأن القوة الجاهلة والعمياء، فإذا نظرت إلى النخبة الحاكمة أو المحيطة بهذا الزعيم أو ذاك، لوجدت من دون أن تضطر الى التدقيق، أن الذين يحيطون بهذا “القائد الملهم” أو “الزعيم المفدى” ميزتهم الولاء المطلق، ولا يمكن لمثل هذا الشرط أن ينطبق على إنسان أو رجل معرفة يعتد بعلمه وما اكتسبه من معرفة.

اقرأ أيضاً: ورشة استنهاض الدولة في «المجلس الجنوبي» لعام كامل

هذا شرط ينطبق على من لديهم شعور بنقيصة ما أو يتميزون بشهية عالية ومرضية للسلطة من أجل السلطة، فيما الزعيم أو القائد غالبا ما يشعر أنه لا بد من أن يكون المحيطون به أو المؤيدون له، هم ممن لديهم قابلية التبجيل والانسحاق أمامه.

ربما هذا ليس جديدا في قاموس السلطة في الدول المتخلفة ولبنان منها، لكن ما وصل اليه الانحدار في لبنان، أن أصحاب المعرفة والمتميزين في مجالات فكرية واقتصادية وإدارية وثقافية، هم النخبة التي تمّ تعطيلها أو تهجيرها، إن لم نقل القضاء عليها، وهنا يكمن سرّ هذا الانهيار القيّمي الذي جعل من استباحة الحق العام، والحقوق الخاصة مسألة عادية، وهو ما جعل اللبنانيون في معظمهم، مجرد قطعان متسابقة لا تدرك أنها تسرع نحو حتفها، ومن في المقدمة ظنّ أنه القطيع المتفوق، فيما هو أول الواصلين الى “المسلخ”.

السابق
حزب الله.. وما بعد بعد النساء
التالي
في ظل العقوبات ومأزق خاشقجي ما هي مآلات الصراع الإيراني – السعودي؟