الشيخ حسين اسماعيل: قراءة في النظريات التي وضعت لتفسير أسباب نشأة الثورة الحسينية

الشيخ حسين اسماعيل
هناك أحداث حصلت في التاريخ البشري وشكلت محطة مضيئة لكل الأجيال التي أتت بعدها، وهذه الأحداث لابد وأن تدرس بشكل كامل حتى يمكن أخذ العبرة منها، فليس هناك فرق بين الماضي والمستقبل في حركة المجتمع البشري الا على مستوى تبدل الأفراد والتطور في الحياة المادية، اما على مستوى القضايا الاخلاقية والسياسية والعقائدية فتبقى على ما هي عليه، لذا كانت دراسة أي فترة تاريخية ماضية، فإنها ستخرج بنتائج لمعرفة السنن التاريخية التي حكمت وتحكم المجتمعات البشرية على امتداد الزمن، فالسنن التاريخية لا زالت هي نفسها وواحدة للجميع، فالإنسان فردا ومجتمعا محكوم لسنن التاريخ.

ومن هنا كانت الدراسة التاريخية مصدرا للهداية، ولمعرفة أسباب الصلاح والفساد والقرآن الكريم ركز على تذكير الناس بحركة الأنبياء عبر التاريخ، وحركة المجتمعات اتجاههم رفضا وقبولًا، ومصير هذه المجتمعات الذي انتهت اليه، بل ان معرفة التاريخ بالشكل الصحيح يشكل مصدر النهضة في المجتمع. وعامل من عوامل التغيير والتصحيح.

ومن الأحداث التاريخية الخالدة والتي أصبحت محطة مشرقة تضيئ للشعوب والأجيال طريق الخلاص، وسبيلا للخروج من دائرة الفساد والضلال والانحراف الى دائرة الصلاح والهداية، تلك الثورة التي قادها الامام الحسين سنة احدى وستين هجرية، وكانت ثورة عاشوراء مصدر اهتمام واسع من قبل المؤرخين والكتاب والاُدباء والمفكرين والشعراء، ويدل على عظمة هذه الثورة وأهميتها شخصية قائدها والذي هو امام معصوم من أئمة أهل البيت الذي هو الامام الحسين عليه السلام، وايضا يزيد هذه الثورة أهمية أنها واجهت أخطر التحديات التي تعرض لها الاسلام ، وكذا مما يعطي أهمية لدراسة هذه الثورة أنها شكلت مدرسة للاجيال في تحصين الامة من داخلها من وصول المفسدين الى الهيمنة على مصدر قرارها، وكذلك من العوامل الدافعة للاهتمام بثورة الامام الحسين اهتمام النبي مسبقا بها قبل حدوثها، ويؤكد ذلك ما ورد من أحاديث سابقة حولها مروية عنه صلى الله عليه وآله وسلم.

ولا بد وان تكون الدراسة لهذه الثورة لظروف نشأتها ومنطلقاتها ونتائجها وآثارها على المجتمع الاسلامي والتاريخ دراسة كاملة وصحيحة وغير خاطئة لكي لا تنعكس سلبا على وعي الناس وعلى طبيعة ارتباطهم بها، نعم فالقراءة الصحيحة للتاريخ لها انعكاساتها الإيجابية، ومن هنا كان ارتباط المسلمين بثورة الامام الحسين قائم على أساس فهمهم لها، ولا يخفى انه قد وضعت نظريات عديدة لتفسير الأسباب والعوامل لنشأة هذه الثورة الخالدة والرائدة، وقبل ان نتحدث عن هذه الثورة لا بد من الإشارة الى مفهوم الثورة، فالثورة تعني الدعوة الى التغيير في النظام السياسي الذي يحكم المجتمع والعمل على اسقاطه، وفي مطلق الأحوال هناك نظريات طرحت حول بيان الأسباب التي دفعت الامام الحسين عليه السلام الى الثورة على النظام الأموي والرفض لبيعة يزيد، وهذه النظريات تنقسم الى قسمين بحسب أهداف واضعيها فهناك نظريات تهدف الى تحريف الثورة وابعاد الناس عن الفهم الصحيح لها، وهناك نظريات تشكل محاولة صادقة من أجل التعرف عليها ومعرفة اسبابها، ونبدأ بذكر النظرية الاولى .

