التيارات الدينية المعاصرة: تاريخيتها ومنحنياتها الجديدة (1/2)

تقتصر هذه المقالة، على معالجة التيارات الدينية ذات الصفة الإسلامية كونها جزءاً من موضوع الساعة في اشكالية الواقع العربي واللبناني القائم، أولا. وثانيا-، على معالجة التيارات الدينية الإسلامية ذات المنحى السياسي والايديولوجي دون التيارات الأخرى ذات المنحى الديني الايماني الصرف.

ورغم أن القصد المباشر للمداخلة هو تحديد موقع التيارات والتنظيمات الدينية الإسلامية ذات الفعل القائم الآن على الساحة اللبنانية، وتحديد الموقف الوطني الديمقراطي منها- رغم ذلك نرى ضرورة الدخول في تاريخية هذه الظاهرة لرؤيتها في العمق الإسلامي: من أين بدات وكيف بدأت، ثم كيف دخلت حركة التاريخ العربي وتاريخ المنطقة العربية وما حولها، ثم رؤية تجلياتها المختلفة والمتناقضة أحيانا ومصدر الاختلاف والتناقض. إن هذه الرؤية ضرورية لنا في سبيل تحديد المواقع التي ينطلق منها كل واحد من التيارات الدينية هذه في نشاطها الحاضر، وفي سبيل تحديد المواقف التي تتخذها هذه التيارات، والتي يجب أن نتخذها نحن منها في معركتنا المحتدمة الآن، معركة التحرير الوطني والإصلاح الاجتماعي السياسي الديمقراطي في لبنان.

إقرأ أيضا: التيارات الإسلامية والظاهرة الداعشية

وحين ندخل في تاريخية هذه الظاهرة نرانا مسوقين، حكماً، للذهاب بعيداً في عمق الزمن العربي- الإسلامي حتى نصل إلى فسحة من القرن السادس الهجري(الثاني عشر الميلادي) فتستوقفنا إذ ذاك حركة دينية بدأت دعوة للعودة إلى الأصول الإسلامية انطلاقاً من نزعة متشددة بأمور الدين، أغضبها انصراف فقهاء الأندلس المتحالفين مع دولة المرابطين عن جوهر الإسلام وتمسكهم الجامد بما يشوه صفاء هذا الجوهر لكن الدعوة هذه، إذ خرجت من أرض الواقع السياسي، تحولت إلى حركة اجتماعية سياسية تدعمها أيديولوجية اكتسبت في سياقها التاريخي وجهاً ثورياً، ثم تشكلت الحركة دولة مغربية- اندلسية باسم الدولة الموحدية او دولة الموحدين.

تأسست هذه الحركة على التوجهات الاصلاحية التي يعبر عنها فكر “المهدي بن تومرت”.

أما الأساس الواقعي لحركة المهدي فهو النقمة الشعبية في المغرب على دولة حلف الفقهاء-المرابطين..

يصف المراكشي دولة هذا الحلف في عهد علي بن يوسف فيقول عن ابن يوسف هذا “كان لا يقطع أمراً في جميع مملكته دون مشاورة الفقهاء، فكان إذا ولى أحداً من قضاته كان في ما يعهد عليه الا يقطع أمراً ولا يبت حكومة في صغير من الامور ولا كبيراً إلا بمحضر أربعة من الفقهاء، وبلغ الفقهاء في أيامه مبلغا عظيما لم يبلغوا مثله في الصدر الأول من الأندلس”. “ونال الفقهاء من تلك الاسباب ثروات ضخمة اثارت حفائظ الشعب، ولذلك أعلنوا ذمهم وتهكموا بهم وبأسيادهم المرابطين، وتحينوا الفرص ليشفوا منهم الغليل عن طريق الغمز واللمز. لكن ثورة المهدي حولت الذم والتهكم والغمز واللمز إلى قوة مادية قلبت دولة الحلف وأقامت مكانها دولة ذات توجهات ثورية انبعثت نحو اصلاح التعليم ورفعت كابوس الارهاب عن العقل وحملت في مضامينها بذرة ديمقراطية، إذ أطلقت حرية التفكير والبحث وأزالت المنع والملاحقة عن كتب المفكرين والفلاسفة الذين كانت تضطهدهم دولة المرابطين.

