اليسار في دوامة الازمة (٣): لا بديل من قيام يسار جديد

عرضنا في الحلقتين السابقتين تجليات الازمة الشاملة لليسار واذا كان لنا بعد هذا العرض ان نسجل خلاصات إجمالية يمكننا استنتاج خلاصتين سياسيتين مترابطتين ، تدعم الوحدة منهما الأخرى:

أولى الخلاصات  ،ان ازمة اليسار في سائر مكوناتها و ميادينها  الفكرية والبرنامجية تتمظهر بشكل اساسي على الصعيد السياسي و تعود في جوهرها  إلى مايعانيه اليسار من تأرجح في موقعه السياسي بسبب ضعف تمايزه عن طرفي الانقسام الطائفي من ناحية وعن قطبي السياسة الإقليمية من ناحية ثانية  ،فأذا به يزداد انقساما ويتفكك أدوارا متعارضة.

إقرأ ايضًا: اليسار في دوامة الأزمة: ليس بهذه العدة يتم تجديد اليسار

وثاني هذه الاستنتاجات يشير إلى ان  تحليل الازمة التي يتخبط فيها اليسار منذ عقود ما زالت مادة  لاجتهادات شتى في مضمار تعيين جوهرها، إذ ما زالت تغلب على النقاش  بين القوى المعنية نظرة تقنية تنظيمية تعتبر ان علة العلل في أزمة اليسار تكمن في تبعثر قواه وتشتت  جهودها في اتجاه الخروج من أزمتها، وانطلاقا من هذا الاعتبار تتسلسل ومنذ مدة طويلة دعوات الى توحيد الجهود بين قوى اليسار من أجل مخرج مشترك ينهي حال التبعثر التنظيمي و بناء استقطاب ديمقراطي في عموم البلد .هذه الدعوات  وصلت إلى طرح منوعات من الصيغ من مثل طرح شعار الوحدة التنظيمية، او من مثل الدعو ة الى عقدمؤتمر موحد لكل اليساريين ، ولا يتسع المجال هنا  لاستعراض المحاولات التوحيدية  من دون ان تفضي الى نتيجة خلال  مدة طويلة  وفي ظروف كان التقارب بين الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي برنامجيا وسياسيا شبه كامل. ان ما يمكن قوله هنا ان هذه  الدعوات على تعددها تقفز عن واقع ان جوهر الازمة هي ازمة خط سياسي ، وأن ما يجب البحث عنه  ليس البحث عن حل تنظيمي لأزمة هي في الأصل سياسية،  بل  البحث عن حل ذي طابع سياسي حيث لا يمكن ان يكون حل الازمة في اي اطار ا حزب سياسي الا حلا سياسا ، والكف عن مقاربة حل أزمة اليسار من مداخل محض إدارية تقنية.

 

هذه الصورة الجلية القسمات لأزمة اليسار التي تتمظهر في تأرجح موقعه  السياسي،  والتي لم تجد سبيلها إلى الحل طوال فترة ربع قرن مرشحة بالتأكيد لأن تطول،  بسبب استطالة الحالة الانتقالية التي يعيشها لبنان ، ثم بفعل الحالة الانتقالية التي يعيشها  العالم العربي على غير صعيد ،  فالنظام اللبناني دخل في طور  جديد من أطوار ازمته الدائمة ، والحركة الشعبية تحولت  ذرات تائهة  بين الطوائف ، والطائفية مستشربة من حولنا وفي محيطنا ، وهي الوصفة السامة التي توصف الآن لبلدان أخرى على أنها هي البديل ، ويطلق اسم التعدد على ماهو تفتيت وتجزئة .

 

كل ذلك مقرون بأن حسم الصراع الداخلي  غير قابل للحسم بصورة معزولة عن الصراع الشامل في المنطقة  ، وهو صراع يرسم ملامحه التجاذب الاميركي -الروسي  مقرونا بالمنازلة الأميركية –  الإيرانية التي تدور في إطارها أزمة النفوذ والمصالح وكذلك الأدوار الإقليمية .

 

في وضع هذه صفته ، لا شيء يؤشر الى ان اليسار بتياريه الممانع والسيادي ، يمكن في ظل هذا الصراع المفتوح والمحتدم ،  ان يغادر اي منهما سياساته وتحالفاته ، بل على العكس من ذلك تماما ، فإن كلا التيارين  يؤثر السلامة بالقرب من احد طرفي الانقسام السياسي – الطائفي – الشعبي الداخلي ، وبالقرب من أحد طرفي الصراع الاقليمي الدائر  .

