عبدو قاعي يعالج الجوع بالصوم

إن كثيرين من أحبابي، لا يستقرون، أو لا أدعهم يستقرون، في منزل واحد من بيتي أو ذاتي، وكلما اعتراني هاجس، أو خوف، أو قرف، أو فرح، أو شوق، أو رجاء، أو حزن، أو رغبة في الإفضاء، استدعيتهم على عجل، فتركوا ما بأيديهم، وليس فيها شيء، وأتوا إلى قلبي أو عيني أو صوتي أو دفتري مرة.. وإلى صمتي أو صلاتي مرات.
فهم إذن حالة أو حال أو حالات أو أحوال في حالي وأحوالي. وسبحان محوّل الأحوال ومقلب القلوب !
وعندما يأتونني، يأتيني أمر يشبه الفيض، كأني تعرضت لتوي إلى شمس بزغت كفجاءة من ثغرة في غيمة سوداء، وتأخذ جوانحي وجوارحي تضطرب، وكأنها تتزاحم إلى الكشف والمكاشفة.. ما أسميه اكتشاف الذات في الآخر وإغراء الآخر باكتشاف ذاته في الآخر، حيث تتحقق الكثرة بالوحدة ـ وتتجلى الوحدة في الكثرة.
{إن في اختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب.. سبحانك ما خلقت هذا باطلاً ربنا فقنا عذاب النار}.
عبدو قاعي، يأتي فيهم، أولهم أو وسطهم أو في ساقتهم، وكثيراً ما يأتيني وحده، وأنا وحدي، يميل فأتمايل، يدس لي جرعة من غنوص مسيحي، وأدله على مشتل الحب في فتوحات ابن عربي ومثنوي مولانا الرومي.
كأنه من أحوالي، يداهمني كالنعاس أو اليقظة، كأنه رعد أو مطر ربيعي يهطل نابعاً من الشمس أو كأنه أنهار وجداول من نور..

اقرأ أيضاً: ظاهر ريشا

يقول أبو تمام :
” مطر يذوب الصحو فيه وخلفه صحو يكاد من النضارة يمطرُ”…
سَحَراً يطرق بابي عبدو، وكأن بيتي كنيسة الحي أو مسجده، يقطع علي أحلام يقظتي بالسلام..
يا عبدو، أتا تعبان.. موجوع، أريد أن أرتاح.. يضحك عبدو بألم كأنه إرثه من أبيه، وكأنه ممغوص أو مغصوص، لا من أحد، بل من شيء ما.. من أشياء، كلنا نعاينها ونعاني.. ولكن عبدو يعز عليه أن تغادره أوجاعه ولو للراحة قليلاً. ويعالج جوعه بالصوم، صوم الوصال، ويأتي شاحباً، مبتهجاً يقول : الحمد لله.. مضى شهر رمضانوالصوم الكبير.. وغداً فطر وفصح، وأنا لم ألُك قِطعة من لحم الدين والوطن، ولا كبد المسيح ومحمد.. قاطع، قاطع، قَطَعَفَقَطَع.
إذنيا رفيقي كيف تصل إلى ربك وأنت هزيل هكذا ؟
لأني هزيل ضعيف فهو يأتي إليّ.. ولأني.. أصلي وأحب، أو أصلي فأحب، أو أحب فأصلني، فيحبني ويصلني.
وما هي إلا كلمات، ويكون عبدو قاعي قد نقلني من وجعي إلى وجعه، حتى لأبدو حياله وكأني في عافية.. ويحتل البيت، يقلب كل شيء فيه وفيَّ، وكأنه يعبث أو يلعب، أو كأنه مخبر مأمور أو خطيب مسجد أو كاهن ضيعة، كلفه رئيسه بالتفتيش في قميصي الداخلية، عن إيماني ونيتي في الكفر، التي تهجم علي كل يوم، وأكبحها، فينهمر ماء اليقين في يقيني.
ومن الكتاب إلى الذاكرة، ومن الجرح إلى الرجاء.. لا يهدأ عبدو ولا يدعني أهدأ، يرخي عينيه في صدره، وينام على صدري، هو ينام وأنا أحلم..
