«جيرمين وإخوانها» لحازم صاغية: المفكّر الحكواتي

نادراً ما تساءلنا عن سر “نجومية” مقالات حازم صاغية الصحافية. كيف لتعليق صحافي سياسي أن يكون “ممتعاً”، ونلتذ بقراءته؟ فحتى الذين لا تعجبهم آراء صاغية ولا مواقفه، يستأنسون بقراءته. بل ثمة عدد كبير ممّن لا يقرأون الصحف يواظبون على مطالعة ما يكتبه هذا الصحافي تحديداً. يمكن القول أن صاغية هو واحد من أكثر الصحافيين العرب مقروئية.

نظن أن جاذبية مقالات صاغية لا تكمن في مضمونها الفكري أو السياسي وحسب، بل في “أدبيتها”، في صنعتها الكتابية، في أسلوبها اللغوي الرشيق والممتع، في بلاغتها من دون تكلّف، في وضوح قاموسها، في امتناع صاحبها عن “استعراض” مخزونه الثقافي، ولو وشت مقالاته بسِعة هذا المخزون.

اقرأ أيضاً: «بيروتنا» و…مسألة ديانا مقلّد

صحيح أن حازم صاغية سليل حفنة قليلة من الصحافيين العرب الذين أجادوا “فن” كتابة العمود الصحافي، لكنه أيضاً سليل تقليد عريق شبه منقرض: الأدب الصحافي، حين كان الكتّاب الصحافيون هم من كبار الأدباء (يوسف إدريس، إحسان عبد القدوس، طه حسين.. في مصر. ومارون عبود وسعيد تقي الدين وفؤاد كنعان في لبنان..إلخ)، أو أن كتاباتهم الصحافية والسياسية والفكرية كانت ترقى إلى سوية الأدب الرفيع (ميشال شيحا، وضاح شرارة..).

أيضاً، نادراً ما انتبهنا إلى أن حازم صاغية ليس صحافياً فقط، فعلى الرغم من وفرة مؤلفاته “الأدبية”، في القصة، والسيرة، والنصوص النثرية الحرة، ظلت “وصمة” صاغية أنه الكاتب السياسي المشهور باستفزازه للقناعات الراسخة. شهرته في مقارعة الأفكار الثابتة والسائدة ونقدها على نحو مثير للجدل، أعتمت جانباً مهماً من نتاجه الغزير، هو ذاك النتاج الثقافي والأدبي وأعماله غير الصحافية والسياسية.

وحازم نفسه يغذي هذه الإشكالية في الإضاءة على كتاباته، فمثلاً يتساءل ناشر كتابه “قضايا قاتلة” (دار الجديد، بيروت 2012) في مضمونه: “ما الجامع بين اجتثاث البعث والرومنطيقية بمعناها الاجتماعي والسياسي بمفهوم أشعيا برلين، إلى الإسلام الشديد الانتشار المؤثر في السياسة الكونية، إلى برج دبي فالشيوعية والثقافة؟” (أيضاً، لا ننسى هنا كتابه “نانسي عجرم ليست كارل ماركس”). وهي إشكالية أقرب إلى الفضيلة، إذ قليلون جداً محترفو الصحافة السياسية (العربية) راهناً الذين لهم صلة فعلية بحقول الثقافة الأدبية والفنية والفكرية (أن يشاهدوا معرضاً أو مسرحاً أو سينما أو أن يقرأوا الرواية والشعر والفلسفة..).

منذ أيام، صدر كتاب قصصي جديد لحازم صاغية بعنوان “جيرمين وإخوانها” (دار الساقي، بيروت 2017) في 222 صفحة من القطع العادي (بلا فهرس؟ توفيراً للورق؟)، يضم 31 قصة موزعة على أربعة أقسام: “حيوات بريئة”، “أمزجة ولا أمزجة”، “مجرد تفاصيل”، “عن ماضينا ومستقبلنا”.