يقول محمد بن تاويت الطنجي عن دولة الموحدين إنها جا ت “تنظر في مناهج العلوم فتجد المنهج الأولي منها يحتاج إلى ثورة عارمة فيعهدون إلى ابن مضاء، وإذا به يحمل راية الثورة على منهج النحاة ويؤلف كتابه المعروف، وهذا الفقه كان قد وصل إلى مرحلته الراكدة وأغلق أبوابه على الفكر الإسلامي ثم أغلق نوافذه فاختنق به من كان على رمق الحياة، فجاء الموحدون وحطموا أو حاولوا أن يحطموا هذا السجن وقالوا بالانطلاق”.

هذه، إذن، حركة دينية اصولية تدعو، بتشدد، إلى مقاربة، اصول الاسلام في مواقعها البكر، وقد قاربت الحركة هذه الاصول فعلا، فلم تجد عندها ضيقا ولا انغلاقاً، وجدت عندها اتساعا وانفتاحا ذهبت معهما إلى غاية من الاصلاح الاجتماعي والسياسي والفكري مشهودة في تاريخنا العربي- الإسلامي. ذلك أنها حركة قد خرجت من ارض الواقع التاريخي أي أرض الناس وفيهم فئات شعبية واسعة . خرجت كتعبير عن غضب هذه الفئات الشعبية على سلطة الفقهاء المتحالفين مع سلطة دولة المرابطين التي كانت قد بلغت حد الانحلال والفساد والطغيان.

وبعد غيبوبة الحياة العربية- الإسلامية نحو ستة قرون عن مجرى حركة التاريخ البشري، تظهر حركة دينية جديدة في شبه الجزيرة العربية نسبت إلى محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي( ١٧٠٢-١٧٩٢) وسميت الوهابية نسبة إليه، وسمي أتباعها “أهل التوحيد”.

ظهرت الوهابية كأول حركة إسلامية إصلاحية في العصورالحديثة (أعلن محمد بن عبد الوهاب دعوته١٧٣٠) وبعدها الباحثون المعاصرون بدءاً لظهور التيار السلفي في الفكر العربي- الإسلامي الحديث، لكونها دعوة إلى نصوص القرآن والسنة دون تأويل، وهى تتمسك غالباً بالمعاني الظاهرة للقرآن والسنة. أما المضمون الإصلاحي الايجابي الذي تحتويه الدعوة الوهابية فهو رفضها الخرافات الطارئة على الاسلام وتعظيم القبور والتماس الشفاعة من الموتى كالأولياء وذوي الكرامات المزعومة ورفض التوسل بقضاء الحاجات إلى هؤلاء. لكن الدعوة الوهابية اتخذت منحى سياسيا منذ ارتبطت بآل سعود، وذلك أن ارتباطها كان بشكل بيعة لمحمد بن سعود أمير نجد عام ١٧٤٤. فقد بايعه محمد بن عبد الوهاب على أن يكون(أي ابن سعود) إماماً يتبعه المسلمون”. منذ ذلك أصبحت الوهابية أداة دينية رجعية بيد العائلة السعودية المالكة، وسلاحا لضرب خصومهم السياسيين وفئات الشعب. هكذا تحولت الوهابية من حركة إصلاحية إلى حركة رجعية، وصارت عنوانا للسلفية الظلامية، لا من حيث كونها دعوة وهابية بذاتها، بل من حيث كونها ارتبطت بسلطة السعوديين الرجعية التي تمثل الأداة العربية الأولى للامبريالية، والكابح الهمجي لحركة التحرر والتقدم في البلدان العربية والاسلامية. ومن المفارقات التاريخية ان الكثير من رجال الإصلاح في العالم العربي والاسلامي الذين ظهروا فى القرن التاسع عشر تأثروا بالدعوة الوهابية، نذكر منهم: الالوسي الكبير(محمود شكري) في بغداد، جمال الدين الأفغاني، محمد عبده، جمال الدين القاسمى(دمشق) خير الدين التونسي(تونس) وابن باديس(الجزائر)، وأمير علي في الهند “ويبدو أن عبد الرحمن الكواكبي تأثر بها كذلك من حيث الأخذ بمفاهيم) «السلف الصالح والعودة الى الإسلام الصحيح (الأصولي) ورفض تعظيم الأضرحة والخرافات الملصقة إلى بالإسلام.

