درْس علي عبد الله صالح

تسارعت الأحداث في اليمن. احتكاكات متزايدة بين مسلّحي “الحوثي” وجماعة الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، ثم اشتباكات موسّعة، ثم فض صالح لتحالف السنوات الماضية مع أعداء العقدين الماضيين، ثم دعوته لإنتفاضة شعبية واسعة عليهم “دفاعاً عن الجمهورية”، واقتتال دامٍ أظهر بشكل واضح أنّ الحوثيين كما كان يعرفهم صالح في أيام قتاله ضدّهم في صعدة اكتسبوا تجربة قتالية أوسع في السنوات الماضية، وأنّ أوراقه للمواجهة الميدانية في العاصمة اليمنية ما عادت كلّها صالحة ونافعة وقسم منها نخره السوس، وأنّ انقساماً حاداً في الحزب الحاكم السابق، المؤتمر الشعبي، لا يمكن معالجته في ساعات معدودات، وأنّ التململ الشعبيّ المتزايد في العاصمة ضدّ الحالة المؤدلجة المتطرفة التي يريد فرضها الحوثيون على أبنائها، وضدّ الحرب والحصار في وقت واحد، وبطبيعة الحال، لن يتحوّل إلى إنتفاضة شعبية “كومونيّة” بكبسة زرّ.

اقرأ أيضاً: الفصل الأخير الذي لم يكتبه علي عبدالله صالح

يضاف إلى كلّ هذا، أنّ جماعة “الحوثيّ” كانت تتحوّط من انقلاب صالح عليها، ولا تسقط “ثأرها” القديم لحسين بدر الدين الحوثي الذي قتله الجيش اليمني عام 2004، ولم تسلّم جثته إلى ذويه إلا عام 2013. ما كان بإمكان صالح أن يشعل انتفاضة شاملة على الحوثيين بكبسة زر، خصوصاً في ظلّ التأخر في التناغم بين كافة الأطراف الموجودة في المواجهة العسكرية ضدّ جماعة “أنصار الله” المهدوية، المدعومة من ايران. في المقابل، كان قتل صالح هدفاً مبيّتاً لدى الحوثيين لا ينتظر إلا أدنى ارتياب لهم من حركته لينفذ، فكيف الحال إذا كان الرئيس السابق قد أعلنها انتفاضة شاملة. سارعت الجماعة رأساً إلى قتل صالح. بقتله تحصل الجماعة على الشيء ونقيضه: فمن ناحية تتخلّص من “حليف لدود” ظهر مجدداً بمظهر “العدوّ الألدّ”. لكن بمقتله أيضاً تظهر الجماعة الحوثية أنّ ليس لديها أي شريك يمنيّ آخر، فالغطاء الذي كان يؤمّنه لها صالح إلى أيّام قليلة ماضية قد زال، في اللحظة نفسها التي أزالت فيها صالح عند خروجه على إمرتها.

تشبيه عملية قتل صالح قنصاً بإعدام صدّام حسين أو بقتل معمّر القذافي هو تشبيه مضلّل إلى حد كبير. فصالح ما كان ليعفو عن عبد الملك الحوثي لو كان له سبيل الى تصفيته، هو الذي تمكّن في السابق من قتل أخيه حسين، أو في تعريف الحوثيين له “مولاي الإمام المهدي حسين بدر الدين الحوثي”. كانت الأمور بهذه البساطة في صنعاء، في اليومين الماضيين، “يا قاتل يا مقتول”. والحوثيون هذه المرة كانوا أكثر كفاءة وسرعة لتقويض حركة الإنقلاب عليهم، لأنهم تحوّطوا لذلك، وربّما استعجلوا ذلك إذا ما استعدنا الخط البياني لوقائع “تحرّشاتهم” بجماعة صالح في الأسابيع الماضية.

بالتوازي، لهذا الفعل إرتداداته المتناقضة. فالحوثيون اليوم يظهرون بمظهر عدم القدرة على التعايش مع أيّ مكوّن سياسيّ يمنيّ آخر، ولو كانوا حتى اللحظة لا يزالون يظهرون قدرة على “تحييد” عدد من قبائل الطوق حول صنعاء، أي ما زالوا ينجحون في “عدم اكتمال التطويق” القبليّ لسيطرتهم على معظم المدينة. في المقابل، يفتح مقتل صالح المجال أكثر للتلاقي بين القوى المناوئة للحوثيين، التي، مع مقابلتها خروج صالح على الأمرة الحوثية بالإيجاب، إلا أنّها ظلّت متردّدة أو متحسّبة، خصوصاً لأنّها لا تريد أن تسلّم أمرها مجدّداً لصالح. مقتل صالح يفتح المجال للقوى المعادية للحوثيين للتلاقي والتشابك، لكن تحقيق ذلك لا يحدث تلقائياً، وليس تحصيل حاصل، بل يتطلّب جهوداً حثيثة وتغطية إقليمية له.

الحوثيّون اليوم من دون شريك سياسي يمنيّ آخر، لكن يبدو أنّهم لا يكترثون حقيقة لذلك. فهذه الحركة التي بدأت مطلع التسعينيات بمدّ يدها إلى “الحزب الإشتراكي” في الجنوب لحظة الإنفصال عام 1994، لم تكترث في ظلّ عبد الملك الحوثيّ ببناء أي تحالف سياسيّ مع أي قوّة أخرى. هذا ضعف وقوّة في نفس الوقت. من المفارقات مثلاً، أنّه في آب 2013، أرادت حكومة “ما بعد صالح”، خطب ودّ هذه الجماعة، بالإعتذار منها ببيان اعتذرت فيه لـ”أبناء صعدة”، واتهمت صالح بأنّه “كان المسؤول الأوّل وليس الوحيد” عن الحرب ضدّ الحوثيين (كما ضدّ الإنفصاليين في الجنوب). نتيجة هذا “الإعتذار” كان تمادي الجماعة الحوثية وصولاً إلى سيطرتها على صنعاء واعلان حلها للبرلمان، ومحاصرة الرئيس عبد ربه منصور هادي، وإجباره على الإستقالة ووضعه في الإقامة الجبرية، في كانون الثاني 2015، قبل أن يتمكن من الفرار إلى عدن ويعود عن استقالته، وكان ما فات قد فات.

الكلّ في اليمن حاولوا مدّ اليدّ للجماعة الحوثية في وقت من الأوقات إذاً، المؤتمر الشعبي بجناحيه، والإشتراكيّ والإصلاح. والكلّ احتاج “للتعلّم من كيسه”، وبعد فوات الأوان. فهل يفرز “اكتمال الدروس” هذا اليوم مناخ جبهة وطنية يمنية موحّدة، من مختلف الأحزاب والمناطق والقبائل، ضدّ عبد الملك الحوثيّ؟ دون ذلك صعوبات جديّة. دون ذلك روح مفقودة، وشعور دفين بأنّ الفكرة الوطنية اليمنية بحدّ ذاتها قد تشظّت، وأنّ كل ما حدث في السنوات الماضية لم يخدم إلا هذا التشظّي.

السابق
وفيق صفا يدعّي على فارس سعيد بسبب خطأ مطبعي!
التالي
هل فلسطين قضية؟