 

السؤال الذي يطرح نفسه هنا  : الا تطرح هذه العناصر والمعطيات مزيجا من التحدي الوجودي  والفرصة الوحيدة في آن ، على اليساريين الذين يريدون فعلا تجاوز تياري اليسار الممانع والسيادي ، الى مغادرة حال الانتظار  والإحباط والتشتت  مجموعات و زرافات  ووحدانا  ،  وافتتاح مسار  جديد يسهم في تعيين الموقع والدور الذي ينبغي أن يضطلع به اليسار  ؟

 

–    من أجل قيام يسار جديد  :

دور اليسار الديمقراطي والمعارض فعلا هو اليوم اشبه بضرب من الوعد بمستقبل يتطلب رسم معالمه جهدا بالغ الصعوبة ، وإذا كان لنا ان ندرك اننا مازلنا نستقبل مضاعفات مسار طوائفي لبناني ماتزال تتوالى  ، وهي مضاعفات تشكل حواجز  بالتعريف في وجه  تأسيس تيار ديمقراطي ،   فلا بد لنا ان ندرك أيضا ، انه لا يمكن لأحد أن يتصور للحظة انه يستطيع القيام بانقلاب على هذا المسار الطوائفي  ، فهذا المسار لا تجري مغالبته حقا وفعلا من خلال طرح الشعارات ، حتى ولو كانت  صحيحة ، او الإلحاح عليها ، او من خلال الدعوات الصالحات لوحدة اليسار ، بل من خلال شق مسار آخر مواز للمسار الطوائفي وفي مواجهته ،  وإذا كانت إحدى المعضلات الأساسية تكمن اليوم في غياب تيارا ديمقراطي حقيقي، واسع، وفاعل مرتبط بقوة بمبارىء الاندماج الاجتماعي ،  وبوحدة لبنان واستقلاله وسيادته وانتمائه العربي، فإن إعادة تأسيس هذا التيار  ومراكمة إنجازات فعلية و ملموسة، تدريجا وعلى الأرض، تشكل اليوم مهمة لا بديل من  المراهنة عليها  .

 

– استعادة الموقع المعارض لليسار  :

إلى  التوجهات البرنامجية السياسية (وهي توجهات يمكن التوقف عندها في مقالة لاحقة ) التي تتيح لأي حزب يساري ان يستعيد مشروعه المجتمعي ، وأن يعيد إنتاج استقلاله ا لبرنامجي سبيلا إلى استقلاله السياسي والتنظيمي ، فإنه لن يتأتى لأي مشروع يساري ان يراكم قوته ووزنه في المعادلة السياسية العامة ، ناهيك عن البقاء على قيد الحياة ومنافسة القوى الأخرى في كسب الرأي العام والجماهير الشعبية التي يفترض به تمثيل مصالحها إلا على قاعدة استعادة الموقع المعارض ،وهي استعادة تقوم على قاعدتين  اثنتين  :

 

-اذا كان التناقض الرئيسي الذي يعصف بلبنان هو بين مصالح الاكثرية الساحقة من الشعب اللبناني   في بناء دولة ديموقراطية وبين مصالح تحالف قوى  الطبقة الحاكمة التي تتناقض مصالحها مع قيام الدولة، فإن تنظيم هذه القاعدة الشعبية المترامية تشكل منطلق ومرتكز اي موقع معارض يضع نصب عينيه هدف بناء نقيض وطني ديمقراطي للنظام القائم وتاسيس حركة شعبية تستعيد وعيها لوحدة مصالحها وتوحيد نضالاتها وتعزيز التواصل بين اطرافها وقطاعاتها وإبراز وزنها السياسي عبر نقل همومها إلى صعيدها السياسي .

 

هذه المهمة تتطلب الانخراط في مسار مديد يعتمد من ناحية أوسع أشكال وأساليب وأطر العمل القاعدي ويخوض من ناحية ثانية صراعا ضمن المؤسسات والأطر النقابية والمهنية والديموقراطية لإنتاج محصلات عامة متقدمة ضمن هذه المؤسسات والأطر والاستفادة من دروس تجربة اليسار الذي أضاع هذه المهمة تحت وطاة الاستمرار العنيد في محاولة احتلال موقع ضمن معادلة سياسية طائفية  عامة رفضته رفضا غريزيا واقصته من صفوفها

القاعدة الثانية لاستعادة الموقع المعارض لليسار تقوم على اعتماد نهج سياسي مستقل عن أطراف السلطة و اجنحتها  وعن محوري الصراع الإقليمي وصياغة تحالفات مع القوى والهيئات والتجمعات الديموقراطيةوتتعزيز وتطوير أشكال التنسيق معها وصولا الى تشكيل نواة صلبة وعلى أساس نهج واضح في الموقف من نظام المحاصصة الطائفية ، نهج لا يقبل ازدواجية المعارضة السياسية للنظام السياسي من موقع العلاقات ا لملتبسة معه او مع بعض أطرافه .

 

– اقتراح برسم التفكير والتداول والنقاش   : نحو مؤتمر تأسيسي لبناء يسار جديد .

