عباس زعيتر من خلف الكاميرا… الى قتيل تحت عدستها

البطريرك الراعي

لن اخفي ابدا با عباس… انني عرفتك في يوم من الايام… ولن اتحاشى ان أذكر انني كنت على معرفة بذلك الشاب الذي قضى في عملية سرقة بنك الاعتماد اللبناني في الضاحية الجنوبية لبيروت، ولن ارتب الحروف الا انطلاقاً من مبادئي، التي تحتم عليّ عدم الاختباء خلف اصبعي، متسلحاً في امانتي في النقل.

اقرأ أيضاً: إحباط سطو مسلح في الضاحية حوّل قوى الأمن إلى ضحية تنفيذ القانون

في احدى القنوات التلفزيونية، كان يقضي عباس اغلب وقته خلف كاميرا مهمتها ان تنقل الصورة الاجمل للمشاهدين، وإن كنت ابحث عن صورة له في خاطري، فهي تلك الصورة التي لم تتتبدل على مدى عام كامل، باسم الشفتين، حسن المظهر، قليل الكلام، انيق في تحيته وسلامه.

لم يصدف ان تحادثنا يوماً، ففي تلك الفترة، كنت اتابع مهامي كرئيس لتحرير الاخبار، فيما كان يتبع ادارياً لدائرة الاخراج الفني، ولم يكن هناك موجب للتواصل مهنياً بشكل مباشر، مع العلم انه وفي المرات التي كنت ادخل فيها الى الاستديو، لاتابع بعض الامور مع مقدم النشرة، كان يحرص عباس على القاء التحية ببسمة تفيض بالادب والاحترام، يكررها في كل مناسبة يصادف ان يلتقي فيها بأحد من زملائه.
كنت اسمع المخرج يناديه “زعتير”، حتى رسخت كنيته في ذهني من دون ان أعرف هويته، فهو قلما كان يتواجد بعيداً عن كاميرته، الا لحظة يسترق الثواني المتاحة للاستمتاع بسيجارة عابرة في الباحة امام القناة.
لست في طور تلميع صفحة أحد، ولا سيما انني لا اعرف عنه سوى ابتسامته التي لم اشك يوماً انها ابتسامة بريئة، انما من باب أمانة النقل اخط حروفي، حتى لو كانت معرفتي بالراحل لا تتعدى عن كونها معرفة سطحية.

كأي موضوع “هيت” انقسم اللبنانيون فريقين، فريق مع عنصر قوى الامن الداخلي، وفريق متضامن مع القتيل، وفريق وضع فرضيات ومخططات يرى انه كان على عنصر قوى الامن أن يلجأ اليها للاستعاضة عن القتل، وطبعاً مع الكثير من الاجتهادات الخزعبلية العظيمة التي استأنسَ في شرحها اصحاب الخيال الواسع.

الاعتماد سطو مسلح
ذلك العنصر الامني، الذي تدخل هو حتماً صاحب ضمير حي ومقدام وشجاع، لم يصم آذانه عن نداءات الاستغاثة، ولا سيما في حالة الهلع التي سادت، اما السؤال عن امكانية تعاطيه مع الحادثة بطريقة أنسب، فهذا يعود الى مسار التحقيق، مع الاشارة الى مسؤولية كل من ساهم في نشر اسم الشرطي من باب “السكوب” الاعلامي، حول اي خطر قد يهدد حياة الدركي، نتيجة لردة فعل انتقامية من فاعل ارعن.
اما بالنسبة الى عباس، الذي وبحسب رواية أهله، كان يمر بالصدفة من هناك، فالامر بالطبع سيتجلى مع مسار التحقيقات وحديث الكاميرا الذي هو اصدق إنباء من التمنيات.
انما السؤال الذي لم يكف عن العبث في رأسي: “لو كان عباس فعلاً سيئ السلوك، وصاحب نزعة اجرامية، ما الذي دفعه الى التنقل بين المؤسسات الاعلامية، باحثاً عن لقمة العيش الشريفة”؟ هل هو فعلاً اختبر الطريق الصحيح ولم يعجبه؟ ام ان طريق الصواب لم يفتح له بابه، ولا سيما بعد اغلاق مكاتب القناة التي كان يعمل فيها.

من غرر بك يا عباس؟ اتراها الافلام الهوليودية هي من انتقلت بك من عالم الواقع الى عالم الخيال؟ اتراه الجهل ؟ اتراه الفقر والعوز والحرمان؟ ما هي الدراجة النارية التي كانت بحوزتكما ولم تسعفكما على الهروب، هي حتماً دراجة قديمة، تشبه فقرك وبساطتك يا عباس.
ليتك لم تنزلق الى المحظور، ليتك رفعت سلاحك في وجه الحرمان والفساد، ليتك رفعت صوتك عالياً يا عباس في وجه الاستهتار، ليتك تأبطت كاميرتك، موثقاُ احوال آلاف الشباب الحالمين بكفاف يومهم والمعلقين على شفير الامل، ولا ذنب لهم سوى انهم ولدوا في هذه البقعة الجغرافية والمساحة الزمانية.

أكرر لست في طور تبييض صفحتك، ولكني اتكلم عن ذلك الجانب البسيط الذي لمحته منك، فقد اوجعني ان ارى وجهك الباسم، يئن وينازع مطروحاً على الارض، لقد استمعت الى حديث زملائك الذين عرفوك جيداً، واجمعوا على حسن خلقك،عن احلامك بالسفر، لتحسين اوضاعك، عن طيبة قلبك، عن التزامك بالصلاة.
كم كنت ساتفاخر باننا عملنا في مؤسسة واحدة، لو كانت تلك الكاميرا التي لطالما اخفت وجهك، سقطت في حضنك وانت تلفظ انفاسك، بسب رصاصة خائن او عميل، خلال تغطيتك لقضية انسانية، او لقضية وطنية.
انتقلت الى ديار من بك اخبر وارحم، اما تلك الكاميرا التي لطالما كنت المتحكم بها، لم تكن أمينة على علاقتك بها، لم تستطع ان تنتشلك من واقع، انا متأكد انك كنت تأمل الفرار منه، ولكنها كانت حقودة يا عباس، طرحتك ارضاً، لم تأبه لأنينك، كانت منشغلة بتوثيق تلك اللحظات التي تفارق الحياة فيها، وبلا رحمة يا عباس.

السابق
أميركيون بقيادة ترامب مع روسيا ضد أميركا
التالي
حكومة بلا ثقة شعبية