يا عبدو “يخيل إليك أنه لم يعد بوسعك مواصلة الحياة، يخيل إليك أن نور روحك قد انطفأ، وأنك ستعيش في الظلام إلى الأبد، لكن عندما يبتلعك الظلام الدامس، عندما تطبق عيناك على العالم، تُفتح عين ثالثة في قلبك، عندها فقط، تدرك أن البصر يتناقض مع المعرفة الداخلية”.
{إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} .وعن رسول الله “بعضكم أكثر صلاة وصوماً وحجاً وزكاة من بعض، وأكثركم معرفة أقواكم إيماناً”.
كنت أستاء عندما يقول لي عبدو ( مْحمد) بالعامية لا مُحمد.. وتبين لي أن عبدو لا يتهاون، بل يرفع الكلفة بينه وبين نبي الإسلام، لأنه يزوره في بيت قلبه يومياً مع المسيح.. ويحاول إقناعك بأنهما شقيقاه، يا عبدو (هديها شويْ).. ويردّ : ولو ! أما قال نبيكم بأن القرابة أحوج إلى المودة من المودة إلى القرابة !!
ولكم تجرح أذني وروحي فصاحة كثير من أهل ملتي وملل أخرى. يا عبدو.. أنا أصطفيك تلميذاً لي لأعلمك فتعلمني الحب في زمن الحرب.. لأرد لك إياه حُباً.. أو حَباً من حُب.
عبدو قاعي.. أكاشفك بأني صرت مثلك، لم يعد الآخر المختلف دائماً، طارئاً على بيتي، أصبح له غرفة فيه، مفتاحها في جيبه أو قلبه، يخرج ساعة يشاء ويدخل ساعة يشاء، وينام أو يسهر، يصلي الأبانا أو يقرأ الفاتحة.. وله حمامه المستقل.. وإذا شاء أن يأكل وحده، فبإمكانه أن يبني مطبخه على ذوقه.
يا عبدو.. صرت مثلك.. أطول منك.. ولكني لست أكثف أو أحلى. وما زلت أتعاطى، بحكم العادة، قليلاً من السياسة.. وأطمئنك، سوف أقلع كما أقلعت عن التدخين والبغضاء.
يا عبدو، أنا أسمر فاتح.. ولكن شفافيتك تغريني.
يا عبدو، يا ناس يا هو، يقول زين العابدين :” إن بعض الناس يدعون إخوانهم إلى الجنة ويزينونها لهم، ولو كانت كما الدنيا في أيديهم لما تنازلوا لهم عن شبر واحد منها”.
يا عبدو.. إن كثيراً من العظات تجعل الجنة اسماً آخر لجهنم، يا عبدو اسمع من القرآن :{قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً، الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنياوهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً} .وإذا كان الغرور بالإيمان يفتح باب الكفر، فكيف بالغرور بالطغيان والاستبداد والفساد والجهل !!!
قاديشا..قاديشو
حوار في الوادي

تبهرني عمائر عملاقة مبنية للدنيا.. أو الدين ؟ ولكنها سرعان ما تعيدني إلى ذكريات الفقر، التي تحيلها الألفة والشراكة، إلى لذاذاتوجمالات عذبة سائغة وهنيئة.. وليس مبالغة ان بعض الثمار المرة أحلى من الحلى، وأن بعض الحلاوات تربط بمرارتها لسان من يَطْعَمُها إن كان تقياً والتفت إلى الحرام فأدركته غصة وتداركته التوبة.
وقد يكون الذنب ضرورياً لاكتشاف قيمة التوبة، وقد جاء في المأثور النبوي “كل ابن آدم خطّاء وخير الخطّائين التوابون “… أمام العمائر المترفة.. أشتاق إلى بيتي القديم، إلى الغرفة الطينية ذات الوظائف التي تتعدد بتعدد المواقيت والمواعيد بين الليل والنهار، والصيف والشتاء، كأي وطن أكبر من وطن كلبنان.. كانت تبقى ضيقة مهما اتسعت، وفي لحظة تسع الدنيا أو الضيعة كلها.. يكون القلب الواسع قد مد يده اليها فصارت تتسع لألف صديق وحبيب، لشد ما كانت قلوبنا واسعة، ولشد ما صارت بيوتنا واسعة ولكن عامريها قلّوا ويقلّون !!
