ترشح الدويري للـ «أوسكار» فأيقظ غرائز المقموعين

عاد موضوع المقاطعة لينبعث في لبنان مع ترشح فيلم المخرج زياد الدويري «القضية رقم 23» لجائزة أوسكار عن أفضل فيلم أجنبي. والنقاش مرة أخرى كشف نضوباً مدهشاً في خيال الداعين إلى المقاطعة وعجزهم عن تقديم فكرة واحدة جديدة على صعيد دعاواهم هذه. لا بل أكثر من ذلك، إذ إن النقاش أفسح لهم المجال للقول أنهم راغبون في أن ينتزعوا من الناس عقولهم وأن يحلوا مكانها غرائز الركون والقبول بما تفرضه عليهم السلطة، وهي هنا سلطة المقاطعة.

ما يقترحه هؤلاء على اللبنانيين فعلاً، أن يقبلوا بأن تتولى جماعة غير كفيّة وغير شجاعة وعديمة الخيال التفكير عنهم واتخاذ قرارات تتعلق بأذواقهم. أحد مقاومي التطبيع، وهو صحافي، قال أنه شاهد فيلم الصدمة لزياد الدويري. قال أنه شاهد الفيلم الذي على اللبنانيين أن لا يشاهدوه. شاب ثلاثيني يجاهر بحقه في أن يمنع أربعة ملايين لبناني من مشاهدة فيلم سبق له هو نفسه أن شاهده.

زياد الدويري ذهب إلى إسرائيل لتصوير فيلم «الصدمة»، علماً أن الفيلم موضوع المقاطعة هو غير الفيلم المرشح لجائزة أوسكار، وهنا تحضر الضغينة بصفتها غريزة لطالما كانت وراء الكثير من دعاوى هذه الجماعات التي لم يسعفها ذكاؤها في التلطي وراء فكرة لمداراة وهن وراءه حسد. فالدويري شر كله، شر تماماً كما هي إسرائيل شر مطلق. فهل من فكرة تبسيطية أكثر من فكرة أن «إسرائيل شر مطلق»، وكيف لنا أن نخوض حرباً مع «شر مطلق» طالما أننا لسنا «خيراً مطلقاً»؟

والحال أن جماعات المقاطعة مدركة حقيقة نضوب فكرتها وعجزها عن الصمود في وجه الحقائق الجديدة، فهي وفي ذروة انتصاراتها العسكرية على جماعات المنطقة وأهلها (ما عدا إسرائيل طبعاً)، تلقت سلسلة من الهزائم لم يلحقها بها زياد الدويري، وغيره من غير المقاطعين، إنما ألحقها بها تداعي فكرة المقاطعة من خارج إرادة الراغبين فيها. الدعوة إلى مقاطعة فيلم ستيفن سبيبلرغ «ذا بوست»، والتي توجت بخطاب لأمين عام «حزب الله» حسن نصرالله، فشلت ليس لأننا نحن الراغبين في مشاهدة الفيلـــم أقوى من نصرالله، بل لأن المقاطعة فشلت تقنياً قبل أن يُلغي وزير الداخلية نهاد المشنوق قرار منع عرض الفيلم. خسرت الدعوة إلى مقاطعة الفيلم وقرار منع عرضه بفعل القهقهات التي أطلقها لبنانيون حثهم القرار على التوجه إلى كومبيوتراتهم ومباشرة مشاهدة الفيلم. وهنا فعلاً يجب أن تجد جماعات المقاطعة سبيلاً لتجاوز هذا المأزق، وإلا تحول النقاش قهقهات متواصلة. ربما شكل هذا فرصة لها، أي أن تراهن على مقدار العقل في دعاواها، فأن تُقنع شخصاً بعدم مشاهدة الفيلم سيكون خيراً من أن تمنعه. لكن يبدو أنها تدرك أن هذه معركة خاسرة، وأن العقل لن يكون إلى جانبها. وها هي تخسر تقنياً الطاقة على المنع أيضاً، وها هو الشاب الممانع يسترق مشاهدة الفيلم الممنوع عبر كومبيوتره.

