إدلب.. إما الموت أو الموت لأكثرهم شقاءً

حياة أهل إدلب تلخصها الآن مرحلةٌ، ربما هي الأولى، في صراع بشار الأسد للبقاء على كرسيّه. وهي مرحلةٌ اتسمت بالقتل متنوّع الألوان، وإتاحة المجال لأمم الأرض، لتعطي رأيها، وتخترع مصالحها، وترسل جيوشها ومليشياتها للمساهمة بهذا القتل؛ أو بإعادة تدويره.

قصة إدلب كانت باكرةً بكل تفاصيلها، من تظاهراتها السلمية الأولى، إلى حملها السلاح باسم “الجيش السوري الحر”، ثم إلى إزاحة هذا الأخير، لصالح هيئة تحرير الشام، جبهة النصرة سابقاً، و”القاعدة” باكراً… والآن، يحلم بشار وحلفاؤه أن تكون إدلب نهاية مطافه السعيد، “المنتصر انتصاراً” مبْرماً على السوريين، هو ثمرة “انتصاراتٍ” موضعية، كل واحدةٍ منها أكثر دمويةً من الأخرى.

إقرأ أيضا: إدلب في انتظار المجزرة الكبرى

ماذا فعلت قوى الاحتلال لمؤازرة بشار الأسد؟ ساعدته حثيثاً على تحويل إدلب إلى “مزبلة”، رمت فيها البشر غير المرغوب بهم، أو غير الراغبين بها، وبهِ. فقالت لنفسها، بصفتها لا تفعل بالنفايات غير حرقها، لقد حان الوقت أخيراً للتخلّص من “المزْبلة” وحرقها، بالملايين الثلاثة، ونصفهم لاجئ إليها. إدلب بالأساس يسكنها مليون ونصف مليون نسمة. كيف ضوعف هذا الرقم خلال السنوات السبع الماضية؟ باللجوء إليها، لمن لم يملك القدرة على بلوغ تركيا أو أوروبا أو أميركا؛ من الأكثر عرياً وعوزاً، من بين السوريين الذين لم يمكنهم بؤسهم بغير إدلب، هرباً إليها من الموت… وهذه فئةٌ من “المهاجرين” إلى إدلب، فرادى أو، غالباً، بعائلاتهم.

الفئة الثانية هي الآتية إليها بالباصات الخضراء. من هم هؤلاء؟ إنهم خليط من المسلحين “الجهاديين”؛ ومن بينهم “قاعديون”، كان حرّرهم بشّار من سجونه بعيْد الثورة. تمكّن هؤلاء من السيطرة على الفصائل المسلحة الأخرى، بعد معارك طاحنة، أو ربما من دونها. فصارت كل المناطق الثائرة موصومة بوصمتهم، “مناطق إرهاب”. هنا اختلطت الحابل بالنابل.. ولكن رُسمت أيضا، في الوقت ذاته، حدود هذه “المناطق الإرهابية” التي وُجب قتل أهلها. فكان برنامج “المصالحات”، وما أدراك!

يبدأ البرنامج بالقصف الجوي والبرِّي، يتخلّله بعض الكيميائي (خان شيخون)، ثم “مصالحة”، بعد هزيمة. ماذا عن المصالحة هذه؟ جميع الذين يرفضون البقاء تحت سلطة بشّار، عليهم “كيف سيتخلصون من الثلاثين ألف إرهابي، رافضي التحوّل، يعيشون بين ثلاثة ملايين نسمة” المغادرة الى إدلب، بعائلاتهم وسلاحهم الخفيف، بالباصات الخضراء. الضمانة الروسية الواردة في الاتفاق تنص على البقاء فيها، لتحمي بنود الاتفاق، وأحدها يقضي بإعطاء مهلة ستة أشهر لكل مطلوبٍ من الخدمة، اختار البقاء، وتسوية أوضاعه مع النظام. طبعاً الاتفاق لم ينفذ؛ دخل الروس إلى هذه المناطق المحروقة، وعجّلوا الجلاء منها، بعدما اطمأنوا إلى مسح أدلة جرائمهم وجرائم شركائهم؛ ودخلت مليشيات بشّار بعد انسحابهم لتسرق، وتعتقل؛ خصوصا الشباب الباقي، وتحيلهم إلى الخدمة الإلزامية في الجيش، أي تخالف أحد بنود اتفاقيةٍ “لمصالحة”.. المهم أن هذه العملية تكرّرت، في حلب (2016)، شرقي حلب، وفي الغوطة الشرقية ودرعا خلال هذا العام، وكان اسمها “مصالحات تحت رعاية روسية”. هكذا، تحولت إدلب إلى ملاذ الهاربين من حكم بشّار والرافضين له، والمسلّحين القاعديين وغير القاعديين، والمدنيين الأكثر شقاء وعدداً، الأقل تدبيرا لشؤونهم. وينقضّ القدر على جميعهم بأشع ما فيه، إذ يضعهم تحت حكمٍ أصولي مباشر، ينسخ النهج المخابراتي، أغلظ من حكم بشار.