النظرية الاولى : الثورة الحسينية والصراع القبلي بين بني هاشم وبني أمية :

ذهب البعض ومنهم المستشرقون الى اعتبار ان الثورة الحسينية منشأها الصراع القبلي، وعليه تم تفسير الثورة الحسينية تفسيرا بعيدا عن الإصلاح وبعيدا عن الدين، وهذا التفسير هو تحريف لثورة عاشوراء، ولأبعاد الناس عن الارتباط بها، والايحاء لهم بان بني هاشم وبنو أمية كان بينهما صراع قبل الاسلام، وامتد الى ما بعد الاسلام، ويلزم من هذا القول بأن صراع الرسول مع ابي سفيان ايضا هو صراع قبلي، ويلزم في نهاية الامر القول بان الاسلام تم وضعه لتعزيز دور بني هاشم القبلي في مواجهة بني أمية وباقي القبائل، ومعروف دور المستشرقين في سعيهم لإعادة كتابة التاريخ الاسلامي وتفسيره بطريقة محرّفة ومشوّهة. ونتوقف هنا عند قضية هامة في هذا المقام، وهي أنه لعل البعض اعتبر ان كلام يزيد بعد قتله للإمام الحسين عليه السلام والقائل فيه:

ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الاسل

لاهلوا واستهلوا فرحا ثم قالوا يا يزيد لا تشل

لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحي نزل

يعتبر يزيد من خلال شعره هذا أن صراعه مع الامام الحسين عليه السلام انما هو صراع قبلي مع بني هاشم، وهو انتقم لقتلى بني أمية في بدر، وهذا يحمل دلالة واضحة على كفر يزيد وعدم إسلامه، وهذا يدل على الانحراف الكبير الذي عاشه المسلمون في عصر الامام الحسين عليه السلام، كيف جاء حاكم عليهم باسم الدين والإسلام والخلافة وهو كافر بكل ذلك، وهذه النظرية باطلة وغير مقبولة في منطق العقل والعلم لانه اولا لا يحق للمستشرقين ان يستشهدوا بكلام يزيد لانه متهم في قوله المتقدم وغيره ولمصلحة يزيد ان يخفي الأسباب الحقيقة في حربه للإمام الحسين عليه السلام، ثم ان صراع الامام الحسين مع يزيد لم يكن صراعا شخصيا ولا عشائريا، بل كان صراعا من أجل الاسلام، ومن أجل الإصلاح ورفع الظلم عن الناس، ومن أجل الدفاع عن القيم، والقضاء على المؤامرة التي أحاكها بنو أمية ضد الاسلام، والتي تقضي بإعادة المسلمين الى العصر الجاهلي، فيقطعون كل صلة تربطهم بالإسلام، كما أن الامام الحسين عليه السلام وأحاديثه شاهدة على ذلك.

ثم إن من الأدلة على بطلان نظرية التفسير القبلي للصراع بين الامام الحسين ويزيد، هو أن اصحاب الامام الحسين كانوا ينتمون الى مجموعة من العشائر، فما الذي يوحد بين زهير ابن القين وبين حبيب ابن مظاهر الأسدي، فهما مختلفان في القبيلة وفي التوجهات السياسية، كما ان الحر بن يزيد الرياحي لم يكن ينتمي لبني هاشم، وهكذا الآخرون، لذا اصحاب الامام الحسين عليه السلام يكذبون نظرية الصراع القبلي، نعم يريد المستشرقون من تفسيرهم المتقدم سلب الاسلام عن ثورة الامام الحسين بل اتهام الاسلام بأنه يغذي الروح القبلية وهو نتاجها، حتى يبتعد الناس عنه وعن التمسك بمبادئ وقيم عاشوراء.

وهنا نرى عظمة الثورة الحسينية كيف انها أخافت وأرعبت النظام الأموي الذي حاول اخفاء اسباب الصراع الحقيقية معها، وكيف انه ايضا أخافت هذه الثورة الغرب، فانهم لو لم يكونوا يخشون ثورة الامام الحسين لما حاولوا أن يحرفوا في تفسيرها، ولا يخفى أن المستشرقين يحاولون أن يمسخوا التاريخ الاسلامي بتوجيه من مراكز القرار لديهم حتى يفصلوا بين المسلمين وبين كل ما يدفعهم الى الوعي والى النهضة والى الإصلاح في مجتمعهم.

