إيران: ثورة تحت سقف الجناحين

قد لا تعدو الاحتجاجات في إيران كونها سجالاً جوانياً داخل النظام السياسي أخذاً هذه المرة بعداً آخر في شوارع البلاد. والثابت أن الجناح المحافظ أراد تأديب الرئيس حسن روحاني وفريقه فأخرج له من مدينة مشهد أفواجاً خطط لها أن تُعبّر عن سخط من «الروحانية» ومن إخفاقات رئيس الجمهورية في حل أزمات الناس المعيشية ومأزق البلاد الاقتصادي.

ينتمي إثنان من منافسي روحاني على رئاسة البلاد في الانتخابات الأخيرة إلى مشهد: إبراهيم رئيسي ومحمد باقر قاليباف. خرج الناس مدفوعين من قبل خطباء جمعة ينتمون في النهج والعقيدة إلى التيار المتشدد الذي يحصّن ولاية الفقيه ومرشد الثورة. خرج مزاج الجمع عما هو مخطط، فسقط خامنئي في سلة روحاني التي صب المتظاهرون ردحهم في أحشائها. على هذا غضب الحرس الثوري وأفتى بانتهاء «الفتنة»، فيما أظهر الإصلاحيون مقتاً عجيباً لـ «غوغاء» الشارع مشككين بإيرانية المتظاهرين وانتماءاتهم.

اقرأ أيضاً: انكشاف النظام أبرز إنجاز للانتفاضة الإيرانية

لا تُسقط هذه المظاهرات نظام إيران. يبدو البلد متعايشاً مع ظواهر التبرم الفجّة في الميادين، لكن لا قلق حقيقياً ينتاب أولي الأمر حول مصير الحكم ووجوده. لا يملك الغاضبون رعاية سياسية تطوّر ما هو نزق معيشي إلى تحوّل يطاول راهن البلد ومستقبله. لا ينال المحتجون إلا كلمات خجولة متفهّمة يقذف بها روحاني في التفاتة لا تستهدفهم بمقدار ما تطرق أبواب المرشد ومعسكره. وإلى أن يتهامس الحاكمون ويهتدون إلى نقطة توازن عاجلة، فإن ضحيج الشارع يبقى جلبة على هامش مداولات غرف القرار.

لا يخرج الشارع في إيران عن مفردات الجدل الذي بات علنياً بين منابر الحكم. بدا أن المظاهرات خرجت تواكب سجال شخوص السلطة حول الفساد وموازنة الحرس الثوري وهيمنته على المؤسسات الاقتصادية في البلاد. كشف الزلزال الذي ضرب البلاد في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي اهتراءً أصاب مؤسسات الدولة كما عن شيوع تقاليد المحسوبية وتبادل المنافع والتستر على الموبقات المشتركة. أسقط الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد صورة المرشد حين خرج الردح بين الرجلين إلى العامة. فقدت الجمهورية القدرة على تسويق ثورتها والترويج لنظرية حصار المتآمرين من الخارج. كان لافتاً أن الناس في احتجاجهم لم يروا في العقوبات الخارجية سبباً للانهيار. فإفلاس مؤسسات مالية كان يملكها كبار المقربين من الدولة لا يمت بصلة إلى ما يحيكه هذا الخارج على ذاك الداخل. واللافت أيضاً أن في التعليقات التي سردها روحاني أو تلك التي تسرّبت من محيط خامنئي ما يستنتج منه تبادل للتهم حول لبّ المعضلة من دون أن يكون للعقوبات الاقتصادية مكان يمكن بيعه هذه الأيام لدى المجتمع المتبرم.

