أصلاً هي فوضى

ندوة شؤون جنوبية
يفتقر لبنان إلى سياسة عامة تتعلق بالنفط والغاز، تحول إلى خطة استراتيجية لهذا القطاع تلحظ تنظيمه وكيفية الاستفادة منه ودوره في تطوير ونمو الاقتصاد اللبناني، وكيف يمكن أن يؤمن فرص عمل فعلية للشباب. وأن تتضمن الخطة مجموعة من المشاريع والبرامج التي تؤمن الحماية البيئية والمجتمعية للمجتمعات الساحلية المحلية التي يمكن أن تتأثر بعمليات الاستكشاف والتنقيب والاستخراج، ليس الوضع فريدأ، بل يشابه جميع القطاعات الاقتصادية الأخرى.

لنبدأ من الأول، في البلدان الأخرى تتقاسم مسؤولية الإشراف على قطاع النفط والغاز مؤسسات وأجهزة معنية بالقطاع مثل مجلس النواب ومجلس الوزراء ووزارات الطاقة والمالية والصناعة والبيئة. وتستخدم في عملية الإشراف هذه شركة غاز ونفط وطنية. لكن هنا في لبنان اختصر الموضوع بمسؤولية وزير الطاقة وهيئة إدارة البترول التي تعمل برعاية الوزير وتحت إشرافه مباشرة، وفي هذه الخطوة إمساك بقرار الحل والربط بقلة قليلة من الناس ما يفسح في المجال لأخذ القرار وتوقيع الاتفاقيات والتنقيب بسرعة وبأقصى ما يمكن من السرية.

اقرأ أيضاً: هدرٌ وفساد في ملف النفط.. وشركات «غير مشغلة» تشرف على المحاصصة!

عام 2010 صدر القانون البترولي 132 الذي يكتفي برسم الخطوط العريضة والمبادئ العامة لنظام استثمار البترول والغاز.
وفي 21 آذار 2012 صدر مرسوم يقضي بإنشاء هيئة إدارة قطاع البترول وبعد تسعة أشهر وتحديداً في 27 تشرين الثاني 2012 ولد مجلس إدارة لهذه الهيئة بعد مخاض عسير انتهى إلى محاصصة طالت الطوائف الرئيسة في لبنان وباتت الهيئة تضم ممثلين عند زعماء الطوائف الستة الأساسية. أبدى بعض وسائل الإعلام الاستغراب، بعدما اشتبه بغياب الخبرة البترولية عن عدد من أعضاء الهيئة، تساءل عدد من وسائل الإعلام عن المعايير التي استخدمت لتحديد رواتب أعضاء الهيئة. لكن وزير الطاقة يومها سارع للقول أن الأعضاء تم اختيارهم من بين 618 مرشحاً وبالصدفة اختير واحد من كل طائفة! أما حول ارتفاع رواتبهم فعزا ذلك لإعطائهم مناعة ضد الرشاوى! لكن يبدو أن المؤسسات الدستورية باتت هيئات شكلية وتحولت الهيئة إلى مجلس يمثل زعماء الطوائف.. أليس ما يحدث حالياً في نقاش النظام الانتخابي مشابه لذلك؟ وتحولت هذه الهيئة مرجعية أساسية لكل ما يتعلق بالنفط والغاز وفوقهم المنسق العام أي وزير الطاقة شخصياً. وتستمد الهيئة صلاحياتها من القانون 132/2010 الذي جيّر لها ولوزير الطاقة صلاحيات هي من اختصاص المجلس النيابي.
والقانون المذكور الذي يقع في 27 صفحة يتضمن أحكاماً عامة وحديثاً عاماً عن القطاع ويفتقر إلى المعلومات الدقيقة المتعلقة بالنفط والغاز. وبعض بنود هذا القانون يتعارض مع المراسيم التطبيقية التي أصدرها مجلس الوزراء بناء على طلب وزير الطاقة اقتراح هيئة إدارة البترول. فالمادة 5 من القانون المذكور تنص على أن نظام الاستثمار هو النظام المعروف بإسم (اتفاقيات تقاسم الإنتاج) وهذا النظام الذي تتبناه نحو 120 دولة في العالم. لكن المرسوم الخاص بنموذج الاستكشاف والإنتاج مع الشركات الأجنبية عدّل وبصورة مقلوبة المادة 5 واستعاض عنها بتعبير تقاسم الأرباح وهو مفهوم مبتكر لا وجود له في العالم منذ نصف قرن! إنه ليس غباء خبير بل هو إفراغ القانون من مضمونه الأساسي وتحويل النفط من عامل تنموي متسدام إلى كمية أموال تجبى لجيوب من يهتم بموضوع النفط والغاز إنه يشل دور الدولة في استغلال الثروة ويبعدها عن الإشراف المباشر.
يؤكد المسؤولون عن هيئة إدارة البترول ان مفهوم تقاسم الأرباح هو أفضل نظام ممكن لأنه يجمع بين نظام تقاسم الإنتاج والأنظمة الأخرى. وذلك في حديث إعلامي لجريدة النهار في 17 نيسان 2015، ويعني أن مئات الخبراء الذين طوروا مفهوم التقاسم في 120 بلداً ليسوا في مستوى “ذكاء” المسؤولين عندنا الذين ابتكروا “تقاسم الأرباح” مما يقصي الدولة عن المشاركة في استثمار الثروات ويحل محلها شركات خاصة لأولي الأمر لا وجود لها إلا على الورق وفي حسابات المصارف.