هذه العمائر، الحفائر، القصور الموغلة في الداخل كأنها تريد الذهاب إلى منابع النور ومصادر الوحي، هذه (الثقوب الفقيرة) التي تشاكل ناحتيها وساكنيها وتثبت أنه وكما المكان بالمكين فإن المكين بالمكان.. قنوبين.. قاديشا، شاهدان على هذه المعادلة.. واديان ولكن الهيبة هيبة الذروات.. والشعاب الذاهبة من محبسة إلى محبسة، كأنها شماريخ الأعالي، أو شرايين الزمان.. وكم كانت السواعد التي حفرت هذه الصخور الصلدة، صلبة وناعمة كيد الله ؟ لقد أثارت غيرتي في لحظة فصال يأتي إلى ذهني خلسة من طراطيش الحرب الملعونة.. وعندما استقرت عيني على الإنسان في تلابيبها.. تجلى التوحيد وحدة {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً} .. وإذا لم تلتق الرسالات في المصدر والمجرى والمورد، لا تبقى رسالات ولا نبوّات.
” ليس عندهم سوى عصي من خشب ولكنهم أساقفة من ذهب”، عظيم وها هم قد أغروني بالذهاب من زماني إلى زمانهم لعلّي أعود إلى زماني أسْطَعَ حضوراً.. ولا أظن ان عضلات من حفروا إيمانهم في هذه الصخور العنيدة، كانت أكبر من عضلاتنا.. كانت أقوى، لأنها عضلات روحية، عضلات الروح، التي يزيدها الاضطهاد قوة ووهجاً.. عضلات يجري فيها الصبر مع الدم، يصبح الدم صبراً والأوردة أزاميل.. ويتحول العظم إلى عظمة والصخر إلى شعر وصلاة.
كانت ملحمة النبوة اقتضت أن يهاجر أبونا التوحيدي إبراهيم مع سارة وإسحاق لتبقى هاجر وولدها إسماعيل في صحراء الحجاز، في هجير مكة.. ولكن إبراهيم خليل الله يعرف مكانته عند خليله.. ودّعهما ونظر بعينين حزينتين واثقتين نحو السماء، ثم حدّق فيهما، ثم أعاد النظر إلى السماء.. فرأى {ما كذب الفؤاد ما رأى} ، {رأى من آيات ربه الكبرى} .. رأى فدعا {ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة، فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون} ، وانفجر الرمل عن ماء زمزم وصار الوادي المقحل ذا زرع وغلال.. وصار محجة تأتيه الأجساد والقلوب والخيرات من كل الجهات لتتجلى عافية وتوحيداَ ووحدة.
كأن النهر كان ينتظرهم ليحولوا الوديان إلى كروم وحقول حنطة.. ويحفروا منازلهم، أعشاش الفينيق، وقبورهم، بالإبر، ليغار منهم الصبر والصبار.. وها هي أفئدة من الناس تهوي إليهم.. وتهواهم.. وتشم هواهم.
أبونا مارون على مهلك.. طول بالك.. أهلكتنا..
أف.. ما أبهى هذا الوجع في المفاصل.. وهذا العرق المتصبب حتى من إنسان العين.
كنا نخوض الفيافي والوديان بحثاً عن أعشاش العصافير
اليوم بحثنا عن أعشاش البشر، فعثرنا على ناس، على الناس، على الانسان، على الانس، فأنسنا واستأنسنا وتأنسنا وقررنا أن نعيد البناء معاً.. من هنا من أحجار الروح وطين الحب.. ولون الشفق والغسق.. على تراتيل القبّرةالتي تعلمتها من سكان المحابس.. يا مارون إني مشتاق إلى الكعبة.. إلى غار حراء في جبل أبي قبيس الذي قال عنه الرسول “جبل يحبنا ونحبه”، إلى مكة.. إلى العفو النبوي عن الخطاة.. حيث كان في مكة حجر يكلم الرسول ويسلم عليه.. سلاماً على هذه الحجارة الممتلئة حياة وصلاة.. آه لو ترافقني إلى هناك يا مارون عطالله.
