رسائل أبي سلمان

في طَلّته الإعلامية الأخيرة، قال ولي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أشياء كثيرة عن الوضعِ الداخلي في المملكة بكثيرٍ من الصراحةِ والشفافية. رَفَضَ حمْل عصا سحرية يلوّح بها أمام المتابِعين كما كان المسؤولون العرب يفعلون في العقود الماضية، كما رَفَضَ منطق الإحباط وجَلْد الذات وانتقاد الوضع وتحميل الآخرين (ظروفاً كانتْ أم شخوصاً) مسؤوليةَ الانتكاس.

بقيَ في الوسط حامِلاً الملفات والأرقام والخطط والبرامج، ولكلّ برنامجٍ عمره ولكل خطةٍ أداوتها التنفيذية، محمّلاً الفريق المولج بالتنفيذ من وزراء وكوادر وأكاديميين مسؤولية الإنجاز … راسماً بهدوءٍ وحزْمٍ حدودَ العمل وأهمّها حدّ النزاهة، فسيْف مكافحة الفساد لن يَرحم في مرحلةِ التحوّل الكبرى.

اقرأ أيضاً: لهذا يهدد محمد بن سلمان بنقل المعركة الى داخل ايران

بكثيرٍ من الثقةِ والتمكّنِ والهدوءِ، جال محمد بن سلمان بين الملفات الداخلية وهي ملفّاتٌ يصحّ حرفياً القول فيها إن أهل مكة أدرى بشِعابها. ففي المشاريع الكبرى، في أيّ مكانٍ في العالم، الأرقام حمّالة أوجه، وارتباطُها بعوامل وظروفٍ داعمة او لاجِمة هو ارتباطٌ معروفٌ وموجودٌ في الحسابات، مثل أسعار النفط وعوائد الاستثمارات وقوة تَدفُّق الرساميل او ضعْفها … أمورٌ كثيرة لا شك في أن الأمير الشاب يَحْفَظُها عن ظهرِ قلبٍ ويُبقيها في إطار التفاؤل إنما داخل دائرة الواقعية أيضاً.
الجميل في المَشهد، ان المتلقّين العرب والأجانب تابعوا مسؤولاً عربياً يخصّص غالبية حواره الإعلامي لقضايا التنمية والتطوير والحداثة والاهتمام بالشباب ومستقبلهم ومشاركتهم في الشأن العام. رفَعَ ابتسامتَه متفائلاً محاوِراً بدل سبابته مهاجِماً متوعّداً، أَقْحَمَ الشباب السعودي في برامج وخططٍ اقتصادية لا في ميليشياتٍ مذهبيّة تقتحم هنا وهناك، تحدّثَ عن ضرورةِ تطوير قطاع الطيران لا عن خطْف الطائرات، استرسلَ في شرْح رؤيته للاستفادة الأمثل من أرامكو والثروات الطبيعية والصناديق السيادية والأسهم والتعليم والصحة والإسكان وليس في شرْح الموجبات والأسباب التي تدفع الناس الى إلغاء عقْلها والهجرة الى التطرّف والتخلّف سواء بقيتْ في ديارها أو التحقتْ بمنظماتٍ خارجية … باختصار، كان مسؤولاً عربياً شاباً يَستحضر المستقبلَ في زمنٍ عربي كهْلٍ يَستحضر الماضي بكهوفه وصراعاته.
تَعْنينا كعرب بالطبع التحوّلات الكبيرة التي تَحصل في المملكة، لكن تَعْنينا أكثر المقاربة التي قدّمها أبو سلمان (كما خاطبه المُحاوِر في اللقاء أكثر من مرّة) عن العلاقة مع مصر والصراع في اليمن والعلاقة مع إيران والثورة السورية.
رسائل كثيرة جداً وجّهها بعباراتٍ مقتضبة جداً، أهمّها لـ “الإخوان المسلمين” بأن حديثه المقبل عنهم قد لا يقتصر فقط على دورِهم “الإعلامي”.