مثلما كنا واضحين تماما في فهم وتعيين ضيق الحيز المفتوح أمام تأثيرات الخط السياسي لليسار  على المسار الطوائفي الذي يقولب الحركة السياسية ويشدها إلى احكامه ، لكن ضيق هذا الحيز ليس سببا  لاعفاء اليسا ر من ملئه   ، وإذا كان لنا ان ندرك جيدا  تعرجات هذا الحل ومساره المديد ، فإننا ينبغي أن ندرك ايضا انه ليس صعبا إدراك ان الأفق ليس مسدودا ، وثمة نذر آخذة  بالتجمع تحت وطاة الازمة الوطنية  المتفاقمة ،  وعلى من لا يريد تلمس  ذلك ان لا يمارس العمل السياسي الذي لا يعود يعني شيئا ان لم يفترض أن ثمة خيارات متعددة .  ان من يريد أن يتلمس ذلك ، لا بد ان يلاحظ الانكشاف المتزايد لمأزق المشروع السلطوي الجاري تنفيذه وما ال اليه من تهميش وافقار الأكثرية الساحقة من الشعب اللبناني ، هذا الانكشاف شكل مدخلا لتوليد بدايات وعي سياسي لدى جمهور متسع يقذفه احتدام الأزمة واستفحالها خارج دائرة الوعي الطائفي السائد، ويدفعه لأن ينسخ عن منوعات من الأوهام والمراهنات ، وإلى البحث عمن ينطق باسمه ، تبدى ذلك في غير محطة واستحقاق انتخابي او مطلبي لا حاجة هنا لتعدادها .

 

هنا تبدو المفارقة واسعة بين المستوى الحاد الذي بلغته الأزمة الوطنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية مقرونة بالمستوى الذي بلغه التذمر الشعبي وما يختزنه من استعدادات شعبية ، وبين واقع بنية الهيئات النقابية من ناحية ، وواقع استمرار اليسار اسير تحالفاته مع أحد اجنحة التحالف الحاكم ، ذلك أن اي تحرك شعبي لاينطلق من موقع المعارضة للطبقة الحاكمة بسائر أجنحتها محكوم بان يواصل الدوران في المأزق  .

 

ويبقى السؤال من أين نبدأ وكيف نبدأ لتضمن السير في طريق الإنقاذ؟

ويفرض هذا السؤال سؤالا آخر لا يقل ضرورة والحاحا  :  من هو المسؤول عن المبادرة إلى إطلاق قوة المعارضة الحقيقية ، وعن تطوير قوة الاعتراض والرفض التي تختزنها الفئات الشعبية في مواجهة الطبقة الحاكمة المسؤولة عن جوعها والانهيار ؟

ربما يكون من البديهي أن تكون كل  القوى والهيئات   النقابية والشعبية عن توفير الأطر اللازمة للتحرك الشعبي ، لكن مسؤلية المبادرة هي أولا واخرا مسؤولية اليسار ، انطلاقا من الموقع الذي ينبغي أن يحتله ويضطلع به والذي تتوقف على اضطلاع اي قوة يسارية حقيقة انتسابها الى اليسار  .

المؤتمرالتاسيسي المقترح يمكن ان تتشكل نواته الأولية  من سائر اليساريين   الذين على استعداد للانخراط في مشروع يسار جديد يمتلك عناصر استقلاله البرنامجي والسياسي والتنظيمي، و يريدون  فعلا تجاوز تياري اليسا ر الممانع واليسار السيادي.

ولا نبالغ اذا قلنا أن قيام هذا المؤتمر يشكل بداية نقلة نوعية في واقع التيار الديمقراطي و اليسار ، تنقله من حال الهامشية السياسية المديدة  ، إلى مسرح الفعل الوطني والسياسي والاجتماعي ، و يعادل اطلاق صفارة  افتتاح مرحلة جديدة و مسار جديد في موازاة المسار ا لطوائفي السائد وفي مواجهته  ، و يستنفر  كل الديقراطيين المنتشرين في أربع جهات لبنان وطوائفه ومناطقه وقطاعاته، ويدفع بهم  الى مغادرة حال الترقب والانتظار ، ويضعهم ويضع اليسار معهم في قلب الحركة السياسية.

إقرأ ايضًا: ممانعة «النقد الذاتيّ»

ان السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو  :  هل يكفي أن نتحدث عن اليسار، وعن التغيير ، كي يكون كلامنا بديلا عن  فعل التغيير، وهل صار الكلام بديلا من الواقع ،ام انه صار محاولة لتغطية العجز عن فعل التغيير بالكلام عنه ؟

وهل يرغب الديمقراطيين و اليساريون في الإقامة الدائمة على قارعة الانتظار الذي يقتل روحهم ويقتل البلد معهم ؟……

السابق
المشنوق يتابع الاوضاع ميدانيا بُعيد قرار اعدام الشرتوني
التالي
الشيخ محمّد علي الحاج يكرّم وائل كامل الأسعد