إقرأ ايضا: السيد الامين: نحن بحاجة للتيار العقلي لينقذنا من التخلف

ويجيء القرن التاسع عشر في حين كانت الامبريالية العالمية تأخذ طريقها نحو استنزاف حياة الشعوب الآسيوية والأفريقية: تنهب ثرواتها الطبيعية كمواد خام لصناعات الرأسمال الاحتكاري وتحاول أن تجعل منها مجرد جماعات بشرية مستهلكة لنتاج صناعات البلدان الرأسمالية وان تبقيها دائما في حالة عجز وضعف وتخلف وتبعية. لكن القوى الاجتماعية الحية في هذه الشعوب كانت حيال ذلك تحس بخطر الاستنزاف الخارجي العدواني وكانت في الوقت نفسه تطمح للدخول في عصر الحضارة البشرية المتقدمة المعاصرة، وترى في امتداد شبكة الامبريالية العالمية إلى حياتها ما يمنع استقلالها وتحررها وتقدمها أي أن هذه الشعوب كانت على ادراك لما يصيبها من أضرار في عيشها وكرامتها وفي مطامحها المستقبلية إذا هي استسلمت لهذا الخطر الداهم والقائم ولم تنهض لمقاومته بأي شكل من أشكال المقاومة يتيسر لها في ظروفها التاريخية تلك غير ان الوعي الاجتماعي لهذه القوى الحية لم يكن قد تبلور بعد وعيا وطنيا او وعيا قوميا او طبقيا، فكان لا بد أن يتشكل حينذاك بشكله التاريخي السائد، وهو الوعي الديني.

ان مصداقية هذا الواقع كانت أكثر تحققاً لدى الشعوب العربية وبعض الشعوب الشرقية الكثرة السكانية الإسلامية وذلك ما يفسر نهوض الحركات الاخرى ذات الإسلامية فيها منذ النصف الاول للقرن التاسع عشر بمواجهة خطر الامبريالية وغزوها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وغزوها الثقافي كذلك. ويصح القول هنا أن بعض الشعوب العربية كمصر وسوريا ولبنان وفلسطين والعراق وشعوب المغرب العربي كانت اشد وعيا لهذا الأمر لكونها تتعرض لتفاعل مباشر مع أفكار التحرر العالمية ولكونها ايضا تقع مباشرة رهن الاضطهاد الامبريالي ومحاولات السيطرة المطلقة على حياتها ومصيرها من جانب الدول الامبريالية بسبب من وضعها الاستراتيجي- الجغرافي في خطة الاستنزاف الامبريالي العالمي للشعوب المستضعفة.

ويتقدم بنا القرن التاسع عشر ويتقدم معه الوعي الاجتماعي لشعوبنا العربية لم يبق التشكل الديني هو وحده المعبر عن هذا الوعي. ذلك بفضل تطور الممارسات النضالية في مواجهة سيطرة الخلافة العثمانية الاستبدادية ومواجهة المحاولات التركية الطورانية الشوفينية لتذويب الشخصية العربية ومصالح الشعوب العربية كشعوب لها مطامعها الاستقلالية والإصلاحية وكذلك بفضل الممارسات النضالية في مواجهة لغزو الامبريالي الاتي من الغرب.

مع تطور هذه الممارسات اخذ يتكون شعور قومي لدى المثقفين العرب الذين كانوا في قلب الممارسات هذه، وكانوا التعبير الاول والابرز عن مطامح البرجوازية النامية حينذاك، في أكثر البلدان العربية التحاما بالمواجهة تلك واقربها إلى مواقع التفاعل الفكري والسياسي مع الفكر الغربي المتحرر.