غلاف شؤون جنوبية
وهل نشير إلى نسبة الإتاوة التي أقرتها المراسيم والتي لا تتساوى مع أي نسبة أتاوة اعتمدتها أي من الدول القريبة والبعيدة. عندنا اتاوة الغاز 4% في حين تصل إلى نحو 12% في البلدان الأخرى. وأتاوة النفط تبدأ من 5% وصولاً إلى 12% في حين تصل في بلدان أخرى إلى 20%. وفي شركات الحقوق نجد أن هناك شركات مشغلة يبلغ رأسمال كل واحدة نحو 10 مليار دولار أميركي وشركات غير مشغلة يتراوح رؤوس أموال كل شركة منها ما بين 400 – 500 مليون دولار، لكن أي من المراسيم لم يحدد المسؤوليات التي تقوم بها هذه الشركات. فإذا كانت الشركات المشغلة تقوم بكل الأعمال فماذا تفعل هذه؟ إحدى العاملات في هيئة إدارة البترول أجابت: إنها تقوم بالأعمال اللوجستية وتأمين السيولة”. حتماً إنه أمر مضحك. شركة رأسمالها 400 مليون دولار تساعد شركة رأسمالها 10 مليار دولار؟ وقد نشر بعض وسائل الإعلام معلومات عن شركات جرى تأهيلها كشركات غير مشغلة منها شركة ِApex Gas المسجلة في هونغ كونغ برأسمال لا يبلغ 1290 دولار أميركي وأخرى اسمها Petroleb سجلت في بيروت من قبل إعلاميين ومستشارين سابقين في وزارة الطاقة.
على الرغم من أن المجلس النيابي أقر قانون النفاذ إلى المعلومة، فإن بعض المسؤولين وأعضاء في هيئة إدارة البترول يلجؤون إلى السرية كلما سألهم أحد الإعلاميين عن القواعد والمعايير التي استخدمت لتأهيل الشركات غير المشغلة والتي تضم شركات وهمية أو شركات لا تملك الخبرة والقدرة للعمل في هذا القطاع.

اقرأ أيضاً: الكانتونات الطائفية تهدد ملف النفط اللبناني

في العام 2014 طرحت مجلة Executive سؤالاً على وزير الطاقة حول ملايين الدولارات والتي تقارب 50 مليون دولار وهي حصة الدولة من بيع المسوحات الزلزالية. أجاب الوزير إلى أن هذا موضوع تافه وهدد السائل بالملاحقة القانونية.
وفي اكتوبر 2015 أجاب الوزير المذكور على نفس السؤال، بأن الموضوع سري، وألحق حديثه بسؤال آخر موجه للصحافي. هل يحق لي أن أسألك عن المبلغ المودع في حسابك المصرفي؟ وكأن حساب الدولة هو حساب شخصي للوزير المذكور.
وتنص المادة 35 من النموذج للاتفاقيات مع الشركات “مع مراعاة أحكام المادة 154 من المرسوم 2013/10289 يجب أن تبقى هذه الاتفاقية وجميع المعلومات والبيانات والتحليلات والتفسيرات والنتائج…. الخ بموجب هذه الاتفاقية سرية ولا يجوز إفشاؤها من قبل أصحاب الحقوق إلى أي شخص ثالث من دون الموافقة المسبقة الخطية للوزير بناء على توصية هيئة إدارة قطاع البترول.
الثروات الطبيعية هي ملكنا، ملك الشعب اللبناني ولايجوز لأحد أن يتصرف بها وكأن ملك شخصي، ولكن وبسبب المحاصصة يبدو أن الأمر يسير إلى فوضى أو أصلاً هي فوضى.

(هذه المادّة نشرت في مجلة “شؤون جنوبية” – العدد 164 – صيف 2017)

السابق
بالصور: حزب الله ينعى 5 مقاتلين جدد لتكون الحصيلة 12 مقاتلاً
التالي
«اتفاق عمّان».. هل يُطلق الإشتباك الروسي-الايراني جنوب سوريا؟