هل تُحرِّرنا إيران؟ أو إسرائيل..؟

في سُبات الغيبوبة، عاشَ اللبنانيون، خلال الأسابيع الأخيرة، مع تسعير الحملاتالانتخابية، والشعارات والمهرجانات؛ وغالبيتها الساحقة، المعروفة، تشحذ الخوفالطائفي المذهبي من قلوبهم، تحرّضهم على بعضهم بعضا بحماسة المؤمن. فحوصروا بإنشائيات، بمحاولاتٍ مضحكة للتقرّب منهم، أو التشبّه بهم، أو حتى مغازلتهم.. حماسةٌ تُغني عن الإدراك بالأخطار المقبلة.

وحدها كلمات متناثرة هنا وهناك، أوحت بما في الأعماق من إدراك لهذه الأخطار، كنذير أحدهم في سياق دعوته إلى التصويت لحزب الله من أن “اللبنانيين جميعاً على موعد قريب مع مواجهة، قد تكون الأخيرة من نوعها في المنطقة”، فمرَّر بذلك المسكوت عنه في هذه الانتخابات: أي المواجهة المرتقبة، بين إيران وإسرائيل. واللبنانيون مرتبطون بها عضوياً، بلا مواربة، لأن أكبر أحزابهم، حزب الله، المتفرِّد بصواريخه وسلاحه، هو أقوى الأذرع الإيرانية في منطقتنا؛ ولأنه يشترك ببسالة النجباء في الحرب على السوريين، دفاعاً عن “محور الممانعة”؛ وسيكون هذا الحزب معنياً بهذه الحرب في سورية، أو في لبنان، والتي قد تجرفنا بعيداً إلى الوراء، إلى كهوف الإنسان الأول.

إقرأ ايضا: دلال البزري تفْتَحُ «دفاتر الحرب الأهلية اللبنانية»…

أهازيج “العرس الديموقراطي” لم تمنع أصحاب الرأي من قول ما يتوقعونه من هذه الحرب. وفي منطقةٍ شبه مسكوتٍ عنها، او في المنطقة الواقعة تحت هذا الضجيج الانتخابي، انطلقت التحليلات، منفلتةً، متحرّرةً من القراء، تتنبأ بحرب إسرائيلية – إيرانية مقبلة، تعدّد أسبابها، فتعلن، بصراحةٍ، أنها مؤيدة لإيران للأسباب التي نعرفها، أو، بصراحة أقل، أنها مؤيدة لإسرائيل، لأسباب تبدو جديدة.

تريد إسرائيل أن تخوض حرباً على إيران لأنها “تمتلك نزعة عدوانية فطرية”، ولأن أحزاب اليمين المتطرّف هي التي تحكمها الآن، ولأن راسمي خططها الخارجية يطبقون عقيدتها  “ما زلنا في القشرة الأولى، السطحية، من الاحتلالات في المشرق العربي”
الأصلية، القائمة على الحرب. هذا رأي من يعتقد، من يعلن ولا يضمر، بأن إيران على أراضينا، بمليشياتها الطلائعية، تحمينا من إسرائيل، وسوف تحرّرنا منها. وبأن حربها العادلة لتمكين الأسد من عرشه هي بالذات من أجل حمايتنا من “المؤامرة الصهيونية والإمبريالية”.. هذا الرأي لا يشيخ، طالما أن هناك إسرائيل؛ وطالما أن هناك من يخوض بذريعتها حرباً مقدسة من أجل الهيمنة على منطقتنا.

في المقابل، المتحمسون شبه المعلنون لـ “ضربة إسرائيلية” ضد إيران ومليشياتها لهم الرأي نفسه، ولكن بالمقلوب: ينظرون إلى هذه الحرب، وبتلميحاتٍ لا تحتاج إلى لبيب، بصفتها نافذة تفتح على التحرّر من الاحتلال الإيراني. يردّون الصاع صاعين، فيقولون إن النزعة العدوانية الفطرية موجودة في إيران أيضاً، منذ العهد الأخميني (القرن السادس قبل الميلاد)، مروراً بالصفوي والشاهنشاهي والإسلامي الجمهوري الآن. يشيرون إلى طغيان “الحرس الثوري”، قائد الاحتلال الإيراني في سورية، وباني استراتيجية لم تَعُد مقنَّعة كما كانت في وقت قريب. وهم، أي المرحبون بضربة إسرائيلية على إيران في سورية، يجادلون بالقومية الفارسية التي تخطت حدودها، وغالت بإظهار تفوقها واستعجلت مرات انتصاراتها النهائية، كما يفعل الفاتحون.