النظرية الثانية : الثورة الحسينية والصراع على السلطة :

هناك نظرية ثانية ذهب اليها البعض لتفسير الأسباب التي دفعت الامام الحسين عليه السلام الى الخروج على يزيد بن معاوية، والدعوة الى الثورة على النظام الأموي، وفحوى هذه النظرية هو ان الامام الحسين عليه السلام وجد أن يزيد غير مؤهل لممارسة الحكم والسلطة على المسلمين، كونه رجلا فاسدا فاسقا بعيدا عن الدين منحرفا عن تعاليم الاسلام، ووجد الامام نفسه أنه صاحب الحق في الخلافة والحكم، فدعا الى الثورة على النظام الأموي، وأهل الكوفة لبوا النداء وبعثوا اليه الرسائل بالالاف انهم على استعداد للقتال بقيادته، فوثق بهم الامام الحسين الا ان أهل الكوفة خذلوه بعد ذلك وانقلبوا عليه.

وهذه النظرية تقول باختصار : ان الامام الحسين عليه السلام أراد الحكم والسلطة من الثورة التي خرج بها الا ان الظروف لم تساعده حتى حصلت مأساة كربلاء، وعليه فالصراع بين الامام الحسين وبين يزيد كان على السلطة حسب هذه النظرية، ولو ان الامام الحسين عليه السلام كان يعرف ان الظروف لن تساعده، وأنها ستنتهي به الى تلك الفاجعة التي حصلت على ارض كربلاء لما خرج على يزيد، ولما دعى الى الثورة ولجلس في بيته، لكننا نقول إن هذه النظرية باطلة وغير صحيحة رغم انه يحق للإمام الحسين عليه السلام ان يخرج ويطلب الحكم والسلطة، لانه الخليفة الشرعي وصاحب الحق في ذلك، وخاصة كونه الامام الثالث من الأئمة الاثني عشر الذي أوصى النبي صلى الله عليه واله وسلم بأمر من الله بأنهم خلفاؤه والقادة من بعده على أمته.

فالإمام الحسين عليه السلام كان يعلم منذ البداية أن خروجه لم يكن من أجل تحقيق نصر عسكري يؤدي به الى إسقاط السلطة، فهو كان عالم بواقع الامة، كما انه لم يكن خافيا عليه واقع اهل الكوفة، انهم سيخذلونه كما خذلوا أباه وأخاه من قبل، ثم إن خروج الامام الحسين عليه السلام الى الكوفة انما هو لالقاء الحجة عليهم ولو لم يذهب اليهم وقتل الامام لقال الناس بان الامام اخطأ في عدم ذهابه الى الكوفة, بل ما يؤكد علم الامام بتخاذل اهل الكوفة وانتهاء امره الى القتل هو عدة أمور :

اولا : وهو ان الكثير من الناس ومن كان لهم شأن في المجتمع كانوا قد نصحوا الامام الحسين بعدم الذهاب الى الكوفة وحذوره من أهلها كابن عباس وهو معروف بالحكمة وبالوعي ولديه اطلاع واسع على طبيعة النظام السياسي القائم, وخاصة انه قد عاش تجربة مع الامام علي عليه السلام في صراعه مع الخوارج ومع معاوية، وكان مندوبا له اليهم، ثم ايضا هناك الكثير من الناس ممن أشفق على الامام الحسين كأخيه محمد بن الحنفية، وعبد الله بن جعفر ابن عم الامام الحسين، وأم سلمة وغيرهم الكثير ممن خشوا على الامام خروجه الى العراق ان يحصل له منهم ما حصل مع ابيه وأخيه وينتهي مصيره الى القتل، ونحن نسأل هل يعقل ان يكون الامام جاهلا بواقع اهل العراق والناس من حوله أكثر منه خبرة بذلك؟! وهل الامام كان يطمئن الى نصرة الناس له ؟ وهل كان الامام يتصور انه يستطيع ان يسقط النظام بخروجه وبشكل مباشر ؟، اعتقد بان هذا لا يقبله عقل، وخاصة ان الامام عليه السلام هو اخبر الناس وأعرفهم بشأن اهل العراق وبواقع الامة.