لا أدري من أين أتتني هذه القوة ؟ على أن في مجموعتنا من يكبرني بعشر سنوات أو أكثر.. وفي لحظة استراحة من أجلي.. اكتشفت أن رفيقي البيروتي الرشيق يعاني من عطل مزمن في إحدى ركبتيه.. ولا يتوجع ولا يلهث ولا يتأفف.. وهكذا تنتعش الروح بالجماعة عندما تتنوع وتجتمع وتذهب في البحث عما يجمع من حلم، ووجع وذاكرة مهما تلونت بخصوصياتها فإنها تزدهر وتزهر بالشراكة.
وفي ذروة الانتعاش تمارس الروح سلطتها على الجسد، تأمره فيأتمر وإلا فكيف عاش من عاش في هذا الوادي عمره كله عندما كانت الوعورة أوعر، والوحوش أوحش، عاشوا وعاش الوادي بهم، حتى أصبحت أعماقه قمماً وسفوحه مطلات على السماء وشرفات على الأهل والغد، وقممه تحديقاً في الأعماق، في قلب الله.. وأشواق البشر.. التائقين إلى العتق والخبز الحلال.
كانوا يتممون غذاءهم القليل والمتواضع بالزهد، ويردون شر الجور بالصبر، والإصرار على الفناء طريقاً إلى الحياة ويقاومون الأرذال والرذائل بالعفة، ويواجهون قيافاً بوجه يسوع، حتى لانت الصخور، وتحولت الثقوب الفقيرة إلى حافظات كنور، وأصبح مثال الموارنة في أمسهم.. وهل مثال غيرهم في غير أمسه !!
ولكم تمنيت وأنا في وادي قاديشا أن لو بقيت الكعبة ومحجات المسلمين كما كانت.. لكانت أمتع للروح.. ولعل هناك أهمية إضافية لهذه الأيقونات الصخرية الحنّانة الباذخة.. هي أنها لم يصنعها حاكم عادل ولا جائر ولا دخل فيها مال مشبوه. من هنا كان بإمكاني أن أستوعب خصوصيتها المسيحية أو المارونية وأتجاوزها إلى فضائها التوحيدي والإنساني كفضاء للشراكة، من دون أن أبخس الموارنة حقهم بالفخر بأن تكون أساساتهم اللبنانية بهذا الحجم من الأبهة.. على أن يفطنوا إلى ضرورة الإضافة اليها من خلال توطينها، أي التسليم أو الرغبة بتحويلها إلى مشترك من خلال العيش المشترك.. وإلا فسوف يكونون محرومين من نِعم دلالاتها ونداءاتها.. من دون أن يكون بإمكان أحد منهم أن يحرمني من لذة الزيارة واكتشاف معنى التاريخ في الجغرافيا ومعنى الوحدة في التعدد، ومعنى الحب في الحجر ومعنى الصلاة في المعول. ذلك.. أننا قررنا وبشكل نهائي أن نعيش.. ولن نعيش إلا معاً. أي بالسلام.. ومن أراد أن يصنع حرباً فليصنعها لنفسه ولمن يتبعه من أهل الجهالة ويقابله من جهلاء الجماعات. أما أنا فلن أحرم نفسي من تناول تفاحة طازجة أقطفها بيدي من بستان في بشري أو حصرون أو حوقا أو بزعون.. وأكدشها بشراهة وطنية في ظل أرزة شامخة فارهة.. وخالدة.
كانت سياحة روحية وتجربة نوعية في الاندماج، أي إعادة اكتشاف وجهك وعينك وعقلك وقلبك وذاكرتك وحلمك وحزنك وفرحك، في وجه الآخر.. في الآخر، في عينه وسره، لقد استقوت أرواحنا على أجسادنا عندما تواصلت.. صاعدة إلى الأرز حيث كثافة الرمز.. هابطة إلى مجرى النهر الذي ترتوي منه فيرتوي بك ويصبح رواية وحكاية.. كأنه لبنان.. قد يشح ولكنه لا ينضب لأنه على موعد دائم مع الثلج. وهناك أرواح تحرسه.. تخرج من الأدغال ومن بين الصخور ليلاً.. ويمتد جسر من صلاة بين الضفتين.. وتقرع الأجراس وحدها.. كأن هناك نسيماً عليلاً يحركها.. فيأتي صوتها هادئاً وأليفاً وعميقاً.. ويحلم الحمل بجوار ذئب وديع.. ويتوقع الذئب أن تقوى عضلات الحمل فينوي سلاماً أو يهرب.