يحتج الإيرانيون أو بعضهم، وربما الطبقة المعدمة منهم، لكن إيران لا تريد ثورة ولا تريد إطاحة النظام. واللافت أيضاً أن العالم لا يريد ذلك، لا سيما دول الجوار. تبدو تظاهرات إيران مربكة لطهران لكنها مربكة أيضاً لعواصم العالم أجمع. فلا الرياض ولا باريس ولا حتى واشنطن تريد «ربيعاً» مشؤوماً جديداً في المنطقة. ولعل إدراك الحاكم في إيران هذه الحقيقة يجعله أقل توتراً، لا عجالة تدفعه للإفراط في استخدام العنف لإجهاض حراك المدن التي يشيع فيها الحرد.

غير أن إيران تحاول إخفاء خيبتها. لم تعد تستطيع منابر طهران الاحتفاء بـ «أمبراطورية عاصمتها بغداد»، كما لا يستطيع منظرو الجمهورية الإطلالة باستعلاء على «ربيع» العرب الخائب، كما لم يعد بإمكان وزير الخارجية «المعتدل» محمد جواد ظريف إطلاق حبره برشاقة على صفحات الجرائد الأميركية مطلقاً العنان لانتقادات تطاول المنطقة والعالم من شرفة العفاف الإيراني الكبير. وإذا ما كانت حوافز العامة لاقتحام الفضاء العام اقتصادية تشرحها لغة الأرقام، فذلك يعني أن الأرقام وحدها وليست مواعظ المرشد هي التي قد تعيد الغاضبين إلى بيوتهم.

ما زال أمر الخروج من الأزمة الحالية في إيران في يد روحاني. أراد المحافظون الانتقام من تجروئه علناً على انتقادهم وانتقاد «حرسهم» لعل في لغة الشارع ما يفرّغ الشرعية التي محضته بها صناديق الاقتراع. بدا أن حصار التشدد الذي ينفخ به خطاب المرشد، حوّل «الرئيس المعتدل» إلى ناطق يخلو خطابه وخطاب وزير خارجيته من مفردات ذلك الاعتدال. انتخبه الناس لأنه يملك في نهجه ومنطقه من البراغماتية والمرونة ما لا يملكه الآخرون، وإذا ما خرج الناس عليه فذلك أنه بات منتجاً لا يعبر عن تميّز في سوق يعج بأصوات يغيب عنها الاعتدال.

يستطيع روحاني بخبث كبير إعادة تصويب الأداء الرسمي العام في السياسة والاقتصاد. تحدث الناس عن إسقاط الديكتاتور، قد لا يقصدون ذلك والأكيد أنهم لا يمتلكون أدوات ذلك. لكن روحاني يمتلك من الحنكة ما يتيح له الغرفَ بحيوية من متن ما أطلقه المحتجون لفرض رؤى أخرى تقف حائلاً دون غرق المركب بالجميع في العاصفة التالية.

لا تمتلك إيران هوامش أخرى للخروج من محنة هذه الأيام. يظهر للمراقب جلياً أن أجنحة النظام تتكامل ولا تتناكف، على الأقل علناً، في مواجهة لغة الشارع. الإجماع على مسؤولية العامل الخارجي يبدو تمريناً بليداً يتبناه التياران لانعدام الإجماع على واجهة أخرى. ستسعى أجنحة الدولة إلى تجنب التقاتل وإلى التآلف والتعايش مع رد أمني رادع بجرعات مدروسة مع انتظار متوخى لارتخاء يصيب تلك المظاهرات المحرومة من أي ذخيرة سياسية يضفي عليها طابعاً أخلاقياً سامياً. بيد أن إجماع العواصم في الخارج كما إجماع التيارات في الداخل على لملمة العبث وترتيب البيت الإيراني قد يكون لعنة إذا ما بدا أن للشوارع ديناميتها التي لا تخضع لحسابات الحكم وحكمته، ذلك أن الصدفة التي أنتجت لحظة ترامب في واشنطن والبريكزيت في لندن وربيع العرب في الشرق الأوسط وعبث الحاكم في بيونغ يانغ قد يخفي مزاجاً رديئاً لا يتمناه أحد في إيران.

السابق
هذه هي مشكلة جمهور حركة أمل
التالي
«أم خالد» والمرأة البيروتية في «العين بالعين»!