غير أن تكونات الوعي القومي في تلك المرحلة لم تكن كافية لانفصال الوعي الاجتماعي عن تشكله الديني بل كانت عاملا مهما في تمازج التشكل الديني مع التشكل القومي للوعي الاجتماعي. من هنا نلحظ ان التيارات والحركات الإسلامية التي ظهرت بعد منتصف القرن التاسع عشر اخذت تضع في برامجها خصوصية ما لقضية الشعوب الإسلامية. كان ذلك من أوائل علامات حضور القومية العربية في برامج الكفاح الذي تمارسه الحركات والتيارات الإسلامية الإصلاحية والتقدمية. فقد راينا، مثلا، فى تطور الفكر الكفاحي الأفغاني ما يشير إلى تبلور شعار وحدة الشعوب الاسلامي عنده باتجاه تأكيد ما يسميه «رابطة اللسان العربي والعروبة. ومن طريف ما يذكر بهذا الصدد أن الأفغاني يقترح أن يستعرب الخليفة العثماني وأن يستعرب الأتراك جميعاً بحيث يصبح جميع سكان الامبراطورية العثمانية عربا، ذلك لضمانة بقاء الامبراطورية العثمانية “بالاجمال نرى أن الأفغاني يتقدم في هذا المجال نحو احلال «رابطة اللسان، بين الروابط المكونة للأمة. ورابطة اللسان هذه عنده تعني اللغة العربية، وهنا يتحدث بصراحة ووضوح عن «أمة عربية، ويقول بصراحة ووضوح أيضاً «إن الأمة العربية هي عرب قبل كل دين ومذهب، وهذا الأمر من الوضوح والظهور للعيان ما لا يحتاج معه إلى دليل أو برهان، بل نرى الأفغاني يتقدم أكثر فأكثر نحو هذه الفكرة، إنه يحدد خمس خصائص تتكون منها وحدة الشعب هي «اللسان، الأخلاق، العو ئد، الاقليم، وخاصية طارئة تؤثر في هذه الخصائص وهي الدين، في هذا الكلام تطور مدهش في تفكير الافغاني من حيث كونه يرى «خاصية الدين» خاصية طارئة، رغم كونها، كما يقول، تؤثر في سائر الخصائص.

أما الكواكبي، وهو الرمز الثاني- بعد الأفغانى من رموز الحركات والتيارات الإسلامية الإصلاحية، فإنه يرفض السيطرة التركية على العرب ويرى ضرورة عودة الخلافة إلى أهلها العرب على أن لا تهتم الخلافة إلا بالشؤون الدينية المحض، أي أنه يقول بفصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية”. لقد بنى الكواكبي رأيه هذا على اعتبار أن عرب الجزيرة هم بناة الجامعة الإسلامية، وهم أقوى المسلمين عصبية ولغتهم العربية أغنى لغات المسلمين، ومصونة بالقرآن. ولذلك فهي لغة المسلمين المشتركين”. وفي كتابه (طبائع الاستبداد) دعا العرب «الناطقين بالضاد من غير المسلمين» إلى تناسي الاساءات والاحقاد ، وقال بهذا الصدد: «فهذه أمم استراليا وأميركا قد هداها العالم بطرائق شتى واصول راسخة للاتحاد الوطني دون الديني والوفاق الجنسي (القومي) وقال بالصدد نفسه: «نحن ندبر شأننا، نتفاهم بالفصحى، ونتفاهم بالاخاء، ونتواسى فى الضراء، ونتساوى بالسراء، دعونا نجتمع على كلمات سواء، الا وهي: فلتحي الأمة، فليحي الوطن، فلنحيي طلقاء.