وها هي الدول الثلاث الراعية لـ”مصالحاتٍ” تختلف على رسم معالم هذه الدورة النهائية من الفصل السوري. فيما بشّار تصيبه حمّى الإعداد لحرق “مزبلة” إدلب، يعقد الروس والإيرانيون والأتراك قمةً للبحث في كيفية الإعداد لعملية الحرق نفسها، وتنسيقها. وكلنا يعرف التحفّظ التركي على برنامج القتل هذا، وتمهّله، وشراءه الوقت اللازم لإنجاح محاولاته لدمج “أحرار الشام” بالفصائل الأخرى، جيش موحد، وتعويله على جناحين بداخلها، بين متصلّب وبراغماتيكي. “ثلاثين ألف رجل” يقولون، هؤلاء يجب القضاء عليهم، إذا لم يذعنوا للاندماج بالفصائل الأخرى! حسنا، أَذعَنوا.. وماذا بعد ذلك؟ هل تُعفى إدلب؟ طبعا لا. “المزْبلة” “يحلم بشار وحلفاؤه أن تكون إدلب نهاية مطافه السعيد” الإدلبية لا قيمة لأهلها، ولا سند. ولا يكفي الرهان على الأميركيين والأوروبيين؛ فاليوم موقفهم رخوٌ ضبابي، وغداً “يعوَّل عليه”، وبينهما كواليس ومصالح جيوسياسية. ومن يستطيع أن يتخيّل الحسم بما يسمّونها “معركة” ضد إدلب؟ كيف سيتخلصون من الثلاثين ألف إرهابي، رافضي التحوّل، يعيشون بين ثلاثة ملايين نسمة، لا يطيقونهم، ولا يطيقون الحكم “الجهادي”؟ ويكون هروبهم مستحيلاً، لا شمالاً ولا جنوباً؛ في الأولى قواتٌ تركيةٌ مرابطة، تستعد لمنعهم من اختراق الحدود، وفي الجنوب قواتٌ أسديةٌ تفرك أياديها حماسةً لقتلهم. فيكون أهلها ساعتئذ أمام احتماليْن لا ثالث لهما: إما الموت أو الموت، إما حرقاً أو حرقاً. مصيرٌ يكثّف طرق العيش في سورية، وطرق الموت.

إقرأ أيضا: سوريا: التغيير الديموغرافي ومصير إدلب

ضجيجٌ إعلاميٌّ حول إدلب، وتعتيمٌ إعلامي كامل على محو مخيّم اليرموك الفلسطيني من الخريطة، في الربيع الماضي. المعركة النهائية هناك اقتصرت على “داعش” وقوات النظام. وربما أيضا قوات أخرى غير داعشية، لم نلحظها، أو أخرى مليشياوية تساند النظام. وإذا كانت هذه القوات داعشيةً صافيةً، فهي متسرِّبة من الصحراء التي رُميت بها. المهم أن النظام، المعتز بانتصاراته على الشعب السوري، لم يرِد أن يطبّل ويزمّر لهذا “الانتصار” على مخيّم اليرموك الفلسطيني. فبخُل بالإعلام عنه. ومرَّ التدمير المنهجي لمخيم اليرموك، من دون صوت. اسمه، الفلسطيني يكفي لفضح المعركة “الأنتي صهيونية” التي يخوض بشّار باسمها مقتلته السورية والفلسطينية السورية.

السابق
شبكات تجارة حشيشة الكيف بيد القضاء
التالي
أهميّة التقارب بين المذاهب