ثانيا : ان الامام الحسين عليه السلام أصر على الاستمرار في المضي الى الكوفة لاسيما بعد ان علم بمقتل رسوله اليها مسلم ابن عقيل ورسوله الثاني مسهر بن قيس الصيداوي، بالاضافة الى الاخبار التي وصلته عن أهل الكوفة كلقائه في الطريق الى الكوفة بالشاعر الفرزدق الذي قال له بأن قلوب اهل العراق معه ولكن سيوفهم عليه، ومع ذلك استمر الامام في المسير الى الكوفة، وكل ذلك يؤكد ان الامام كان يعلم بحقيقة موقف أهل الكوفة، وأنهم سيخذلونه وينقلبون عليه، فكيف بعد ذلك يصح ان يقال بان الامام الحسين خرج ليطلب الحكم, وهو يعلم انه مقتول لامحالة.

ثالثا : ان وجود الكثير من الأحاديث عن النبي التي تخبر بمقتل الامام الحسين في العراق، ومثلها عن الامام علي عليه السلام والامام الحسن عليه السلام كما ان الامام الحسين اخبر بنفسه عن ذلك، وقد جاء في بعضها وهو يهيئ أصحابه لملاقاة الشهادة، فانه خطب فيهم، وقال : (خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة ) وقال : ( وكأني بأوصالها تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء )، ونحن نسأل اذا كان الامام يعلم بمصيره انه سينتهي الى القتل بخروجه حينئذ ، فيكف يكون خروجه من أجل طلب السلطة وإقامة الحكم، فطالب السلطة يعلم بأن لديه أمل باسقاط السلطة وقيامه بعد ذلك باستلامها، ومن هنا نقول ببطلان هذه النظرية القائلة بان الامام الحسين خرج من اجل السلطة والحكم.

النظرية الثالثة : الثورة الحسينية والعامل الاخلاقي في السعي لاسقاط النظام :

هناك نظرية ثالثة لتفسير اسباب حصول الثورة الحسينية ضد النظام الأموي، وتعتمد هذه النظرية على عوامل نفسية واخلاقية هي التي دفعت الامام الحسين الى الخروج، حيث ان الامام الحسين دفعه إباؤه للضيم وخاصة انه ابن بنت النبي ومعروف في شرفه ومكانته العليا، أنى له بعد ذلك ان يبايع يزيد الملحد والمنحرف، وصاحب البيت الوضيع في سلوكه وانحرافه، والبعض استوحى هذه النظرية من قول الامام الحسين عليه السلام : ( والله لا اعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر لكم إقرار العبيد )، او قوله لوالي المدينة الوليد ابن عتبة : ( أيها الامير أنا اهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا يختم ويزيد رجل شارب الخمور وقاتل النفس المحترمة ومعلن بالفسق ومثلي لا يبايع مثله ) .

ويذهب اصحاب هذا التفسير الى ان الصراع انطلق من المعايير الاخلاقية والوجدانية، فالإمام الحسين صاحب عزة وكرامة وشرف ومكانة، وهذه الصفات تأبى على صاحبها الذل لأي انسان كان والخضوع له، وايضا من الكلمات التي تحمل هذا المعنى قول الامام الحسين عليه السلام : ( الا وان الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والمذلة، وهيهات منا الذلة يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون )، ونقول بان هذه النظرية الثالثة لا تنسجم مع مهام الإمامة التي كان يتصف بها الامام الحسين عليه السلام، نعم الشعور بالعزة والكرامة ورفض الضيم والتمسك بالاباء من سمات المؤمن، الا ان ثورة الامام الحسين كانت ابعد من ذلك، وهي تنبع من مسؤوليات اعلى واكبر تسمو على العواطف والمشاعر.

ثم ان هذا التفسير يصطدم بموقف الامام الحسن عليه السلام، حيث دخل في الصلح مع معاوية وابتعد عن خيار الصراع المسلح، مع ان ظروف الامام الحسن والامام الحسين كانت متشابهة، اذا العوامل التي دفعت الامام الحسين للثورة هي ابعد من العوامل الاخلاقية، ولعل الامام الحسين أشار اليها في قوله في اليوم العاشر :

الموت أولى من ركوب العار والعار أولى من دخول النار

فالإمام يتحمل العار في سبيل الله وفي سبيل النهوض بالاهداف الكبرى التي يأمر بها الله تعالى، وهذه نقطة هامة لا بد من الوقوف عليها، فقد قال الامام ( العار أولى من دخول النار ) فالإمام عليه السلام يضحي بمصالحه الخاصة في سبيل المصلحة العامة للإسلام، ومن هنا كان كان الذل الحقيقي في الآخرة وليس في الدنيا، والانبياء والاوصياء تحملوا ذُل الدنيا في سبيل رفع ذُل الآخرة، ومن هنا فان النظرية القائلة بان الامام خاض الحرب من اجل رفض الضيم في غير مكانها.