في سياق هذا الكلام بمجمله، تبدو لنا الدلالة العميقة على تطور فكر الكواكبي- أولاً، وتطور الوعي الاجتماعي في عهده. ثانيا، وليس مصادفة أن الكواكبي يشير او يقول صراحة إن العلم قد هدى شعوب استراليا وأميركا إلى طرائق وأصول راسخة للاتحاد وأن يقول صراحة أيضاً إن تلك الطرائق والأصول التي هدى إليها العلم هي الوحدة الوطنية والاتفاق القومي دون الوحدة الدينية والاتفاق المذهبي. أي أن الكواكبي يرى العامل الحاسم في الوحدة الوطنية هو العامل القومي دون العامل الديني او المذهبي. وتلك خطوة بالغة الاهمية في تطور الوعي العربي نحو تشكله القومي مصادفة (ايضا) ان الشيخ محمد عبده بالذات يقول كلاما يحمل تلك الدلالة ذاتها حين يردد أن المصريين أضافوا إلى الشعور الطبيعي والتقليد الديني محبة وطنية وليس منشؤها التهذيب العمومي”، وان يقول إن المصريين قوم عرب وكلهم مسلمون إلا قليلا، وفيهم محبو أوطانهم مثل ما في الشعب الإنكليزي”. أقول لم يكن ذلك مصادفة ولا نزعة ذاتية، بل كان ذلك يجرى وفق منطق عملية تاريخية تمتد من اول تاريخ الإسلام حتى عصر هذه الحركات الإسلامية الإصلاحية في القرن التاسع عشر. إنها عملية ارتبطت في منطقها مسألة العروبة مسألة الاسلام ارتباطا موضوعياً تاريخياً من حيث المضمون الاجتماعي بصرف النظر عن المضمون الديني الايماني للاسلام. فنحن نعلم أن دعوة الإسلام الاولى هي التوحيد، والتوحيد هنا بمعناه الديني كان تعبيراً عن تاريخية موضوعية الى التوحيد الاجتماعي، أي توحيد مجتمع شبه الجزيرة العربي بالذات ليتكون منه شعب عربي موحد تنهدم بينه العصبيات القبلية- العشائرية. لقد كانت دعوة التوحيد في الإسلام عاملا عظيم الأهمية في صهر المجتمع العربي في وحدة نسبية دفعت به إلى العالم المعروف حينذاك، وإلى الحضور الباهر في تاريخ حضار العصور الوسطى البشرية. لقد ظهرت هذه العلاقة الموضوعية بين العروبة والإسلام في أقوال للنبي تنص على العمق التاريخي لهذه العلاقة.

من ذلك: إشارته إلى الأثر العميق الذي أحدثه في نفسه انتصار العرب على الفرس فى في معركة «ذي قار» الشهيرة، بقوله: «اليوم أول يوم انتصف فيه العرب من العجم وبي نصرو  هنا نشعر بأن النبي تحدث عن نتائج المعركة باعتزاز. وفي رواية لأحمد بن حنبل أن عليا بن ابي طالب روى عن النبي قوله: «لا يبغضن العرب إلا منافق».

وفى الحديث أن النبي خطب بالناس فقال: «أيها الناس ليست العربية لأحدكم من أب ولا ام وإنما هي اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي » نستفيد من كلام النبي هذا ان العربية ليست بالنسسب وحده، بل بما يتجاوز ذلك إلى ما هو تعبيرعن شخصية الأمة وفكرها وهو اللغة. وذلك يعني شمولية الأمة العربية إلى غير العرب بالنسب، أي إلى الذين يتكلمون لغة العرب في المجتمع العربي.

وعندما جاءت الفتوحات العربية لتمتد بحدود الدولة إلى حيث يتحرر العرب الذين اخضعهم سلطان الفرس والروم وقف العرب في العراق والشام وكذلك المصريون(…) مع العرب المسلمين رغم خلافهم الديني مع الفاتحين واتفاقهم في الدين مع الفرس والروم فاسلم الجميع- جميع العرب- في بناء الدولة العربية التي ظل الإسلام والمسلمون فيها اقلية بنحو قرنين من الزمن، وكانت انجازا عربيا قوميا، ولم تكن دولة دينية، كما يتوهم ذلك الذين لا يعلمون”.

وفى العصور الحديثة تبرز هذه العلاقة باشكال جديدة لدى التيارات والحركات الإسلامية، امثال:

الحركة الوهابية التي كافحت العثمانيين المسيطرين على البلدان العربية وجددت الشرط بأن يكون الخليفة قرشيا اي عربيا، اي انها قالت بضرورة عروبة الدولة الإسلامية.

ثم الحركة السنوسية التي أسسها محمد بن علي السنوسي(١٧٨٧-١٨٥٩) في ليبيا والجزائر ومصر هذه الحركة واجهت الزحف الاستعماري على افريقيا الشمالية بحروب طويلة المدى رغم كونها ذات نزعة سلفية صوفية وخاصمت في الوقت نفسه سيطرة العثمانيين وشكلت حلقة في سلسلة الممارسات الكفاحية ضد السيطرة الاستعمارية الغربية والعثمانيين والاتراك، اي هذه السلسلة التي أرست تقاليد الكفاح العربى في سبيل التحرر الوطني.

