غيبوبة وليد جنبلاط

قال ناصر الدين النشاشيبي في وصف أحد الحكام العرب: «حسناته كالجبال، وسيئاته كسواد الليل»، وفي الحياة السياسية اللبنانية ينطبق هذا الوصف على وليد كمال جنبلاط.

٤ مشاهد تختصر – على سبيل المثال لا الحصر – حسنات جنبلاط: الأول، قيامه بعد الانتخابات النيابية عام ٢٠٠٠ – في ذروة الوصاية الأسدية – بالمطالبة – تحت قبة البرلمان – بإعادة «انتشار الجيش السوري»، وهذا المصطلح تم استخدامه تهذيبا لكلمة «انسحاب».

الثاني، قيامه – رغما عن نظام الوصاية أيضا – بمصالحة الجبل مع البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير لطي صفحة الحرب الأهلية بين المسيحيين وبين الموحدين الدروز.

الثالث، أنه حمل ثورة الأرز على كتفيه – بكل دلالات هذه الثورة وتداعياتها ومسؤولياتها – منذ رفض التمديد للرئيس إميل لحود ورغم اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه من ثوار ثورة الأرز.

الرابع، أنه منع قيام فتنة سنية _ شيعية حين تبنى الشهيدين السنيين زياد قبلان (٢٤ سنة) وزياد غندور (١٢ سنة) المغدورين من أتباع ميليشيا حزب الله سنة ٢٠٠٧.

وحتى في تلك المرحلة، منع جنبلاط تحويل سلاح حزب الله إلى موضوع نقاش دولي تحت بند القرار ١٥٥٩ لأسباب انتخابية ضيقة، وتصريحاته معروفة «سلاح حزب الله شأن داخلي لبناني»، وما زال اللبنانيون والعرب يدفعون ثمن تلك الخطيئة.

ووصف سياسي مرموق مواقف «البيك» الحادة والمتقلبة، بقوله: «يطالب بإلقاء القبض على حسن نصرالله، وحين تقع الطامة، يطالب بالاستسلام في الضاحية»، وهذا التوصيف على سبيل المجاز، ورأينا ما يشبهه في مواقف عديدة، منها يوم قطعت الطرق قوى ٨ آذار الموالية لإيران لمنع الرئيس فؤاد السنيورة من الذهاب إلى مؤتمر باريس٣ (يناير ٢٠٠٧) الذي أراد إعادة إعمار لبنان بعد حرب تموز ٢٠٠٦، ورأيناه مجددا في ٧ أيار ٢٠٠٨ يوم احتل حزب الله بيروت وروع الجبل بعد تشديد جنبلاط على إصدار القرارين الحكوميين الشهيرين: الأول، إقالة مدير المطار وفيق شقير لاكتشاف كاميرا تابعة للحزب الإلهي تراقب الواصلين في صالة كبار الزوار، وتسببت هذه الكاميرا – على الأقل – في اغتيال النائب جبران تويني ولاحقا العميد وسام الحسن. والثاني تفكيك شبكة الاتصالات السلكية – غير الشرعية – التابعة للحزب الإلهي.