النظرية الرابعة : وهي ان الثورة الحسينية تخضع لمشيئة الله :

وننتقل الان الى نظرية رابعة طرحت حول تفسير الدوافع والاسباب التي أدت الى حصول ثورة الامام الحسين عليه السلام على نظام بني أمية، وخلاصة هذه النظرية هو ان ثورة الامام واستشهاده ومقتله على ارض كربلاء كان سرا إلهيا قدره الله وقضاه في عالم الغيب قبل خلق العالم، وشاء الله تعالى ان يقتل الامام الحسين على ارض كربلاء هو واصحابه واولاده ونساؤه تسبى، ومن فوائد ذلك ان التسليم بهذه النظرية والاعتقاد بها يكون مصدر للثواب والدرجات والحصول على رضا الله تعالى دون ان يكون هناك فوائد عملية لاستشهاد الامام الحسين عليه السلام، وهناك من استدل على ان مقتل الامام الحسين كان سرا إلهيا وغيبيا من خلال بعض النصوص الواردة عن النبي وأهل البيت عليهم السلام يخبرون فيها بمقتل الامام الحسين، وهذا التفسير لا يمكن القبول به وهناك عدة ملاحظات عليه منها :

الملاحظة الاو لى : وهو ان هذا التفسير يبرئ نظام بني أمية من قتلهم للإمام الحسين عليه السلام، حيث يقول أنصار النظام الأموي للناس بأن الله هو من شاء ان يرى الحسين قتيلا، وان يرى نساءه سبايا كما اخبر الامام الحسين عن جده رسول الله صلى الله عليه واله حينما رَآه في المنام قبل خروجه من المدينة، فالتفسير الغيبي هذا ينسجم مع العقيدة الجبرية، ولا ننسى ان بني أمية روجوا للعقيدة الجبرية، بان الله اجبر العباد على افعالهم و مواقفهم، فالكافر مجبر على كفره والمؤمن مجبر على إيمانه, والهدف من وراء الترويج هو تبرير حكمهم وسلطانهم .

ومن هنا كان بنو أمية ينسبون القداسة لانفسهم، ويقولون للناس بان الله شاء لهم ان يكونوا حكاما على الامة، ويقولون بشأن مقتل الامام الحسين عليه السلام بان الله لو لم يشأ ان يقتل لما قتل، لكن الله تعالى أراد ان يقتل فقتل، وليس في ذلك ذنب على يزيد، ويزيد في كلامه مع السيدة زينب عليها السلام في الشام أشار الى ذلك في حديثه معها :« كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك » .

الملاحظة الثانية : وهي ان التفسير الغيبي لثورة الامام الحسين فيه مخاطرة كبرى، وهو انه يدفع الناس الى تفسير ثورة الامام الحسين بخلاف واقعها، كونها ثورة على الظلم، لكن في التفسير الغيبي نقرأ بان الله يريد الظلم، فعلاما تحاربوا يزيد ؟! وعلاما تعترضون عليه ؟ّ! وهو خاضع في قتله للامام الحسين لمشيئة الله، لذا التفسير الغيبي يجعل الناس يستسلمون لدولة الباطل، ويدفعهم للإحباط واليأس، وبذلك لا تكون ثورة الامام الحسين مدرسة للتغيير والإصلاح في المجتمع، ونريد ان نقول بان اعتراضنا على هذه النظرية لا من موقع رفض الجانب الغيبي لثورة الامام الحسين ، بل من موقع انها تقدم تفسير غير صحيح للغيب، فالغيب أقسام وأنواع والعلم الغيبي ليس مسؤول في غالب الأحيان عن افعال بني آدم، فمثلا ان الله يعلم بان قابيل سيقتل هابيل قبل حصول الجريمة فليس يعني ذلك ان الله هو من امر قابيل بقتل هابيل، والله يعلم مسبقا علما في الازل ان يزيدا سيقتل الامام الحسين، فليس يعني ذلك ان الله امر يزيد بقتل الامام الحسين، فالعلم الغيبي هنا هو علم بمشيئة الآخرين دون ان يجبرهم، فهو تعالى مطلع على إرادات البشر قبل ان يولدوا والله تعالى اخبر مسبقا أنبياءه بإرادات الطغاة حتى يحذروهم، والله اخبر مسبقا بقتل الامام الحسين، حتى يكون هذا الاخبار دليلا على صدق الامام الحسين، وحجة تدعو الى ضرورة اتباعه.

