الحكومة «تسوية مؤقتة» بانتظار التسويات الكبرى بعد تسلّم ترامب

حين يكون طرفا الصراع في أي مسألة مطروحة لا يشعران بالانتصار، فمعنى ذلك أن التسوية التي جرت هي إلى حد كبير متوازنة. ولعل هذا الوصف ينطبق على التسوية السياسية التي شهدتها البلاد مع إنهاء الفراغ الرئاسي لمصلحة مجيء العماد عون رئيساً للجمهورية وتسمية سعد الحريري رئيساً مكلفاً لرئاسة الحكومة وما أعقبها من تأليف للحكومة بالتوازنات التي حوتها بوصفها حكومة وحدة وطنية لا بدّ لها من أن تشمل التمثيل الأوسع للقوى السياسية، رغم الثغرة التي اعترتها بعدم تمثيل حزب الكتائب.

الشعور الذي يسود في أوساط مؤيدي كلا الطرفين ينمّ عن عدم شعور أي منهما بتحقيق انتصارات، ما يعنى عدم هزيمة طرف لمصلحة الطرف الآخر، وهذا هو منطق التسويات، وإن كانت غالبية القوى تراهن على أن ما جرى ليس سوى تسوية مؤقتة لأن الفصل بين لبنان وما يجري في المنطقة غير ممكن، وبالتالي فإن المسار الذي ستسلكه التسوية النهائية لبنانياً مُعلّق إلى حين تبلور التسوية الكبرى إقليمياً.

اقرأ أيضاً : ما هو سرّ الهدوء الإيراني أمام تهديدات ترامب؟
هو تشابك طبيعي نتيجة عوامل عدة تبدأ من الجغرافيا ولا تنتهي عند واقع تركيبة البلد الطائفية والمذهبية، لكن الحرص على إبعاد لبنان عن امتداد الحرائق من حوله إليه يشكل مصلحة مشتركة، سواء للقوى الداخلية أو تلك الإقليمية والدولية. فالرغبة في أن يبقى لبنان نموذجاً لقدرة تعايش المكوّنات المتعددة معاً في نظام سياسي واحد ليست تفصيلاً بقدر ما هي مسألة مهمة في دوائر قرار إقليمية ودولية، حتى أن نموذج «اتفاق الطائف» لا يغيب عند البحث عن أي حلول في الدول المتفجرة المتعددة المكوّنات الطائفية والمذهبية

. جرى استنساخ مرتكزاته الأساسية في العراق، ومطروح في أوراق الحل السياسي في سوريا لتركيبة النظام الجديد. وتكمن المصلحة الدولية أيضاً في بقاء لبنان مستقراً لوجود نحو مليوني نازح سوري ما يفوق نصف عدد سكانه، وسيؤول أي تفجير داخلي أو فوضى حقيقية إلى أزمة تهجير ثانية وهجرة غير شرعية عبر الشواطئ اللبنانية إلى الدول الأوروبية، على غرار ما حصل من الشواطئ التركية.
والقوى السياسية اللبنانية على اختلاف رؤاها وأجنداتها تتشارك في مصلحة الحفاظ على الاستقرار. «حزب الله» الغارق في الحرب السورية وفي مشاريع التمدّد الإيراني في المنطقة مستفيد من عدم إرباك ساحته وبيئته داخلياً ومن الغطاء الأمني الذي يحظى به، فيما القوى المناوئة له ترى في إحياء المؤسسات وعدم تحوّل لبنان إلى دولة فاشلة هدفاً جوهرياً، وإن كان هناك الكثير من انتقاص لدور تلك المؤسسات، إذ أن وجودها وتعزيزها بما هو متوفر يسهم في التعامل مع التداعيات التي يمكن أن تترتب عن الأزمات التي تحوط به، إذ يمكنه إذا كانت إيجابية أن يستفيد منها في تحوله مركزاً لعملية الإعمار في سوريا مستقبلاً والمشاركة فيها، وتجنب دفع أثمان باهظة إذا كانت التداعيات سلبية.
فالصراع في المنطقة لا يزال على أشدّه، وليست اتجاهاته واضحة بعد، لا سيما في العراق وسوريا. وإذا كان يمكن للمراقبين أن يراهنوا على إمكانية قرب نهاية هزيمة «داعش» في العراق كتحدٍ عسكري لا أمني في مدى زمني قريب يمكن احتسابه بالأشهر، فإن ذلك لا ينطبق على سوريا، ذلك أن ما جرى في حلب الشرقية من سيطرة النظام السوري وحلفائه عليها وهزيمة المعارضة المسلحة فيها ليس مقياساً يمكن البناء عليه للمرحلة المقبلة، إذ أن سقوط حلب جاء في المرحلة الانتقالية للإدارة الأميركية في ظل سياسة باراك أوباما الانكفائية، وما كان ليتم هذا السقوط لولا اتفاقٍ روسي – تركي كان واضحاً في المقايضة التي جرت بين حلب الشرقية التي استعادها النظام و«الباب» التي سيطرت عليها قوات «درع الفرات» المدعومة من تركيا، والتي تشكل بعداً استراتيجياً لأنقرة الساعية إلى منع أكراد سوريا من تحقيق حلم الكيان الكردي عبر وصل عفرين بكوباني، وما سيفضي إليه من تهديد مباشر على أمنها القومي ووحدتها الداخلية بإيقاظ حلم الانفصال لدى أكراد تركيا.

