لغة أبناء «الحدائق الخلفية» في الضاحية الجنوبية

يمتاز أبناء الأحياء المهمشة في الضاحية بلغة خاصة بهم.

لطالما اخذتني أجواء الضاحية الجنوبية في بيروت، لها أثرٌ قوي في وجداني. أشكال طرقاتها المكتظة بالناس. الأحياء الصغيرة الفقيرة، والمحاطة بجدار من الأبنية الجميلة. ومن بين تلك المناطق المجهولة، عشرات الأحياء الممتدة من حي السلم، إلى حرش القتيل وصولاً إلى برج البراجنة والأوزاعي.

عندما كنت طالبة في المدرسة، كان معنا في الـ”باص” ثلاثة طلاب من حي السلم، وفي احد المرات، ومع بداية العام الدراسي، جرى حديثٌ بيني وبين طالبة من سكانه. فسألت الطالبة “هل أنتِ من الضاحية؟  اجابت كلا، أنا من حي السلم.  فسألتها: “بس، حي السلم من الضاحية”. فأجابت “أنا من حي السلم، لست من الضاحية”.

يُقال أن المكسيك وكوبا ينتميان إلى حدائق الولايات المتحدة الأميركية الخلفية، أما الحديقة الخلفية للبرازيل فهي البورغواي. لذلك فإن حي السلم، والأوزاعي وحرش القتيل في مخيلتي، لهم سِمة «الحديقة الخلفية» للضاحية، وأرجح بأن يكون ذلك نتيجة سيادة فضاء من الألفاظ يصف الضاحية بالـ«جمهورية».

إقرأ أيضاً: قطع بث قناة الجديد في الضاحية الجنوبية وتعرض للمحطة

لقد أتاحت مواقع التواصل الإجتماعي فرصة للمناطق المهمشة في الضاحية بأن تكتسب حيزاً من الوجود، وبات لكل منطقة صفحتها الخاصة ترصد أحداثها، يرافق ذلك نزوع قوي للخروج نحو الضوء، او حالة الـ”نحن هنا” موجودون في هذا العالم.

يهتم مدراء صفحات المناطق «المهمشة» بشؤون اناس ينتمون إليهم، ويرزح “ادمن” الصفحة مع متابعيه تحت وطأة التهميش نفسه، ما فرض عليهم الولاء للغة ذات مصطلحات اجتماعية وإقتصادية متوازية، وهو ما أضفى عليهم خصوصية تمتاز بالقدرة على التواصل فيما بينهم، لذلك فإن أي زائر غريب قادم من عالم اخر، أكان من حارة حريك أو شارع الأميركان، سيشعر حتماً بثقل غرابته.

إقرأ أيضاً: «فوضى» طرقات الضاحية الجنوبية.. أين الاجهزة الامنية واتحاد بلدياتها؟

إن برودة الأعصاب، إحد خصوصيات “الآدمن”، ربما هي نتيجة حتمية لفوضى منطقته التي أوكل لنفسه نقل اخر مستجداتها. عدد من الـ”Admins”، يمتلك ولاء سياسي، والبعض الاخر اخفى ميوله السياسية عن سابق تصور وتصميم، ولكن ما هو مؤكد، فإن “الآدمن” يتمتع بروح تهكمية عالية حين يشارك الناس صدمة عدم إنقطاع الكهربا لأيام، او حين يحصل فيضان يجتاح الطرقات بسبب الشتاء أو بسبب عدم قدوم عمال البلدية لإصلاح عطل ما في المصارف الصحية.

يسألهم الآدمن في صفحة “حي السلم”، “هيدا الطريق بدو توسيع، شو رأيكم؟، فيرد عليه المواطن حسن سيف الدين بـ”ما فيك توسع الطريق، لأن ما في نظام، كل شي فوضى، وهيدا محل الحاج يعقوب أحلى فواكة وخضرة”. يسألهم مرة اخرى، “شو يعني طرقات مجأجأة بحي السلم؟”، يضحك عشرات الأشخاص على الصورة المرفقة بالمنشور، فتجيبه إحد الفتيات بأنه من الممكن ان تكون إحد النساء قد قامت بتنظيف بيتها وأخرجت المياه إلى الشارع.

لذلك، إن المنشورات على صفحات «الحدائق الخلفية» للضاحية، كفيلة بإضحاك أغلب المتابعين، إنهم يعرفون بعضهم، ويتكلمون بلغة متشابهة، فحين يضع “الآدمن” صورة لإحد الأحياء، يتهافت المقيمون فيه للتوائم مع الصورة وإظهار معرفتهم الكاملة للتفاصيل الدقيقة للمحال التجارية وللأشخاص الواضحين فيها.  فن الضحك ووضع الوجوه الضاحكة تعبث بكثافة في التعليقات إلا انها في الوقت عينه قادرة على صنع مساحة لرؤية التهميش عن قرب، عبر ردود الناس، أو من خلال إجماع الآدمن والمتابعين على ان مناطقهم لن تتحسن ولن يجد النظام إليها سبيلاً.

إن الفضاء الذي تقفز فيه أفكار الأدمن مع متابعي صفحته، تفيض بالألغاز، هذا الفضاء الذي يختصر الألفاظ والعبارات، وكأنهم جماعة سرية تستخدم رموز وطقوس خاصة، وكأنهم لا يريدون مشاركة مشاكلهم وأجواءهم المميزة وأوجاعهم مع ابناء مناطق اخرى تجاورهم؛ أي مع مناطق، بنيتها التحتية أفضل حالٍ من بنية مناطقهم التحتية، وهو بحد ذاته مؤشر على بداية تلمسهم للفروقات الطبقية المشبعة بشعور العزلة عن جيرانهم في الضاحية الجنوبية الذين ينتمون أيضاً إلى نفس طائفتهم الدينية.

 

السابق
ميريام كلينك للساخرين من عون: ما أسخفكم وأغباكم!
التالي
الحريري غادر إلى السعودية على متن طائرة الملك سلمان الملكية