ثم اذا اردنا ان نسلم بصحة الرواية (شاء الله ان يراك شهيدا ) والتي هي ضعيفة من حيث السند فاننا نقول : بان هذه المشيئة هي مشيئة تشريعية، وليست تكوينية، من خلال تكليف الامام الحسين بان يثور على بني أمية، ويعلم تعالى بانه سيثور وأخبر تعالى بما يعلم، فهو تعالى شاء الجهاد للإمام دون ان يجبره عليه، وعلم تعالى بان الامام سيلتزم بهذه المشيئة، ونريد ان نقول بان الغيب أولى عنايته بقضية عاشوراء لما يعلم الله تعالى من عظيم اخلاص الامام الحسين له تعالى، ومن ان خروجه سيكون سببا لحفظ دين الله ورسالته.

النظرية الخامسة والصحيحة : وهي ان ثورة الامام الحسين كانت استجابة لامر الله برفض الظلم وإقامة الحجة على المسلمين بضرورة الخروج على يزيد :

التفسير الخامس للدوافع الحقيقية لثورة الامام الحسين عليه السلام كانت مركبة من عدة أهداف، ومن يتأمل سيرة الامام الحسين ونهجه في تعاطيه مع النظام الأموي، ويراقب بعد ذلك حركة الامة بعد مقتله، يوقن ان الامام الحسين عليه السلام كان قد خطط لعدة اهداف من وراء ثورته، وسنحاول ان نبرز هذه الأهداف من خلال النقاط التالية :

النقطة الاولى : أراد الامام الحسين من تحركه وثورته إيضاح الموقف الشرعي، والذي يقوم على الرفض لخلافة يزيد، وحسم ذلك امام المترددين من شرعية الخروج . النقطة الثانية : كشف هوية المشروع الأموي انه مشروع يهدف الى التآمر على رسالة الاسلام، وعلى مصالح المسلمين، وان بني أمية خططوا لذلك، وان المشروع الأموي هو امتداد لصراعهم السابق مع النبي بقيادة ابي سفيان. النقطة الثالثة : تحميل الامة مسؤولية وصول الحزب الأموي الى السلطة، وسؤوليتها عما لحق من جراء ذلك من مخاطر على الدين وعلى المجتمع الاسلامي. النقطة الرابعة : تحريك الامة من خلال التضحيات التي سيبذلها، والدم الذي سيقدمه الامام في رفضه لبيعة يزيد، وبمعنى آخر تحريك ضمير الامة وإيجاد صدمة لها، ورفع الخوف والجبن من قلب الامة، التي عمل بنو أمية طيلة فترة حكمهم على زرعهما وخاصة معاوية بن ابي سفيان. النقطة الخامسة : عملت الثورة الحسينية على كشف الزيف الديني للنظام الأموي الذي كان يتستر به وفضحه.

ومن خلال النقاط الخمس المتقدمة يتبين معنا أن الامام كان يريد إصلاح الامة وايقاظها من ثباتها للنهوض بها ودفعها لإسقاط رأس الفساد، وهو النظام الحاكم الذي خدعها وضللها وكان الامام الحسين عليه السلام قد أعلن عن هذا الهدف منذ الأيام الاولى لتحركه.

ولا يخفى ان استشهاده جاء ليكون في خدمة مشروعه الاصلاحي، فالإصلاح الحسيني هدف أساسي في الثورة الحسينية والشهاده الحسينية كانت في خدمة هذا الهدف ونستطيع ان نطلق عليها الشهادة الإصلاحية . وسنحاول ان نسلط الضوء بشيئ من التفصيل على كل نقطة من النقاط الأربع التي ذكرناها.

