عاشوراء مشروع الأمة

الشيخ محمد مهدي شمس الدين

مؤسسة مأتم الحسين التي أنشأته السيدة زينب، هذه المؤسسة بدأت بعد مصرع الحسين مباشرة. أول خطبة مأتم وأول قارئة مأتم وأول نادبة وأول نائحة هي زينب، وأتى بعد ذلك أئمة أهل البيت من زين العابدين عليه السلام إلى إمامنا المنتظر عجّل الله فرجه، أكملوا عملاً بدأته زينب في كربلاء، في مساء العاشر من محرم وتابعته في الطريق وعممته في حلب وفي دمشق، وتابعته في المدينة، حتى ضج أهل المدينة، منها، وحتى كتب وإلى المدينة إلى يزيد: إنْ كان لك شغل بالحجاز والمدينة فأخرج عني زينب.
والي المدينة لم يضق ذرعاً ببكاء الناس. المظلومون دائماً يبكون تحت سمع الطغاة وبصرهم ولا يؤثر فيهم ذلك شيئاً، الذي ضايق والي المدينة والذي خاف منه هو المضمون الآخر غير مضمون الحزن، هو مضمون الثقافة، هو مضمون الأخلاق، ومضمون السياسة.

اقرأ أيضاً: تحضيرات الشيعة في عاشوراء: تبدأ قبل 1 محرم ولا تنتهي قبل الأربعين

عندما نخاطب الإمام الحسين ونقول: السلام عليك يا وارث الإيمان التقي الصحيح، أي وارث إيمان جده الرسول الأعظم، الإيمان الذي لا يخضع لا لوصاية السلطان ولا لوصاية عملاء السلطان، ولا يخضع لوصاية رجال الدين الدجالين الذين يتاجرون بالدماء والكرامة والأعراض وكل شيء ويغشون الناس بالدين.
والمسألة الأهم في ثورة الإمام الحسين هي المسألة الأخلاقية، الحسين كان يمارس أخلاقاً عندما قال: إن يزيد فاسق فاجر شارب الخمر قاتل للنفس، ومثلي لا يبايع مثله.
منذ معركة صفين ومنذ كربلاء لم يكن لدى أهل البيت مشروعاً للسلطة، السلطة لم تكن هي الأساس، كان لديهم مشروعاً للأمة، والإمام علي والإمام الحسن والإمام الحسين تفرغوا لهذا المشروع الذي هو مشروع الإيمان النقي والأخلاقي. كان الأمويون يريدون أن يخضعوا الإمام الحسين وأن يستلحقوه وأن يجعلوه كافراً. فقرار عدم المبايعة بالإضافة إلى كونه قراراً سياسياً فهو أيضاً قرار أخلاقي. وقرار زهد، هذا الزاهد تُعرض عليه الدنيا مغموسة بالقذارة والخيانة، لأن بيعة الحسين ليزيد ليست بيعة شخص، الحسين ليس شخصاً، هو مؤسسة، فإنه إذا بايع فيكون بهذا قد جر مؤسسة الإيمان التي ورثها عن جده رسول الله إلى المبايعة ليزيد أيضاً.
من حين قوله: مثلي لا يبايع مثله في المدينة إلى اليوم العاشر، بدأت مهمة الحسين ديناً وانتهت ديناً، وهو بذلك يسير على خطى جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فالنبوة ليست شخصاً، النبوة مؤسسة إلهية. لقد عرضت قريش على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كل ما تريد النفس الدنيوية، عرضت عليه المال والجاه والسلطان والنساء فقال: لو وضعتم الأرض والشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته ولو هلكت دونه، كانت قريش تريد أن تجعل النبوة جزءاً من دكانها ومن مصالحها، وتأمروا عليه (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك) أي إما السجن أو القتل أو النفي، رفض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلحاق مؤسسة النبوة بنظام مصالح قريش.
أمير المؤمنين علي سلام الله عليه تكررت معه نفس التجرية ووقف منها نفس الموقف، لم يُدخل مشروع الأمة في نظام المصالح الخاصة والضيقة. والإمام الحسن كذلك.
وهكذا كان الإمام الحسين، هو لم يعتبر نفسه شخصاً عادياً، هو وارث الإيمان النقي الصحيح، واستشهد الحسين ورفاقه، ولكن السيف بقي يلاحق هذه المؤسسة طيلة العهد الأموي، وطيلة العهد العباسي، وطيلة عهد العثمانيين، بقي ثمن الله، ثمن أن الحسين فصل مشروع الأمة نهائياً عن مشروع السلطة.
إذا هذه المؤسسة ليست مؤسسة للحزن فقط، بل هي مؤسسة الفكر ومؤسسة الحضارة ومؤسسة العلم ومؤسسة السياس، ومؤسسة الأخلاق هي مؤسسة الأمة. ولذلك أنا أرى أنّ الشيعة أخطأوا في حق أهل البيت وفي حق الحسين خصوصاً، فيما قاموا بأعمال ومراسم وأطروحات، جعلت مأتم الحسين مأتماً شيعياً. الإمام علي ليس إماماً شيعياً والإمام الحسين ليس إماماً شيعياً هؤلاء أئمة المسلمين، واعتقادنا بهم على أنهم أئمتنا لا باعتبارنا شيعة بل باعتبارنا مسلمين. الحسين إمام الشافعية والمالكية والحنفية والحنبلية.
عندما قال الحسين: مثلي لا يبايع مثله، الشيعة بالمعنى المذهبي لم تكن موجودة من ذلك الوقت، كان يوجد خط إسلامي كبير فيه تنوعات، وكان أئمة أهل البيت أئمة المسلمين.
يمكن أن نقول إن أبا حنيفة إمام مذهب، ومالك بن أنس إمام مذهب والشافعي إمام مذهب. أما علي بن أبي طالب وأبناؤه ليسوا أئمة مذهب، إنهم أئمة الأمة، ولهذا نرى أنه كان مع الحسين في كربلاء بعض العثمانيين، أي نسبة للإمام عثمان بن عفان، وجيش يزيد كان فيه كثير من الشيعة، القضية إذن ليست قضية مذهب وطائفة.
لهذا نرى أن الشيعة أخطأوا والسنة أخطأوا أيضاً، الشيعة أخطأوا لأنهم اعتبروا أن الحسين إمامهم فقط، وعلّبوه، والسنة أخطأوا أيضاً لأنهم اعتبروا أن قضية الحسين لا تعنيهم كثيراً.
كل مسلم يجب أن يضع في أن يضع في ذهنه فاصلاً بين مشروع السلطة بأساليبها وخداعها وأدواتها، وبين مشروع الأمة. الذي يحمل بالإضافة إلى المضمون السياسي المضمون الإيماني والأخلاقي. هذا الفصل يتيح لمشروع الأمة أن يحاسب السلطة عندما تخون وتكفر وتظلم ويقول ويقول لها: لا، وهكذا فعل الإمام الحسين.
السلطة الكافرة والظالمة دائماً تسعى لأن تستلحق مشروع الأمة وتستتبعه بكل وسائلها المتاحة لديها، الترغيب والترهيب والكذب والخداع، وكتب التاريخ تروي لنا حكاية معاوية بن أبي سفيان الذي استقدم شيخاً رواياً للحديث وأعطاه كذا مائة ألف لكي يروي حديثاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول أنَّ الآية: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ / وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ﴾، أنَّ هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب.
وتروي كتب التاريخ أيضًا قصّة هارون الرشيد والشيخ العلاّمة الخطيب المحدِّث. الذي دخل على هارون الرشيد وزوّر حديثًا نبويًّا يقول: لا سبق إلا في خفٍّ أو حافر، فزوَّر هذا الشيخ الحديث وقال: روّينا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أنَّه قال: لا سبق إلا في خفٍّ أو حافر أو جناح، ومن المعلوم نَّ هارون الرشيد كان يهوى تطيير الحمام، وبالتعبير الدارج (كشاش حمام) وكان يراهن عليه، وهو نوع من الميسر. وهو حرام كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾.