إيران والسعودية
والى المُراهِنين على خلافٍ مصري – سعودي، بأن العلاقات تاريخية واستراتيجية وأكبر من أنظمة وأشخاص، وأن المشاريع المشترَكة فيها مصلحة للطرفيْن بعيداً من الضوضاء الإعلامية من هنا وهناك، وأن التحالف الاستراتيجي بين الرياض والقاهرة أساسُ مواجهةِ الشهيات الإقليمية غير العربية المفتوحة دائماً.
والى اليمنيين واللاعبين في اليمن، بأن “الحسْم والحزْم” لو أرادتْ دول التحالف تطبيقهما بالطريقة التي يمارسها الانقلابيون ومَن يغذيهم بالسلاح والأفكار السوداء لَسَقَطَ آلاف الضحايا، لكن المكان يتّسع لانتصاراتٍ على الأرض مع احترامِ الأرض ومَن عليها، إضافة الى فتْح كل الأبواب لجميع الفرقاء لإعادة الحسابات وسلوك درب التسوية السياسية … وفي الحديث عن لقاءات الأمير محمد مع القبائل والمسؤولين اليمنيين أكثر من رسالة الى مَن يهمّه الأمر بأن أطرافاً داخلية يمنية تعيد النظر في حساباتها.
والى الإيرانيين ومَن يسوّق لهم غربياً، أعلن الأمير محمد بن سلمان ان المملكة لن تُلْدَغ من الجُحر مرّتيْن. تحدّث بشكلٍ مباشر وبصوتٍ عالٍ عن وصولِ مرحلة “التقية السياسية” الى طريقٍ مسدود. لم يعد هناك مكان للقول مثلاً ان “الرئيس معتدلٌ وعليكم ان تساعدوه لكن الحرس الثوري يضغط عليه”، أو أن الانتخابات المقبلة ستفرز وجهاً يَعرف كيف يُحافِظ على علاقات حُسن الجوار ويلتزم القوانين الدولية، أو أن الانفتاح الأميركي على إيران سيخلق دينامية داخلية معيّنة تفرض سلوكاً خارجياً مختلفاً … أيضاً وبعباراتٍ مُقْتَضَبة، أبلغ ولي ولي العهد السعودي الإيرانيين ان المشكلة ليست خلافاً سياسياً او حدودياً، المشكلة عندهم وليست عندنا، المشكلة يعاني منها الشعب الإيراني قبل دول الخليج، المشكلة أن هناك مَن صادر الدولة والدستور وفق مفاهيم ظاهِرُها عقيدي وباطِنُها التوسّع والسيطرة، وقبل ان تنتهي هذه المصادرة ويعود النظام في طهران الى مفهوم الدولة وليس الثكنة، لا مجال لرؤيةِ ضوءٍ في نهاية النفق.
كذلك كانت لافتة عبارته ان المعركة ستكون لديهم في إيران وليست في المملكة بعد تصريحاتِ مسؤولين إيرانيين عن ضمّ مكة المكرّمة الى نفوذهم، الأمر الذي يعني ان اللعبة الإيرانية باستدراج الآخرين الى مناطق نفوذ طهران العربية باتت مكشوفة، وان إنهاك العالم والعرب بتفجيرٍ هنا وخطْفٍ هناك عملٌ متوقَّع ومن مسؤولية العالم عدم الوقوع في هذا الابتزاز والردّ على إيران في إيران وليس في الدول التي تبسط نفوذها فيها.
والى سورية، لم يجد الأمير محمد أفضل من اختصارِ ست سنوات من الثورة والمعاناة بالقول إن أوباما أضاع فرصاً كثيرة. فلو كان تَدخّل منذ بداية الثورة مُحْتَرِماً تعهّداته وخطوطه الحمر، لَما وصلتْ الأمور الى ما وصلتْ اليه من فَتْكٍ وقَتْلٍ وكيماوي ومَجازر، وتأسيس “داعش” و”النصرة”، ودخول الإيراني وميليشياته، والروسي وقواعده، والتركي وشريطه الحدودي، والأميركي ومُقاتِلاته وصواريخه، وانفلاش البُعد الكردي.
ولا يمكن فصْل رأي الأمير محمد في ابتعاد أوباما عن سورية عن رأيه في اقتراب أوباما أكثر من اللازم من الإنصات الدقيق للنظام الإيراني، وهو الإنصاتُ الذي أصمّ أذنيْه عن سماع صوت الإيرانيين والعراقيين والسوريين واللبنانيين والفلسطينيين والخليجيين … الرسالةُ السورية الأخيرة كانت لاصحاب القرار في الغرب والشرق بأن النظر والإنصات الى السوريين مهمٌّ لكن الأهمّ هو التحرّك لإنقاذهم وليس لتحويلهم وَرَقَةً في ملفّ التسويات والمَصالح الدولية.

السابق
السادس من أيار: احتفال وتوقيع كتاب في ساحة الشهداء
التالي
هل بدأ بشار الأسد يشكل عبئا على روسيا وإيران؟