النقطة الاولى : الثورة الحسينية وإيضاح الموقف الشرعي من النظام الأموي :

أوضح الامام الحسين عليه السلام بعد مجيىء يزيد خليفة وحاكما على الامة، ما هو الموقف الشرعي من بيعته الذي يجب على الامة ان تلتزم به الا وهو الرفض لحاكميته، لانه انسان منحرف عقائديا واخلاقيا وسلوكيا، كيف يكون مؤتمن على الرسالة، وعلى مصلحة المسلمين، ولعل الامام الحسين أراد ان يحسم الامر في وجه المشككين والمترددين الذين يقولون بحرمة الخروج على الحاكم المنحرف، بحجة ان هذا الخروج سيشق عصا المسلمين، وسيؤدي الى حصول الفتن، وهولاء كانوا كثر وخاصة انه كان فيهم من الصحابة.

إقرأ أيضاً: تعليقا على «متى تخرج الثورة الحسينيّة من عنق الزجاجة المذهبيّ؟»

وهذه الفئة من المسلمين تسببت بتضليل المسلمين من النهوض لمواجهة الفساد والانحراف في السلطة، نعم أراد الامام الحسين بخروجه ان يقول للأمة ما هي وظيفتها الشرعية من النظام الأموي بوضوح ؟ وهو حرمة البيعة له، وها أنا خرجت بنفسي ورفضت حتى ولو كلفني ذلك القتل وانتهاك حرمتي، وفعلا كان خروج الامام الحسين قد أحرج الكثير ممن اعتبر نفسه انه يمثل الموقف الشرعي، ولو اقتصر موقف الامام الحسين على الخطاب دون الخروج لما أثمر خطابه شيئ ، لان خطابه يبقى لدى الناس يحتمل تأويلا وتفسيرها آخر.

النقطة الثانية : الثورة الحسينية وكشف المشروع الأموي :

لم تقتصر الثورة الحسينية فقط على الرفض لخلافة يزيد، بل عملت على التوضيح والشرح للناس حقيقة النظام الأموي، ومن يقرأ الخطابات الحسينية يجد انها تركز على النظام وليس على شخص يزيد، لان يزيد يعبر عن مشروع ولا يعبر عن فرد، لذا كان لخطابات الامام الحسين التي حفظها لنا التاريخ الدور المؤثر في الامة، حيث تناقلها الناس وكان لها وقع كبير في وعيهم، ومن هذه الخطابات خطاب الامام الحسين عليه السلام عندما وصل الى كربلاء، وكان قد سمع الحر بن يزيد الرياحي الذي ارسله عبيد الله بن زياد وجيشه لمحاصرة الامام، وكان لخطابه هذا تأثير كبير في نفس الحر، وجاء فيه : ( أيها الناس ان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم قال : من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرام الله، ناكثا عهده، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالاثم والعدوان، فلم يغير بفعل ولا قول كان حقا على الله ان يدخله مدخله، الا وان هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيئ ، وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله، وانا احق من غير )، في هذا الخطاب عدة أمور هامة لا بد من الوقوف عليها، وهي :

اولا : شرح الامام الموقف الشرعي من الحاكم المنحرف، وهو حرمة البيعة له، ووجوب العمل على اسقاطه، وان التارك لذلك يستحق العقاب في الآخرة . ثانيا : كشف الامام عليه السلام عن مشروع بني أمية في سعيهم لتحريف رسالة الاسلام، والتزوير فيها، والعمل على سرقة أموال المسلمين، ولعل هذا الخطاب ما جعل الحر الرياحي يغير في موقفه من الولاء للنظام الأموي الى الولاء للامام الحسين والاستجابة الى نداءه والانضمام لثورته. ثالثا : ان الامام أحق من قاد عملية التغيير، لانه الامام الشرعي بنص الكتاب والسنة، ويجب على المسلمين ان يتأسوا به ويقتدوا، والمتخلف عن ذلك هو شريك النظام في الانحراف والفساد.

النقطة الثالثة : الثورة الحسينية وتحميل الأمة مسؤولية وصول الحزب الأموي الى السلطة ووجوب اسقاطه :

