حديث العمالة في لبنان

إذا كانت تهمة «العمالة»، بناءً على الرأي، غبيّة وشرّيرة بصورة عامّة، فهي، في بلد كلبنان، مطلقة الغباء والشرّ معاً.
ذاك أنّ هذا البلد منذ نشأته غير متوافق حول مسائل أساسيّة، بعضها يتّصل بموقفه من نفسه، وبعضها بموقفه من العالم. وهو ليس انقساماً بين أكثريّة كاسحة وأقلّيّة مضلَّلة، وبالطبع ليس انقساماً بين «شعب» وشلّة معزولة من عملاء موتورين.
فمنذ نشأة «لبنان الكبير» حتّى نشأة «حزب الله» هناك فريقان ضخمان يقف كلّ منهما في ضفّة، فريقان لا تفرّقهما الأفكار، بل يأتي افتراقهما في الأفكار نتيجة لافتراق طائفيّ نمت على جذعه ثقافات فرعيّة متباينة. يصحّ هذا التنازع في معظم المحطّات التاريخيّة الكبرى الفاصلة بين ولادتي «لبنان الكبير» و «حزب الله»، من الانتداب الفرنسيّ حتّى الناصريّة ومن بعدها المقاومة الفلسطينيّة وصولاً إلى الثورة والحرب السوريّتين.

اقرأ أيضاً: إيران ووقاحة البقاء في سوريا

لهذا رأينا، في الستينات والسبعينات، سياسيّاً كصائب سلام يتحدّث عن «لبنان واحد لا لبنانين»، كأنّه يقرّ بوجود لبنانين يطمح إلى تجاوزهما ذات يوم. وقبله، وفي الثلاثينات، اعتبر أنطون سعادة أنّ كلّ عمل سياسيّ أو قوميّ إنّما يبدأ بالإجابة عن سؤال: «من نحن؟»، وإن سارع مؤسّس «الحزب السوريّ القوميّ» إلى تقديم أكثر الإجابات بساطة وضيقاً. كذلك عاش ورحل مؤسّس «حزب الكتائب اللبنانيّة» بيار الجميّل وهو يسأل: «أيّ لبنان نريد؟». ولئن جُعلت كلمة «استعمار» كلمةً تقشعر لها الأبدان في «العالم الثالث»، فإنّ لبنانيّين لا يُستهان بعددهم ووزنهم رأوا رأياً آخر، عبّر عنه يومذاك إدوار حنين الذي كان وجهاً سياسيّاً بارزاً.
ووضع كهذا، يستحيل فيه النظر الموحّد إلى التاريخ، ويصعب معه إنتاج كتاب تاريخ واحد، إنّما يمهّد لواحد من مخرجين:
– مخرج ديموقراطيّ وتعدّديّ يُقرّ بكثرة الهويّات والآراء، جاهداً إلى حملها على التعايش من دون قسر وغلبة، وإلى جعل السياسات المركزيّة تعكس التوافقات التسوويّة، بعيداً من تعريض البلد لمهمّات عظمى تؤدّي إلى كسره وانفراطه،
– ومخرج استبداديّ يفرض على اللبنانيّين هويّة واحدة ورأياً واحداً، ويطالبهم بمعارك وقضايا «مصيريّة»، كلّ من يتلكّأ عنها أو يشكّك فيها خائن وعميل. وهذا «الحلّ»، بقياس التركيب اللبنانيّ المجتمعيّ والثقافيّ، لا بدّ أن يكون بوليسيّاً، تشكّل أجهزة الأمن والمخابرات عموده الفقريّ الذي يفرض، بالخوف والإرهاب، الحقيقة الواحدة على الجميع.
ولحسن الحظّ، اتّصف الكيان اللبنانيّ بدرجة بعيدة من الحرّيّة التي وازنت جوانب القصور والتشوّه في تكوينه وامتصّت بعضها. ودوماً كان القول بالحرّيّة استجابةً واقعيّة لتركيبة لبنان، استجابةً جلبت عليه كراهية العقائديّين العتاة المعجبين بأنظمة البوليس في المنطقة والعالم. ولم يكن بلا دلالة أنّ سنوات الوصاية الأمنيّة الأسديّة هي التي حاصرت الحرّيّة، ونفّذت رغبات أولئك العقائديّين العتاة، إلى أن كُتبت نهايتها البائسة في 2005.
واليوم، مع شيوع مناخات التشهير بـ «العمالة» و «الخيانة»، يتبدّى كم أنّ ثقافة البوليس التي أنعشتها الوصاية خطيرة، بل أخطر «الأعداء» الذين يواجهون هذا البلد، خصوصاً أنّها تستند إلى مخزون فكريّ تلتقي فيه قدامة القبيلة وحداثة التوتاليتاريّة.
بطبيعة الحال، ثمّة من يرى في القوّة العسكريّة لـ «حزب الله» ما يجيز له المطالبة بسيطرة فكريّة وثقافيّة موازية. وهؤلاء – وهم غالباً حاشية الحزب أكثر منهم الحزب نفسه – تفوتهم حقائق كثيرة بينها تركيب البلد وتاريخه، وبينها أيضاً أنّ القوّة العسكريّة ليست دائماً قوّة إقناعيّة. وكثيراً ما تكون المبالغة في تقوية العضل تعويضاً عن ضعف يلمّ ببقية الجسد، وبالدماغ خصوصاً. أليست هذه، بمعنى من المعاني، العبرة الأولى التي تُستفاد من التجارب التوتاليتاريّة حيث اشتدّت الزنود على حساب العقول، فامتلكت بعضَ أقوى الجيوش في العالم بينما صار مثقّفوها «منشقّين» ونزلاء مصحّات عقليّة؟

السابق
روسيا تصنّف 9 وسائل إعلام أميركية بأنها عميلة أجنبية
التالي
النأي بالنفس: ماذا يسابق حزب الله والحريري؟