إذن، نحن أمام دولتين، شعبين، يقودان حرب الهيمنة والوجود. إسرائيل دفاعاً عن احتلالها أراضي عربية، وحماية لهذا الاحتلال. وإيران أيضا دفاعاً عن احتلالها أراضي عربية، وحماية لهذا الاحتلال. وكلاهما يشترك في بناء المستوطنات، وحلفاء ومعجبون، سرّيون وعلنيون، يراهنون على قدرة واحدة منهما على تحريرنا من الأخرى.

هذه الحرب لا تحدّها الحدود الوطنية، ولا هي تقتصر على لبنان وحده، أو سورية أو فلسطين. وهذه الحرب، لن تكون “الأخيرة”، فإذا اسْتَعرت ولم تختتم بغالب ومغلوب، وتحولت إلى  “هذه الحرب لا تحدّها الحدود الوطنية، ولا هي تقتصر على لبنان وحده، أو سورية أو فلسطين” حرب استنزاف مديدة، فلن يدفع تكلفتها سوانا، نحن شعوب المنطقة: الفلسطينيون، لأنهم سيذبحون في صمت أعلى. السوريون لأن الأسد سوف يجثم فوق رؤوسهم، بعد أن صار “عبداً مأموراً”. واللبنانيون لأن بلدهم سوف يتعفن بانتظار عجيبة عودة “مجاهديه” الممانعين إلى حضن الوطن. وإذا تجنّب المتقاتلون هذه الحرب، فستكون صفقة، نقود بخسة، “فُراطَة”، تخَشخِش في أكياسنا المرقّعة. وأما إذا تغلّب أحدهما على الآخر، أي إيران على إسرائيل، أو العكس، فلن تكون لوحتنا أقل عبوساً. ممّن سنكون قد تحرّرنا لو “انتصرت” إيران؟ أو إسرائيل؟ أي نوع من الستاتيكو سوف يفرض؟ أي نظام؟ أية قوانين؟ اليقين الوحيد هو أن لا إسرائيل ستكون قد حرّرتنا من إيران، ولا إيران من إسرائيل.

هذا كله وما زلنا في القشرة الأولى، السطحية، من الاحتلالات في المشرق العربي. هي القشرة الأدنى. فوقها تناغم حربي بين الروس والأميركيين، تنافس، تنسيق وهواتف؛ الأولون، الروس، بصفتهم محتلين “رسميين” للقواعد والأجواء السورية. والأميركيون، المتفوقون عليهم عسكرياً، محتلون موضعيون، ذوو استراتيجيةٍ مغمْغمة، لكن قواعدهم البحرية اقتربت من شواطئنا: حاملات طائرات، سفن حربية وغواصات ومدمرات.. إلخ. أي أن الحرب لو حصلت سوف تكون بإشراف هؤلاء الجبارين، أو بتنسيق عالٍ بينهما؛ أو بينهما وبين الإسرائيليين والإيرانيين.

إقرأ ايضا: دلال البزري تكشف عن تجربتها الحزبية في «سنوات السعادة الثورية»

الآن، مشكلتنا نحن: إسرائيل تمكّنت من إنشاء دولتها عام 1948، بفضل خلَل ما عند العرب، ضعف وتخاذل؛ فلم ينجحوا في الدفاع عن أرضهم. بعد ذلك بسبعين عاما، وبفضل مزيد من الخلل عند العرب، تمكّنت الجمهورية الإسلامية الإيرانية من إنشاء ما هو أدهى: مليشيات مذهبية محلية تأتمر بـ “حرسها الثوري”. كيف؟ لأن العرب كانوا أيضاً ضعفاء عام 1982 عندما عجزوا عن الدفاع عن لبنان في وجه الغزو الإسرائيلي (تخاذل الأنظمة المتصالحة والمتخاصمة مع إسرائيل). فأقيم احتلال من لون جديد، إيراني، باسم مقارعته الاحتلال التقليدي، الإسرائيلي. وهكذا دخل المشرق في حلقة حلزونية من “الحماة” اللاعبين بمصائر أهله. فهزلوا.. أولئك الأهل، نحِفوا.. حتى كادوا يختفون من المشهد الدائرة فصوله فوق أرضهم.

السابق
«العدل غروب» تعتذر من اللبنانين وتسحب صوت فضل شاكر عن الأغنية
التالي
روسيا: إسرائيل استخدمت 28 طائرة وأطلقت 70 صاروخا في ضرباتها بسوريا