والمهدية التي أسسها في السودان محمد المهدي(١٨٤٤- ١٨٨٥)، هذه أيضاً شكلت حلقة أخرى في تلك السلسلة ذاتها إذ قاتلت الاستعمار البريطاني وخاصمت دولة الخلافة العثمانية.

وإذا انتقلنا في هذا السياق التاريخي إلى الجزائر وتعمقنا النظر في دلالات الحركة الإسلامية التي قارعت الاستعمار الفرنسي منذ احتلاله هذا الجزء العربي حتى خروجه مطروداً من قبل الشعب الجزائري، نرى بوضوح كيف شكلت إسلامية الثورة الجزائرية عروبتها بحيث لم يكن من فاصل بين الإسلام والعروبة في كينونة الوجه الثوري لحركة الجزائر المكافحة.

منذ عديد القادر الجزائري (١٨٠٧ – ١٨٨٢) حتى الامام باديس (١٨٨٩- ١٩٤٠) أظهر هذا التشكل الوطني العربي – الإسلامي فعاليته الثورية خلال ذلك النضال الطويل الذي انتج أخيرا ثورة المليون ونصف المليون شهيد، وانتج الاستقلال الوطني والدولة العربية التقدمية، دولة الجزائر الحاضرة.

إن شعب الجزائر هو الذي كان حاضراً في كل مراحل الصراع ضد الفرنسيين، إنه الشعب الجزائري نفسه الذي بايع عبد القادر الجزائري كقائد للثورة ضد المحتلين فقاد شعبه بأمانة وقاتل المحتلين الفرنسيين خمسة عشر عاما ضرب خلالها نقودا سماها المحمدية وأنشأ معامل للأسلحة والأدوات الحربية و«ملابس» الجند، وكان يتقدم جيشه في المعارك، ولم يستسلم إلاً حين هادن سلطان المغرب الأقصى يومئذ، عبد الرحمن بن هشام، الفرنسيين واضطر(عبد القادر الجزائرى) للاستسلام سنة 1840، ونفاه الفرنسيون إلى طولون اولا ثم استقر اخيرا في دمشق حتى مات .

وابن باديس الذي قاد ثورة الجزائر منذ عام ١٩١٣ كانت حركته تشكل حركة إسلامية تدعو ايضا إلى المنابع الاولى للاسلام اي كانت اصولية تدعو إلى رفض الشعوذة والخرافة وسائر الأمور الداخلية على الإسلام وتحارب طرق الصوفية ورجال الدين المتحالفين مع سلطات الاحتلال الفرنسي.

هذا القائد الثوري هياً شعب الجزائر للثورة المسلحة التي انتجت استقلال الوطن وطرد الاحتلال، تهيئة فكرية تعليمية سياسية. وقد تجلت بفكره الديني والسياسي معا حقيقة كون الحركة الإسلامية في الجزائر، كما هي في سائر العالم العربي خلال القرن التاسع عشر، حركة إسلامية عربية في آن، بل كان التوجه الإسلامي في الحركة الجزائرية توجها وطنيا قوميا في الأساس، لأن الإسلام كان، هناك، تعبيرا عن الشخصية الوطنية لشعب الجزائر، وكان تمسك هذا الشعب بالإسلام يعني في العمق تمسكه الوطني بلغته وقوميته وتاريخه وتقاليده وأرضه.

لقد كتب ابن باديس سنة ١٩٣٠: «إن الجزائر بلد عربي، ومن ذا الذي يفكر في إنكار هذه الحقيقة، وهي أرض إسلامية أصيلة، وذلك حق أيضاً. ومهما يكن من إرادةا الامبريالية في الماضي والحاضر، ومهما يكن من قوة حرابها، فإن هذه الظاهرة التاريخية تظل صادقة تمام الصدق. إن الاستعمار الفرنسي لم يدخر جهدا حتى يستعبد الجزائريين وحتى ينتزع من قلوبهم الإسلام والعروبة وقد حاول الاستعمار جهده طيلة قرن من الزمان لكي يصل إلى هذه الغاية”.