لقد قرأت وحاورت لأَبني حياتي على المودة والمودة على المعرفة.. قرأت كثيراً… ولكن ما قرأته (كوم) ورحلتي إلى قاديشا في مجموعة وطنية ملونة كلبنان.. كقوس قزح (كوم آخر).. أعدكم بأن أبقى في ورشتكم أفكر بلبنان أمثولة للدنيا.. ونعيد البناء معاً.. ولن نعيد البناء الا معاً.. ولن نكون معاً إلا من أجل إعادة البناء.
أحبابي.. في بدايات الحرب في لبنان.. لا الحرب اللبنانية التي لم يأتِ ولن تأتي إلا بمقدار ما يصبح الواحد منا اثنين. فيأتي الهواء الفاسد ملوثاً بالبارود.. في بدايات الحرب، وفي لحظة جهل.. شعرت وكأن يسوع لم يعد يهتدي إلى غرفته في عمارة قلبي، لأن الطريق ممتلئة بالعوائق المصطنعة.

اقرأ أيضاً: أنسي.. أنيس أرواحنا..

أدركت أن إيماني وإسلامي وولائي لأهل البيت وجدهم الحبيب محمد في خطر.. وأن وجداني آخذ في التصحر.. ورأيت فيما يرى النائم علياً يخاطب أحبته يقول: “وإن شئتُ قلتُ في عيسى ابن مريم عليه السلام، فلقد كان يتوسّد الحجر، ويلبس الخشن، ويأكل الجشب، وكان إدامه الجوع، وسراجه بالليل القمر، وظلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم، ولم تكن له زوجة تفتنه، ولا ولد يحزنه، ولا مال يلفته، ولا طمع يذله، دابته رجلاه، وخادمه يداه” ! فهمت كثيراً وعميقاً وثبتُ إلى الصواب.. استراحت نفسي.. وفي وادي قاديشا.. في قنوبين أتاني من المعنى في كلام علي ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.. يقول مولانا جلال الدين الرومي :” والأرواح في أصلها ذوات نفس كنفس عيسى، حيناً تكون جراحاً، وحيناً تكون مرهماً.. ولو أن الحجاب رفع عن الأرواح لكان قول كل روح على مثال عيسى”.
لقد كان كل ما رأيته وسمعته فائق الجمال وجديداً عليّ.. كنت أعرف دور الأديرة نسكاً وحياة وإحياء وأعرف دور الرهبانيات تنظيماً وإدارة، وإنتاجاً للمعرفة وأسباب الحياة ورعاية لطلاب الحياة في الدارين.. كنت أعرف.. ولكني لم أكن أعرف هذا الإلحاح على العقل والحضور.. في الصخر وفي الوعي..للأديرة وشراكاتها مع الفلاحين في تمهيد الأرض الصعبة.. وقطاف المواسم والحصاد.. ولم أكن أعرف هذا الانخراط المبكر للرهبانيات في حياة الناس وعقولهم والإتيان إلى لبنان من الآفاق (دومينيكان مثلاً) والإطلالة منه على الآفاق (ديران أثيوبيان مبكران) وفهمت.. كيف تلقى المسلمون مفاتيح التصوف من مسلكيات ومعرفيات مسيحية مبكرة.. احتجاجاً على تضييق الدين، وحرصاً على توسيع فضائه للجميع من أجل الجميع وإعادته إلى أهله من الفقراء والخراف الضالة .. على نصاب المحبة كشرط لمعرفة الله عن طريق خلقه.

(من كتاب “في وصف الحب والحرب”)

السابق
«يديعوت أحرونوت» تفضح مشاركة إسرائيل وإيران في مؤتمرٍ الدوحة الاقتصادي!
التالي
تمثيل سنة 8 آذار وحجج حزب الله الواهية