حرب الجرد وطبائع «حزب الله» وشهوات الطوائف

انقسم اللبنانيون حول «سلاح حزب الله» منذ سنوات طويلة، ولم يكابر الحزب على هذا الإنقسام طيلة السنوات الماضية بل عمل لإرساء المعادلة اللامتوازنة التالية: «سلاح» حزب الله ليس بحاجة إلى إجماع وطني لتبرير وجوده أو تبرير أنشطته، وكل ما عدا ذلك من شؤون الحكم والإدارة في لبنان مشروط بتأمين إجماع كامل حوله، بدلاً من الإحتكام للعبة المؤسسات والتصويت وخلافه، إلا عندما يتعارض ذلك مع مصالح أهل السلاح، ولا مشكلة في الحالتين إذا تطلّب الأمر تعطيل مؤسسة دستورية أو إطالة ولاية من يتولاها بالقفز على المواقيت والآماد الدستورية الشكلانية، فهذه من الممكن الإستغناء عنها في المجتمع الحربي المقاوم المتلائم مع عوائد اللبنانيين المرورية في استحباب القيادة عكس السير، وبلا حزام أمان، والتمرّد على الإشارات الضوئية.
وللحزب «طبيعة أخرى». فهو أيضاً «مشتكي» من عوائد اللبنانيين الفوضوية هذه، لا سيّما في المناطق التي يبسط السيطرة المباشرة عليها، وخصوصاً الضاحية الجنوبية لبيروت. ففيها كانت له تجربة في «شرطة انضباط» تقرّب قوانين السير إلى فاهمة اللبنانيين، وفيها كانت له صولات وجولات مع عشائر وعائلات مصرّة على الاحتفاظ بأسلحتها الخاصة. ولئن استطاع الحزب أن يفرض إلى حد كبير قبسات من النموذج الإيرانيّ للحكم الإسلامي على أحياء الضاحية الجنوبية، فإنّه اضطر عبر السنوات أيضاً للتأقلم مع محدودية ذلك حتى داخلها، سواء في المأكل أو في المشرب.
فانقسام اللبنانيين بين مؤيد لسلاح الحزب وبين مناوئ له، بين مسلّم ببقاء هذا السلاح وبين غير راض بهذا «القدر»، وبين معاهد مع هذا السلاح وبين متحيّن للحظة التفلّت من دواماته، يضاف إليه انقسام الحزب على نفسه، في عزّ وحدته هيكليته القيادية وجسمه التنظيميّ والدائرة الواسعة لأنصاره ومحبيه ضمن الطائفة الشيعية، ويضاف لهم ما أمّنه التفاهم مع تيار العماد ميشال عون من رصيد قبول واستحسان بل حماسة عند المسيحيين، وهو ما يختلط بعواطف متباينة فيما بينها، من قلق دفين أو اطمئنان متقادم لعلاقة فوقية كانت قائمة في الزمن الماضي، ماضي قبل الحرب. هو إنقسام بين «الحزب» كنموذج مطابق للبنانيّ «الشاطر»، الشاطر حتى على قوانين السير، وبين «الحزب» كنموذج انضباطي أعلى، يمكنه أن يقدّم بتجربته، نموذج «يوتوبي» لما يمكن أن تكون عليه حال «الدولة القوية القادرة» في لبنان لو تعمّم هذا النموذج، أو ذاب الجميع في هواه.
جزء أساسي من المفارقة التي اسمها «حزب الله» كامن هنا. الجانب الأقل «أجنبية» بالنسبة إلى التركيبة اللبنانية في هذا الحزب، هو الجانب «الفوضوي». الجانب الأكثر «أجنبية» هو الجانب «الإنضباطي». ليس كل جانب بجناح. العلاقة بينهما تبقى محيّرة مهما حاول الحزب أن يزن خطواته، بل كلّما حاول ذلك أكثر.