لكن في ٧ أيار وقف رجال وليد جنبلاط كالجبال في مواجهة ميليشيا حزب الله الإرهابية، قامت عناصر الحزب الإلهي بتدنيس الجبل الدرزي وترويع أبنائه وقتلهم، لكن صمود أهل الجبل، فضلا عن صمود أهل الشمال السني، وازن المشهد المريع في بيروت، مؤديا إلى اتفاق الدوحة الشهير، وما يؤسفني اليوم ويدفعني إلى كتابة هذه السطور، أن جنبلاط – هداه الله – وصف إرهابيي حزب الله بالشهداء، وهو أكثر من يعرف حقيقتهم، إذ هددوه غير مرة – سرا وعلنا – بالاغتيال، منها يوم أنزلوا القمصان السود عشية إسقاط الحكومة الأولى للرئيس سعد الحريري، ومنها قيام الصحيفة الناطقة باسم الحزب الإلهي (الأخبار) بتهديده علنا في سبتمبر ٢٠١٦، وبعدها بشهرين قام العميل الإيراني – البعثي وئام وهاب، المنتسب زورا للدروز، باستعراض عسكري له دلالاته، وخلاصة هذا الكلام أنه إذا كان جنبلاط مصرا على وصف قتلى الحزب الإلهي في معركة عرسال بأنهم شهداء، وهي المعركة التي دارت بين إرهاب وإرهاب، فحينها يجب وصف قتلى الحزب الإلهي في الجبل الدرزي – خلال أحداث ٧ أيار – بالشهداء أيضا، هل نسي جنبلاط أن ميليشيا حزب الله الإرهابية حاولت اغتيال النائب في كتلته مروان حمادة قبيل اغتيال الرئيس رفيق الحريري وأنها قتلت – فعلا – ابن طائفته صالح العريضي في سبتمبر ٢٠٠٨؟!.

أحداث ٧ أيار لحظة مفصلية في مسيرة جنبلاط السياسية، قبلها كان يحذر من التقوقع والانعزال، وبعدها أصبح رمزا للانعزال والتقوقع، انتقل إلى صفوف ٨ آذار، فوجد نفسه في الصف الثاني أو الثالث بعد أن تصدر تيار السيادة والاستقلال (قوى ١٤ آذار)، ثم انتقل بعدها إلى المنطقة الرمادية، أو منطقة العدم، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ولا توجد صفوف في تلك المنطقة ولا وجود، والدليل تراجع الدور الوطني للدروز وزعيمهم في لبنان.

وقد تعرضت طائفة الموحدين الدروز للتشويه بسبب سرية تعاليمها، ودار حولها جدل سياسي بسبب وضع أبنائها في فلسطين المحتلة وانخراطهم في الجيش الإسرائيلي، والحقيقة أن العرب يتحملون بعض هذه الإشكالية بسبب تخليهم عن عرب 1948، ويحسب لجنبلاط موقفه المناهض للتجنيد وتدشينه لأكثر من مؤتمر يدعو لإنقاذ الدروز من براثن الإسرائيليين بمشاركة موحدي الأراضي المحتلة، وربما بتأثير جنبلاط أعلن رؤساء المجالس المحلية الدرزية في مؤتمر ضمهم خلال 2014 بإسرائيل، رفضهم القاطع لمشروع «قومية الدولة اليهودية».

وفي المقابل، عد الأزهر (فتوى عام ١٩٥٩ – فتوى عام ١٩٨٣)، ثم دار الفتوى السورية، وشخصيات إسلامية مستقلة كالقاضي اللبناني السني مصطفى الرفاعي، والمرجع الشيعي محمد حسين فضل الله، أن الدروز جزء لا يتجزأ من طوائف الإسلام ومذاهبه، وأغلب القضايا الخلافية معهم تنحصر في منع التعدد، الطلاق الواحد، شخص المهدي ومسألة التقمص، وكلها قضايا لا تمس جوهر التوحيد.

بعد أن تعرض الدروز لحوادث طائفية في سوريا على يد جبهة النصرة وداعش عقابا لجنبلاط من محور الممانعة على تأييده للثورة السورية، طالب في أكتوبر ٢٠١٤ طائفة الموحدين الدروز بالعودة إلى أصول الدين الإسلامي وأركانه الخمسة، مشددا العزم على بناء جامع في المختارة (وقد بناه بتصميم رائع لا يشبه الجوامع)، وابتعاث طلاب العلم الدروز إلى الأزهر، وهي خطوة غير مستغربة منه، قد تتم قراءتها من سيئي الظن في سياق مهادنة الإرهاب، لكن جنبلاط حقا سني الهوية والامتداد، وهذا ما يؤكده أحد مساعديه، إذ اختبره الزعيم الرمز – قبل عقود – سائلا «هل امتدادنا شيعي أو سني؟»، وحين أجاب المساعد بإعلان الامتداد السني، أثنى عليه جنبلاط.