عملت الثورة الحسينية على تقديم الخطاب الهادف والقائم على تحميل الأمة المسؤولية في وصول الحزب الأموي الى الحكم والسلطة فانه لو لم يجد هذا الحزب من يرضى به ولا يعترض عليه لما وصل الى الحكم ، كما ان فساد الامة هو سبيل لوصول المفسدين الى السلطة، وعلى الامة ان تتحمل المسؤولية في التحرك والسعي لإسقاطهم ، وهذا ما اراده الامام الحسين في قوله عليه السلام : ( وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي )، والذي زاد من تحميل الامة المسؤولية هو طلب أهل الكوفة من الامام الحسين عليه السلام ان يأتي اليهم، وأنهم قدموا له البيعة عبر رسائلهم التي تعد بالالاف، ولكنهم بعد ذلك خذلوه ، وكان الامام الحسين عليه السلام قد خاطبهم وحملهم المسؤولية نتيجة هذا الغدر والخذلان، وهم يعلمون ان الامام الحسين على حق، وأنهم على باطل، ومن هذه الخطابات خطابه لما وصل الى كربلاء فانه قال : ( وقد أتتني كتبكم، وقدمت علي رسلكم ببيعتكم، أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فان تممتم علي ببيعتكم تصيبوا رشدكم، فأنا الحسين بن علي، وابن فاطمة بنت رسول الله، نفسي مع انفسكم، وأهلي مع أهليكم، ولكم في أسوة، وان لم تفعلوا ونقلتم عهدكم، وخلعتم بيعتي من اعناقكم، فلعمري ما هي لكم بنكر، لقد فعلتموها بابي واخي وابن عمي مسلم، فالمغرور من اغتر بكم، فحظكم أخطأتم، ونصيبكم ضيعتم، (فمن نكث فانما ينكث على نفسه) ” الفتح 10 ” وسيغني الله عنكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ) فالإمام مستمر ولو لوحده في رفض البيعة ليزيد، لان الرفض هذا هو تكليف شرعي الهي، فالبيعة ليزيد هي بيعة للمؤامرة على الدين، وعلى العدل ، وعلى مصالح الامة .

النقطة الرابعة : الثورة الحسينية وسلب الخوف من قلب الامة :

ايضا من الأهداف التي قصدها الامام الحسين من خلال ثورته، وهي اخراج الخوف والجبن من قلب الامة اتجاه النظام الأموي الذي مارس ابشع انواع الاجرام والقتل وزرع الخوف، والرعب في قلوب الناس، فمن يفكر بالخروج عليه فان مصيره القتل، كما عمل النظام الأموي على دفع الناس من ناحية ثانية الى إغرائهم في حب الدنيا، والتمسك بها، أراد الامام الحسين عليه السلام وخاصة من خلال خروجه بأهل بيته النساء والأطفال والشباب من بني هاشم ان يضرب اروع الأمثلة في التضحية والاباء، وذلك مما ألهب مشاعر الامة وزرع في قلبها حب التضحية، لذا كانت الثورة الحسينية سببا في دفع الامة الى بذل التضحيات لاسقاط الحكم الأموي، فالأمة التي لا تحب ولا ترغب في التضحية فانه لا يمكن لها ان تصلح نفسها، كما ان حب الدنيا يقف عائقا امام وصولها الى عزتها وكرامتها.

النقطة الخامسة : الثورة الحسينية وكشف الزيف الديني لدى النظام الأموي :

ان من اهم الأهداف التي قصدها الامام الحسين عليه السلام في ثورته التي خرج بها على النظام الأموي هو كشف الزيف الديني الذي يتستر به، حيث يوحي للناس انه الحامي والمدافع عن الدين والديار، لذا كان مقتل الامام الحسين فضيحة لبني أمية في تآمرهم على الدين والإسلام، وهذا الموضوع يجعلنا نتوقف عنده كثيرا لانه من وسائل الأنظمة الفاسدة استغلال الدين، وتقديم التفسير الخاطئ له، كما انه حتى الأعداء يستغلون الدين ويقدمون له تفسيرات تنسجم مع مصالحهم، وخاصة في دفع المسلمين الى الاقتتال فيما بينهم كما يحصل الان، فان القوى الاستكبارية الكبرى تنشئ حركات اسلامية متطرفة وتغذيها بالمال والفكر الاسلامي المتطرف وتدفعها الى قتال المسلمين، والى تشويه الاسلام، لذا من اهداف الثورة الحسينية في عصرنا الحاضر التصدي لهذه المؤامرة، والتأكيد على الوحدة بين المسلمين .

 

إقرأ أيضاً: سنّة بيروت مشاركون في قتل الامام الحسين

السابق
أبي خليل: يا ليت الأصوات الوطنية لجأت إلى الوقائع والمحاضر بدل الشائعات
التالي
برنامج تعلم الإنكليزية للنساء يخرج «830» طالبة والسفارة الأميركية تجدد دعم تمكين النساء