وكتب ابن باديس أيضا يقول: « إن الطبيعة العربية الخالصة لا تخضع للاجنبي. ولذلك نرى القرآن يذكرها بالشرف. إن عناية القرآن لاحياء الشرف في نفوس العرب ضرورية لإعدادهم، لما هيئوا لهم من سياسة البشر. ولهذا نستعين على فهم السر والحكمة في اختيار الله للعرب للنهوض بهذه الرسالة الاسلامية العالمية واصطفائه إياهم لإنقاذ العالم مما كان فيه من شر وباطل. إن الأمة العربية استطاعت أن تنهض بالعالم كله، وان تظهر دين الله على الدين كله.

وحين يدخل العرب عصر الحرب الأولى يدخلونه بوعي قومي تشكل على نحو من الاستقلال النسبي عن الوعي الديني، ذلك بفضل عوامل ثلاثة:

أولاً: نمو البرجوازية الوطنية، في بعض الأقطار العربية (مصر ولبنان وسوريا) طموح هذه البرجوازية نحو الاستقلالية لصالحها وأهدافها وايديولوجيتها، عن سلطة الاقطاع العسكري العثماني (سوريا ولبنان) وإلى ترسيخ تطورها الاقتصادي (مصر) ضمن إطار دولة محلية مستقلة نوعا ما عن دولة الخلافة العثمانية مع كون هذه الدولة المحلية ذات مطامح قومية عربية (حروب ابراهيم باشا).

ثانيا: تطور الصراع العربي- العثماني من مرحلة كونه صراعاً للإصلاح ضمن إطار دولة الخلافة، إلى مرحلة كونه صراعاً من أجل الاستقلال عن دولة الخلافة. ان هذا التطور كان سبباً ونتيجة في آن واحد «كان سبباً لمزيد من صحوة الوعي القومي، وكان نتيجة: لاحتكاك تناقضي مباشر مع النزعة الطورانية التركية التي كانت ترمي إلى تتريك العرب مع مزيد من الاضطهاد القومي لهم.

ثالثا: العلاقة التفاعلية بين البرجوازية العربية الناشئة والمثقفين العرب وبين الافكار المستنيرة الآتية من أوروبا لا سيما أفكار الثورة الفرنسية وأفكار الاشتراكيين الأوروبيين الطوبويين.

إقرأ ايضا: صعود السلفيات الجهادية.. تكرار لصعود حزب الله؟

إن هذه العوامل الثلاثة تضافرت بنحو من التكامل على تشكيل الوعي القومي العربي بمضمون تحرري وعلماني.

لكن هذا التطور الجديد لم يغب عنه كثير من رجال الدين المستنيرين، بل دخلوا في علاقة مع هذا التطور حتى شارك بعضهم مشاركة مرموقة في بدايات التكون الكفاحي الوطني الذي كان الأساس التاريخي الواقعي للحركة التي نسميها الآن حركة التحرر الوطني العربية. ففي مصر مثلا قاد الحركة الوطنية فريق من الوطنيين الذين كانت لهم صفة الازهريين، او كانوا فعلا من رجال الازهر، رغم انهم اصبحوا مدنيين مثل سعد زغلول ومصطفى كامل ومحمد فريد. وفي لبنان وسوريا ظهر مناضلون من رجال الدين ضد السلطة العثمانية اولا ثم ضد الانتداب الفرنسي وضد كل اشكال الاستعمار، يبرز بينهم أمثال الشهيد الشيخ أحمد طبارة والشيخ مصطفى الغلاييني(بيروت) والسيد محسن الامين والشيخ أحمد عارف الزين والشيخ أحمد رضا والشيخ سليمان ظاهر(جبل عامل) والشيخ عبد القادر المغربي(دمشق). وفي العراق شارك رجال دين معروفون وبعضهم من كبار المجتهدين، في ثورة العراق العشرينية ضد الانكليز أمثال الشيخ الشريعة والسيد محمد سعيد الحبوبي، والشيخ محمد رضا الشبيبي والشيخ عبد الكريم الجزائري.

والملحوظ هنا أن مشاركة رجال الدين هؤلاء، أو من لهم صلة برجال الدين لم تتخذ شكل حركة إسلامية وإنما كانت مشاركتهم مشاركة وطنية صرفة، أي لم يرفعوا شعارات دينية خلال اسهامهم في الكفاح التحرري القومي، غير انهم دخلوا غمرة النضال وهم يحملون فكراً دينياً مستنيراً كان مرشداً لهم ودليلا إيديولوجيا ناضلوا بهديه.