اقرأ أيضاً: هل كل يوم عاشوراء وكل ارض كربلاء؟

فلمّا زوّر الشيخ هذا الحديث لهارون الرشيد سُرَّ وأجازه بالمبلغ المرقوم، ولمّا خرج قال هارون الرشيد: والله أشهد أنَ قفاه قفا كذاب على رسول الله ولكنَّه كذب لنا فأكرمناه.
هذان المثلان يعطيانا فكرة عن أساليب السلطة في استخدام كل أدواتها لكي تلحق مشروع الأمة ومؤسسة الإيمان تحت لوائها, فلو أنَّ هذا السلطان طلب من هذا الشيخ المزور، الذي هو أحد أدواته, أ، يفتيه في ذبح هذا المسلم لفعل. ولو طلب منه أن يفتيه في ذبح أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم لفعل، وقد فعلوا ذلك.
إذًا هناك دائمًا صراع بين مشروع السلطة الظالمة ومشروع الأئمة المؤمنة، صراع بين مؤسسة لسلطة ومؤسسة الإيمان. الرسول الأعظم ومن بعده الأئمة عليهم السلام حملوا مشروع الأمة ودافعوا عنه ودفعوا كل شيء ثمنًا لهذه الأمانة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتنا على هذا الطريق وأن يقوّينا على دفع الأثمان مهما كانت صعبة وفادحة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
3 محرم 1414 هـ 1993م

السابق
أضعف الإيمان في حضرة الإمام الحسين
التالي
بالفيديو: مظلي روسي فشل بالقفز فقضى صريعا