جغرافيا، حظيت طائفة الدروز بموقع إستراتيجي، إذ تحضر في حدود ٤ دول: لبنان وسوريا والأردن وإسرائيل (فلسطين المحتلة)، وجنبلاط هو بطريرك الدروز إلى حد كبير، وبهذه الصفة – ربما – استقبلته المملكة مع ابنه تيمور في نوفمبر ٢٠١٥، لكن سياساته الانعزالية أضعفت طائفته، وتحول هذا الوزن الإستراتيجي في المشهد الإقليمي للأكراد، المتحررين من عقد الباطنية، فأصبحت مناطقهم مرافئ صحراوية مزدهرة، وأصبحت ميليشياتهم المحلية مغطاة بدعم دولي، وبالتالي أصبحوا قاسما مشتركا بين الشرق الأوسط وبين القوى العظمى.

الفرق بين كمال جنبلاط وابنه وليد، أن الأول يصرف من رصيده الدرزي على رصيده الوطني، بينما الثاني يصرف من رصيده الوطني على رصيده الدرزي، لكن الانعزال الطائفي أنهى الرصيد الوطني والطائفي والإقليمي.

ويحمل جنبلاط على الرئيس سعد الحريري مسألتين؛ الأولى أنه تركه وحيدا أمام جشع التيار العوني، وهي مسألة حقة، والثانية اعتقاد جنبلاط أن الحريري سبب إضعاف علاقة جنبلاط بدول الخليج، ولا ذنب للحريري في ذلك، فحين أسقط جنبلاط الحكومة الحريرية الأولى – بغض النظر عن أسبابه وعن شخص الحريري – فقد شارك في تمكين المشروع الإيراني على مشروع الاعتدال، وأبلغه الملك عبدالله بن عبدالعزيز – رحمه الله – رسالة قاسية – شكلا ومضمونا وأسلوبا – عبر رئيس مخابراته الأمير مقرن بن عبدالعزيز، ولا أظن أن العلاقة ستعود بنفس الحميمية والحرارة، رغم أنها جيدة اليوم، إلا بعودة وليد جنبلاط ما قبل ٢٠٠٨ – ٢٠٠٩.

إقرأ أيضاً: جنبلاط يوّجه نصيحة لرئيس بلدية جبيل زياد حوّاط!

يخشى جنبلاط، من سيوف حزب الله وإيران، لكن المشهد الأبعد، ليس تصفية البيت الجنبلاطي، وهذا مشروع إيراني لا لبس فيه، إنما تصفية طائفة كاملة واستلحاقها بولاية الفقيه، كما فعلت إيران سلفا مع العلويين ثم الحوثيين، أي أن كل الطرق تؤدي إلى جحيم طهران: تصفية زعامة أو تصفية طائفة، والنتيجة واحدة.

ونستدل على هذه الرؤية بتقرير صدر في أغسطس ٢٠١٦ من السويداء، معقل الدروز في سوريا، إذ زارها السفير الإيراني برفقة وفد موسع، واتفق مع بعض وجهائها على تحسين سمعة إيران في المحافظة، والعمل على استقطاب الميليشيات المسلحة تحت قيادة إيرانية مباشرة، وإذا قرأنا البعد الإستراتيجي للسياسات الإيرانية الطائفية، سنجد أن نتيجة هذه الزيارة بعد سنوات ستتوج إلى ما يجري اليوم في المناطق العلوية السورية: ربط المساعدات الخيرية بالتشيع، وإعلان حرب إيرانية على العادات الاجتماعية والحريات الخاصة، فيتصل الاستتباع السياسي باستتباع ديني، هذا ما عشناه علويا ثم حوثيا.