ويمكن تعميم هذا القول ليشمل رجال الدين، المجتهدين في ايران، الذي خاضوا «ثورة المشروطة، (سنة 1906)، وهي ثورة ديمقراطية تطالب بانشاء برلمان يقيد حكم الشاه ويكسر ديكتاتوريته المطلقة، فالمشروطة إذن تعني اشتراط الحكم الدستوري لكبح جماح الحكم الفردي الاستبدادي. كان على رأس هؤلاء المجتهدين السيد الشيرازي صاحب الفتوى المعروفة التي حرمت على الشعب الايراني وعلى حكامه شرب الدخان والتنباك بقصد إلغاء امتياز احتكار الدخان والتنباك في ايران الممنوح لشركة انكليزية احتكارية .

ان هذا الموقف، رغم كونه ينطلق من فتوى اجتهادية دينية، كان موقفاً ديمقراطيا وطنيا مناهضاً للاستبداد المطلق وللامتيازات الاحتكارية الاجنبية، اي انه لا يشكل حركة دينية لها شعارات دينية معينة.

رأينا في السياق التاريخي السابق حركات وتيارات دينية إسلامية تقوم كلها على الدعوة إلى العودة نحو الأصول الإسلامية الأولى لتنقية الأصول هذه مما لحق بها خلال الزمن الطويل من تشويهات ومن خرافات يرون براءة الإسلام منها.

لكن هذه الدعوة كانت تنطلق من مواقف إصلاحية وتقدمية، كما رأينا في عرضنا السابق.

غير أن الدعوة إلى الأصول هذه قابلتها خلال هذا السياق التاريخي بالذات دعوات أخرى تنحو نحو الاصولية كذلك . في حين ان هذه الدعوات الأخيرة تنطلق من مواقف رجعية او ظلامية بل ينطلق بعضها من موقع الخيانة لشعبها ولمبادىء الإسلام ذاتها.

وعلينا الآن أن نرجع إلى بداية السياق التاريخي لنرى من جديد أولئك الفقهاء الذين تحالفوا مع الظالمين ضد شعب المغرب في الأندلس تمسكاً بامتيازات اقتصادية بعد ان بلغوا من الثراء ذلك الحد الذي أغضب فئات الشعب كلها، فضلا عن انهم كانوا المرجع في اضطهاد الفكر وتقويض العقل وارهاب العلماء والفلاسفة. كان هؤلاء الفقهاء ينطلقون بمواقفهم تلك من الفكر الديني نفسه، ويرجعون إليه فى إصدار الفتاوى ذات المصلحة السياسية تأييداً للسلطات القائمة.

ثم ننظر ثانية إلى مصير الدعوة الوهابية التي رأينا كيف تحولت من دعوة إصلاحية إلى دولة ومملكة ديكتاتورية رجعية تحكم باسم الدين وتضطهد فئات الشعب جميعا باسم الدين.

إقرأ أيضا: حزب الله والتيارات الاسلامية المتشددة: هل من أفق غير الصراع والمواجهة؟

وفي ثورة الجزائر نرى الفرنسيين المحتلين يعتمدون، في حربهم ضد الإسلام والمسلمين أى ضد القومية العربية والشعب الجزائري، على رجال دين رجعيين تحالفوا ايضا مع سلطة الاستعمار، ومنهم رجال الطرق الصوفية الذين ساعدوا قوى الاحتلال في نشر الاستسلام والقدرية بين صفوف الشعب ليحولوا دون تأجيج الثورة على المستعمرين. ومن هنا نرى كيف أن الثائر الإمام ابن باديس خاض معركة ضد رجال الدين هؤلاء من حيث كونهم شوهوا الإسلام وتعاليمه ومبادئه.

* جزء اول من مقال كتبه الشهيد المفكر حسين مروة في 29-11-1986 وصدر في مجلة “الوقت” عدد نيسان 1987.

يتبع جزء ثان

السابق
طقس متقلب وماطر يسيطر على لبنان في الاسبوع الاخير من شباط 2018
التالي
استقالة مسؤول استرالي كبير بسبب فضيحة جنسية مع سكرتيرته