مع قراءة هذا الكتاب الجديد، ننتبه إلى ميزة إضافية في كتابات حازم، الأدبية منها والصحافية: إنها توهم كل قارئ على حدة، أن صاغية يكتب له وحده، يخاطبه على نحو حميم وشخصي، كأنها حديث خاص بين صديقين. ثمة قوة أسلوبية في وَهْم المشافهة، وَهْم الحديث الشخصي. ونحن أصدقاؤه، غالباً ما ندرك أنه يتحدث كما يكتب، كحكواتي بالغ الموهبة في شرح أفكاره عبر رواية قصة أو حادثة، أو إدغام نكتة في تحليل سياسي، وفي وصفه الكاريكاتوري الدقيق لطبائع الأشخاص وسلوكياتهم. إنه حكواتي – مفكر. والممتع هنا، في الكتابة أو الكلام، هذا المزج الدقيق للمرح والنقد المرير، السخرية والتعاطف، التشاؤم الوجودي والاحتفال بالعيش، الاستياء والتفهم، الانحياز للأريحية والخفة ولو على حساب رصانة الأفكار والقضايا.

دار الساقي

في القصة الأولى “جيرمين التي ضاعت في نيويورك” نُفاجأ بنص قريب جداً من مناخات الواقعية السحرية، عالم حقيقي وغرائبي لمنزل لا عدّ لقاصديه وللمبيتين به، ولشخصيات نسائية غريبة الأطوار والسلوك والمظهر: يكتب: “لم يكن من السهل التعرّف إلى عمر جيرمين، كان أمرها يشبه الأحجية: هل تعرف عمرها؟ كان يسألنا يوسف، ابن شقيقتها، واثقاً من أننا لن نعرف. فجيرمين التي صدمتها سيارة وهي طفلة، نمت نمواً كما ينمو العشب البري. جسمها ظل صغيراً ورفيعاً كجسم تلميذة ابتدائية تشارك في مباريات مدرسية للركض، إذ رجلاها أطول مما يحتمله ذاك الجسم الضئيل. وبين أفراد البيت الآخرين، وكلهم ذوو قامات ضخمة، بدت جيرمين أشبه باللعبة التي تتحرك وسط ظلالهم…” (ص9)

في قصص “أنطون قتيل الأغاني” و”مارون وأمه” و”البراءة التي لم تنقذ وسيم” و”1978… أو حرب البصلة” و”جيراننا الماويون” و”حين خطفتُ كميل” .. وإلى حد ما “إله ميشال العادل” “سيرة كاهن لكل الفصول”، يعود صاغية إلى مناخات حرب السنتين (1975-1976)، وأفاعيلها عميقة الأثر في التحول العنيف الذي أصاب المجتمع اللبناني، وهو تحول لم يترك وجهاً من وجوه الحياة إلا وبدّلها على نحو لم يشف منه لبنان أبداً. فنشهد على انهيار روابط الحياة الريفية وضوابطها، انقلاب التراتبية الاجتماعية، وهيمنة الفوضى والعنف والخوف على ما كان علاقات وصلات وتواصل. لكن الأهم في تلك القصص تحديداً هو ذاك التحول من التحزب الفولكلوري إلى التحزب القاتل. ما كان سياسة قروية وتقليدية وحزازات عائلية وأهواء شبابية، صار عنفاً وعداوات مميتة. قصص استطاع صاغية أن يستعيدها من ذاكرة شفهية ليدوّنها بأسلوب حار ومتدفق، وبرؤية نقدية متفحصة، تنبهنا إلى ما لم يدوّن أو هو صعب التدوين أصلاً في التأريخ السياسي والاجتماعي لتلك الحقبة المفصلية، التي طوت لبناناً قديماً لا رجعة إليه.