لن يسامح الإيرانيون آل جنبلاط على عروبتهم، ولن يسامحوهم على كونهم عقبة أمام مشروعهم السياسي – الطائفي، ولن يسامحوا وليد جنبلاط – بالذات – على دوره في ثورة الأرز، وللأسف، فإن السياسات الجنبلاطية الراهنة، التي تساوي غيبوبة سياسية، تساعد الإيرانيين على تحقيق مآربهم، بل إن فيها ما هو أسوأ، فالتقسيم السياسي التقليدي للدروز هو بين اليزبكيين (الأرسلانيين لاحقا) والجنبلاطيين، وسياسات التقوقع والانعزال التي تركض نحو الذوبان، ستقسم الدروز إلى قسمين: قسم إيراني وقسم إسرائيلي، ولا حول ولا قوة الا بالله.

إقرأ أيضاً: دائرة بعبدا: الشيعة بيضة القبّان وجنبلاط حليف حزب الله المحتمل !

لا أحد يريد من الدروز أو وليد جنبلاط مقاتلة الشيعة أو الإيرانيين بدلا من العرب والسنة، لكن المطلوب هو عودة بني معروف (الدروز) إلى موقعهم الأصل، موقع العروبة والتصدر، فسلطان باشا الأطرش تصدر الثورة العربية ورفض الدويلة الدرزية، وكمال جنبلاط وسميح القاسم تصدرا القضية الفلسطينية، ووليد جنبلاط تصدر تحرير لبنان من الوصاية الأسدية، ونذكر هنا بمؤتمر الدروز الأول في لبنان عام 2010، حيث أكد ممثلو الطائفة الدرزية من كل أنحاء العالم بما في ذلك الأراضي المحتلة، انتماء الطائفة إلى القومية العربية والإسلام، ودعوا إلى تعزيز التواصل لحماية معتقداتهم. وقال جنبلاط «أردنا التأكيد على قوميتنا العربية لأن العروبة حمايتنا»، وتابع «نحن أقلية ولا نستطيع أن نعيش دون الإطار العربي العام، نحن عرب ولسنا انعزاليين». أي أننا هنا نذكر وليد جنبلاط بوالده وبنفسه وبتاريخ طائفته المجيدة، فجنبلاط يعرف تاريخ جده من أمه، المفكر التجديدي التنويري شكيب أرسلان، ويعرف أن الدروز لعبوا دورا مؤثرا في صد الهجوم المغولي على العرب، وكانت مساندتهم للمماليك في معركة عين جالوت من أسباب النصر الرئيسة، وهذا يؤكد استنتاجا تاريخيا: إن لم يكن كل عربي درزيا، فكل درزي عربي.

الدروز مستهدفون من الإرهاب الإيراني الإسلاموي والعنصرية الإسرائيلية، وأهداف هؤلاء إما الإلغاء أو التقسيم، والهدفان واحد. ومن لا يرى ذلك فهو في أزمة، ومن يتعمد عدم رؤية ذلك فهو في مأساة، وهذا الحديث يؤخذ من منطق طائفي لو تم الاستغناء عن المنطقين العربي والوطني، رغم استهداف لبنان والدول العربية من نفس الأطراف التي تستهدف الدروز ولنفس الأهداف.

منذ فترة، ووليد جنبلاط مهتم بتوريث آمن لابنه تيمور، لكن في هذه الظروف يبدو السؤال المنطقي: ماذا سيورث؟!. لذا يجب أن يتكلم الجميع، وعلى رأسهم النخب الدرزية، فلا أخطر ولا أسوأ من الواقع الراهن، مع التأكيد على مرجعية جنبلاط السياسية.

لو نطق قبر كمال جنبلاط لتمثل بوصية الخليفة عبدالملك بن مروان – وهو على فراش الموت – لابنه الوليد: «يا بني، شمر وائتزر، والبس جلد النمر، ولا تَعْصِرْ عينيك فعل الْأَمَة، وادع الناس إِلى الْبيعة، فمن قال برأسه كذا (إشارة إلى الرفض) فقل بالسيْف كذا (إشارة إلى قطع العنق)»، والسلام على من اتبع الهدى.

السابق
ليس صحيحاً ما يقوله «المستقبل» عن قرار دولي بتسليم لبنان لـ «حزب الله» ؟
التالي
كويتيون يصدرون بيانا يستنكرون الاساءة للفنان الراحل عبد الحسين عبد الرضا