في المواجهة مع حركة أمل، ثم مع الاحتلال الإسرائيلي، برز الطابع «الإنضباطي» لـ«حزب الله» أكثر. أما في الحرب السورية، في المناطق التي تدخّل فيها الحزب بسوريا، فظهر اختلاط حابل «الفوضى» بنابل «الإنضباط» بشكل أكثر اتساعاً ومشهدية. المساحات التي تدخل فيها الحزب في سوريا، والمسافات التي قطعها مسلّحوه، تتجاوز أضعاف مساحة تدخله في لبنان، معايشته لبيئات من خارج مذهبه في سوريا على الأرض، تتخطى حدود تجربته «الميدانية» في المناطق غير الشيعية من لبنان. العلاقات الميدانية مع الجيش السوري النظامي، وميليشيات الدفاع الشعبي الأسدية، والميليشيات الشيعية العراقية، ومع الحرس الثوري الإيراني، توجد مروحة غير مسبوقة قياساً على كل ما شابه ذلك في تاريخ الحزب بلبنان. في الحرب السورية، جرى إلى حد كبير «التداول بين جيلين» داخل ميليشيات الحزب، فالوقت يمــضـــي، وبعد سبـــعة عشر عاماً على تحرير الجنوب، واحدى عشر عاماً على حرب تموز، كان محك «التداول الجيلي» مختلفاً، في الحرب السورية، وهو تداول هناك من دفع فاتورته، وهناك من سدّد.
وبمقدار اختلاط «فوضوية» الحزب بـ«إنضباطيته»، فقد مزج الحزب بين الأيديولوجيا الخمينية وبين الأيديولوجيا الأمنية الغربية، متبنياً مقولتها حول «مكافحة الإرهاب»، ومتعجباً كيف لا يشكر على صنيعه ضد «داعش والنصرة» من اجماع الغربيين، وهو يقاتل خطر موجه ضد أممهم، ولو كان بتصميم وتوجيه من حكوماتهم. ولم يحصل هذا التبني بلحظة واحدة. احتاج إلى وقت. في البدء، نفى زعيم الحزب تدخل قواته بسوريا، ثم ربطه بالدفاع عن مرقد السيدة زينب في الشام، ثم بالامتداد «اللبناني» من وراء الحدود السورية، ثم بالدفاع عن النظام. وحتى عند تلك العتبة فهو أقلع بخطاب من نوع، «قد نكون نحن وأنتم مختلفون في تطبيق الواجب الجهادي، لكننا لنتفق على حصر الواجب الجهادي بسوريا دون امتداده إلى لبنان». في حينه، كان خطاب السيد حسن نصر الله للجهاديين في سوريا يقوم على أنّ الغرب نصب لهم شركا في سوريا قد يتم تجميعهم كلهم فيهم ويبادون هناك. من حينه، وحسن نصر الله يعتبر أن حزبه، حتى وهو يتدخل في سوريا، يعرف كيف يفلت من هكذا مصيدة غربية أو إسرائيلية إن أرادت جمعه بـ«داعش» والنصرة.
تبدل الخطاب سنة بعد سنة. صار يحاكي اللغة الأمنية الأمريكية إلى أبعد حد في «مكافحة الإرهاب»، مع اضافة: نظرية المؤامرة. أي اتهام «داعش» والنصرة بالتآمر مع إسرائيل ضد النظام السوري و«حزب الله». واضافة ثانية: توصيف الإرهاب الذي يقاتل ضده بأنه «تكفيري»، ويقصد به تكفير هذه التنظيمات للشيعة، لكن يحاول أن «يبيع» الوصف أحياناً للمسيحيين، وفي هذا زغل ما دام «التكفير» مقولة محصورة في الأساس بالمفاصلة داخل الملّة الدينية المفترض أنّها واحدة. لا يلغي ذلك البون الذي صار كبيراً مع الوقت بين طريقة تعاطي الحزب مع المسيــحـــيين (التي تطورت جدياً نسبة إلى الثمانينيات من القرن الماضي) وبين التعاطي «القروسطي» معهم من لدن التنظيمات الجهادية على الساحة السنية.