قصّة “علي وحبّه لماكميلان” نموذجية في دلالتها على تلك الحزبية السابقة للحرب، وعلى الثقافة السياسية التي سادت خصوصاً في الأرياف اللبنانية في الخمسينات وحتى السبعينات من القرن الماضي، وصلتها بقضايا المنطقة والعالم (عبر الراديو). أن يجمع البطل “علي”، في حبه لعبد الناصر وجواهر لال نهرو وتيتو وسوكارنو ونيكروما ومكاريوس – وهؤلاء أبطال حركات التحرر من الاستعمار – مع حبه لرئيس وزراء بريطانيا حينذاك هارولد ماكميلان، فهذا لغز لن يتبدد أبداً، بل وسيستمر حتى بعد اندلاع الحرب وذهاب علي إلى الانخراط في صفوف “جبهة النضال الشعبي”، التي نعته بعد مقتله: “الرفيق القائد الشهيد هارولد ماكميلان”. وهذه القصة تحديداً مع قصص أخرى (“جيراننا ماويون” مثلاً) تحيلنا مجدداً إلى كتاب آخر لحازم صاغية “هذه ليست سيرة”، الذي يروي فيه سيرة انتقالاته الدراماتيكية من حزب إلى آخر ومن عقيدة سياسية إلى أخرى، على نحو كاشف وفاضح للفارق المروع بين وَهْم الأيديولوجيات ومكر الواقع.

كما قصة “جيرمين..” نقرأ “توفيق الذي لا يعرف الأمل إليه سبيلاً” و”مروى ذات الألغاز الكثيرة” و”جرجي مطارداً الموت حتى النهاية” و”خيول العمّ المحبّ” و”وليد الذي لا يكفّ عن التريض” و”وكالة أنباء القرية” و”تفاصيل منيب وبديهياته” و”هذه الحرب على سجائري” و”معين حين لم يعد يسألني”، تختلف عن تلك التي تناولها أعلاه. هي أقرب إلى الأدب القصصي الذي يستكشف شخصيات استثنائية، وحالات إنسانية فردية تعيش مفارقاتها الغامضة أو تجسد مثالات لعوارض نفسية واجتماعية نافرة، كاريكاتورية أو مأسوية، بل ولا ضير أن تكون ظاهراً مجانية وعادية، لكنها تخفي تلك الضراوة العبثية في العيش وبمواجهة الزمن والموت.

في النصين الأخيرين، “1881-1882… أو كيف نشأ الاستعمار” و”2025… أو الاحتلال القبرصي لبلاد العرب”، يعود صاغية إلى موضوعته الأثيرة: إنحطاط حالنا السياسي، وخراب أوطاننا، وخواء الأفكار الأيديولوجية التي تتحكم في عقول مجتمعاتنا، نكوصنا عن الحداثة، وعداؤنا الغريزي لحقائق العالم المعاصر. نصان متخيلان وساخران إلى حد الدمعة والشفقة. ويتقاطع معهما نصّا “لا يكفي العداء للإمبريالية كي يُديم الغرام” و”قاطعوا الدواء الإسرائيلي ولا تقاطعوه”. لا حدود هنا للضحك والهزء. يكتب في “لا يكفي العداء..”: “لا يكره الإمبريالية أحد كما يكرهها نجيب. يصفها بالخبث وباللؤم ويضفي عليها من النعوت ما تنسبه ثقافات الذكور إلى النساء، كأن يكون كيدهنّ عظيم(…) لكن الحدث الذي أشعل مخيلته بعدما هزّه كما لم يهزّه حدث سابق، كان مشاهدته بطاقات الائتمان التي تدر مالاً على حاملها ما أن يدخلها في آلات بدأت تنتشر في الشوارع. وهو ما فسره، بين جد ومزاح كذلك، بأنه يدل على كمية الأموال التي سرقتها الامبريالية من بلداننا إلى حد أن جدرانها باتت محشوة بالفلوس..” (ص111- 113).

مع هذا الكتاب، وقبله “هذه ليست سيرة” و”أنا كوماري من سريلانكا” و”مذكرات رندا الترانس”، علاوة على مؤلفاته في السياسة والثقافة والاجتماع.. نحن أمام “كاتب” يستحق أكثر من شهرته الصحافية.

السابق
فشل الاجتماع الليلي وبري يرفض مطالب باسيل
التالي
شراكة روسية ـ إيرانية من درعا إلى البادية