هذه الحقيقة لم تدفع المواظبين على الدعوة إلى المقاطعة إلى التفكير في تطوير دعاواهم لمنع الناس مما يسمحون به لأنفسهم. ومن المدهش كم هم خاسرون وكم هم مواظبون على التمسك برغبتهم في المنع. المسألة تتجاوز في هذه الحال الفكرة. علينا هنا أن نبحث عن المنع بصفته غريزة نشأ عليها هؤلاء. فكيف يمكن نفساً «ممنوعة» أن لا تمارس هذا المنع، أو أن لا تعيشه؟ المقاطعون اليوم أمام انعدام توازن مصدره اختلال داخلي، فالسلطة، وهي سلطتهم، فقدت تقنياً القدرة على المنع. لم يبق لديهم سوى أصواتهم، وحجارة يقذفونها على زجاج قاعة الجامعة اليسوعية التي دعي زياد الدويري للحديث فيها.

إقرأ أيضاً: بين المنع والممانعة: هل فتح المشنوق معركة الحريات؟

لكنهم أيضاً ما زالوا يملكون بعض السلطة على عقول خصومهم، فهم فرحون بأنهم أجبروا الدويري على القول أن «إسرائيل شر مطلق» في تلك الحلقة التلفزيونية. ابتسم الممانع الشاب حين انتزع العبارة من فم المخرج. هو يدرك أن هذه العبارة من خارج قناعة الدويري، إلا أنه نشأ على رغبة إجبار الناس على قول ما لا يعتقدونه. المشهد نفسه الذي وصفته الكاتبة ليزا ويدين للطفلة السورية التي أجبرتها مدرّستها على حمل صورة «الأب القائد»، وهي حملتها مع ابتسامة سخرية تعرف معلمتها أنها تخفي استهزاءً بصاحب الصورة، لكن هذا ليس مهماً، إنما ما كان مهماً للمدرّسة هو أن تحمل الطفلة الصورة.

ثمة بعد غرائزي فعلاً لصعود مشاعر المقاطعين ولخمودها. العقل لا مكان له في هذه المعادلة. القمع هنا بصفته تقنية مستحضرة في هذه المناسبة، يخرج من نفوسٍ مقموعة أصلاً، ومن خوف متراكمٍ يهوله أن تنتهي أسبابه بانتفاء مقدرته على ممارسة طغيانه. والخاسر الأبرز من هذه المعادلة البائسة، هو القضية موضوع المقاطعة. الخاسر الأبرز من أن يُمثّل هؤلاء فلسطين هو فلسطين نفسها، ذاك أنهم يحرمونها من أن يكون العقل جزءاً من قضيتها. هذا تماماً مع فعلته أنظمة من نوع نظام البعث معها. فقد تم استحضارها بصفتها مناسبة ثابتة لقمع الناس ولقتلهم ولمنعهم من أن يحلموا ومن أن تكون لهم عقول مستقلة عن عقل البعث وعقل القائد القاتل.

إقرأ أيضاً: المخرج زياد الدويري بين الإبداع والعمالة

كم يبدو مستفزاً أن يقول شاب أنه شاهد فيلم «الصدمة» لزياد الدويري في سياق دعوته إلى مقاطعة الفيلم، وهو على كل حال لا يُظهر من النباهة ما يُقنع طفلاً بأن من يقول هذا الكلام يستحق أن يشاهد الفيلم عوضاً عنا، وأن يقرر ما إذا كنا سنشاهده أم لا. قالها الشاب، مثلما قالها كاتب قبله عن كتاب عاموس عوز «قصة عن الحب والظلام» المترجم إلى العربية، والذي كان عرضة لحملة مقاطعة موازية. حينذاك، قال الكاتب الممانع أنه قرأ الكتاب بالفرنسية وأنه لا يستحق أن يكون في «مكتبة عربية»! الكاتب كان يملك تفويضاً يتيح له أن يمنعنا مما لم يمنع نفسه منه. وهو لم يحز هذا التفويض من أحد، إنما حازه من سلطة موروثة تآخى مع جورها عليه، فاستسلم لها، وصار صوتها وصورتها.

السابق
إليكم الراتب الذي يتقاضاه قاسم سليماني!
التالي
الشيف أنطوان لهشام حداد: بتطبخ أكل هوا!