إقرأ أيضاً: لماذا جرود عرسال دون غيرها مهمة لإيران؟

ما لم يتبدل هو حاجة الحزب لانتصارات متتالية. حاجته للمزج دوماً بين «مظلومية مستدامة» وبين «انتصاروية متجددة يومياً». أقفلت «حرب تموز» مرحلة «الحروب شبه الدورية» بين إسرائيل والحزب / لبنان (1993، 1996، 2006)، بل علّقت الجبهة الجنوبية حتى إشعار آخر. الانتصارات «الموضعية» الداخلية، وأبرزها 7 أيار/مايو، لم تؤمن الإشباع نفسه. بل لم تسمح للحزب وحلفائه بتحقيق الانتصار الذي كانوا ينتظرونه في انتخابات حزيران/يونيو 2009 النيابية. أطاحوا بالبعد السياسي لنتائج تلك الانتخابات من دون صعوبة تذكر بعد ذلك، مستفيدين من تصدّع العلاقات التحالفية بين أخصامهم ثم انفراط عقدها. واستكملوا السياسي بالأمني، كما في شباط/فبراير 2011، عندما فرضت تظاهرة «القمصان السود» إرادتها الحكومية.
هل أمّنت سوريا مساحة وافية لهذه الحاجة الانتصاروية؟ في القصير، في يبرود؟ لكن ربط كل اقتحام لهذه المدن والبلدات المحاذية للحدود مع لبنان بمقولة «الحسم» من دون ان تنتهي الحرب السورية رغم ذلك، بدّد رصيد هذه «الانتصارات». الى أن جاء مشهد الدمار والهزيمة والباصات الخضر في حلب الشرقية. لكنه مشهد حاصل بالطائرات الروسية أساساً. والموصل؟ بالطائرات الأمريكية.
في جرود عرسال، بحث «حزب الله» عن محاكاة لمشهد الانتصار «السوري» في حلب، و«العراقي» في الموصل، مع فارق أساسي يسجّل له: أنّه ليس انتصاراً على مدينة جديدة، بل «انتصار» في الجرود. وفارق يتهرّب منه من ناحية، ويؤكده هو من ناحية ثانية: وهو أنّه فوز أمني ـ إعلاميّ أكثر منه مواجهة عسكرية حقيقية، فيما عنى مقاتلي مجموعة ابو مالك التلي. بل فوز أمني إعلامي بكلفة تفاوضية عالية، وعدد قتلى كبير للحزب يعادل ربع عدد المجموعة المسلحة التي جرى اجلاؤها من جرود عرسال إلى ادلب، عابرة الأرض السورية، بحماية الجيش السوري والحزب. لا يلغي انه فوز أمني وإعلامي وسياسيّ، لأنه كشف أكثر من ذي قبل تعاظم قوة الحزب في الداخل اللبناني، وتعاظم تهافت أخصامه وحلفائه على حد سواء، بل لم تعد الحدود واضحة بين حلفائه وأخصامه، وأمسوا جميعهم ينتظرون العلامات التقديرية التي يوزعها عليهم.
هذا «الانتصار» كما يحب الحزب وأنصاره تسميته اليوم فيه التباس يتجاوز أهلية هذا الوصف. وجه الالتباس: انه انتصار على من؟
هل هو انتصار سردية الحزب حول الحرب السورية، والاتجاه لاعتمادها كسردية لبنانية مهيمنة؟ أو انتصار على العكس من هذا لسردية تفصل بين تدخل الحزب في سوريا وبين تدخله ضمن النطاق اللبناني؟ المشكلة التي يواجهها الحزب هنا انه لو حصر انتصاره بجبهة النصرة فقط أو «داعش» غدا لظهر الأمر أشبه «بالانتصار على العدم» بالنسبة إلى الأوضاع اللبنانية، وليس في ذلك فائدة حقيقية.

إقرأ أيضاً: حزب الله لم يستشر الأسد بالهجوم على جرود عرسال

الشيء نفسه بالنسبة إلى علاقة المسيحيين مع حملة الحزب في الجرد، حظيت برضا مسيحي بشكل أو بآخر، لكن في هذا الرضا نفسه التباسات. هناك إلى حد ما «شعور شيعي» بأننا نقاتل «عوضاً عن المسيحيين»، وهناك «شعور مسيحي» مواز بالقلق الجدي من تعاظم قوة «حزب الله»، وأخذ ورد حول «البعد الذمي» للعلاقة مع هذا الحزب، وهو ما يرتبط بمخيال ماروني رُكّب في الفترة الحديثة ويتصوّر أن الموارنة استطاعوا تفادي أحكام أهل الذمة بلجوئهم إلى الجبال، وهو ما يناقضه الحد الأدنى من التحقيق التاريخي. طبعاً، العنصر الذمي في التاريخ الماروني مختلف عن «ذمية» الطوائف المسيحية الأخرى، ما يعود في جزء أساسي منه إلى كونها الطائفة المسيحية الوحيدة التي استطاعت ان تدفع أسر كاملة من الدروز والشيعة والسنة لاعتناق المسيحية على مذهبها، وهو ما لم يحصل لا عند سريان وروم الشام ولا عند أقباط مصر. في الوقت نفسه، هناك تحسس مسيحي لبناني زائد من كل علاقة مع طرف مسلم يستشعر فيها بأنها علاقة غير متكافئة، ولسنوات طويلة تراشق المسيحيون فيما بينهم، أي الفريقين، حليفه، السني والشيعي، أكثر انصافاً للمسيحيين. اليوم، لم تعد هذه المفاضلة موجودة. التطبع مع اقتدار الشيعة وضعف السنة بلغ ذروته في الخطاب المسيحي. في الوقت نفسه، هذا يضع المسيحيين أكثر أمام المسألة التي حاولوا مداراتها بألف شكل منذ ربع قرن.. «مسألة حزب الله».

السابق
موارنة إيران: أهل ذمة حزب الله
التالي
صحيفة واشنطن بوست : الإمارات تعزز حكم الأنظمة المستبدة في الشرق الأوسط