 

فروسيا تدرك أن حلب ما كانت لتسقط رغم كل قوة سلاحها الجوي التدميرية وسياسة الأرض المحروقة التي انتهجتها لولا لم تقفل أنقرة طرق الإمداد وتفي بتعهداتها لـ «سيد الكرملين» في وقف تسليح المعارضة والضغط على الفصائل التابعة لها للانفكاك عن «جبهة النصرة» والانسحاب من مواقعها.
ففيما يَسكَر النظام وإيران بحرسها الثوري والميليشيات الشيعية التابعة لها ومنها «حزب الله» بسقوط حلب، ويرسمون خطط استمرار الخيار العسكري ويحددون الأهداف لما بعد حلب بين إدلب ودرعا، يذهب دبلوماسي روسي، في تأكيد الاتفاق التركي – الروسي ودوره في إنجاز سقوط حلب، لا بل يشيد بما أظهره الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من صدق تعهداته وقدرته على النجاح في تنفيذها، مبدياً ارتياح القيادة الروسية لتطوّر علاقتها مع تركيا والبناء عليها، رغم الضربة التي تلقتها موسكو باغتيال سفيرها لدى تركيا، والتي يعتبر أن جهات استخباراتية عدة يمكن أن تكون تقف وراءها، وأن هدفها قطع الطريق على المسار الذي اتفق عليه الروس والأتراك لسوريا لمرحلة ما بعد حلب.

هذا المسار رسم معالمه اجتماع موسكو، الذي ضم إيران أيضاً، عبر «خارطة الطريق» التي تتضمن وقف القتال على كل الأراضي السورية ويشمل كل الأطراف باستثناء «داعش» و«جبهة النصرة»، حتى أن وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو كان واضحاً في إجابته خلال المؤتمر الصحافي المشترك مع نظيريه الإيراني والروسي أن وقف النار يشمل أيضا قوات النظام، وحرصت السفارة التركية في بيروت على ترجمة كلام أوغلو عن شمول النظام بوقف النار إلى اللغة الإنكليزية لإيضاح هذه النقطة تحديداً، وأن وقف الدعم يشمل جميع المسلحين، ليس فقط الذين يعودون للمعارضة وللجماعات التي تأتي من الخارج، بل أيضاً للميليشيات الموالية للنظام، مخصصاً «حزب الله» بالاسم.

اقرأ أيضاً : نديم قطيش: الحكومة الجديدة إنتصار لسعد الحريري
و«خارطة الطريق» التي تُسقط العمل العسكري وتوازي مسار العملية السياسية مع مكافحة الإرهاب يسابق فيها فلاديمير بوتين الوقت قبل أن يبدأ سيد «البيت الأبيض» الجديد دونالد ترامب باتخاذ خطواته من الملفات المطروحة أمامه ومنها الأزمة السورية. فكل ما يهدف إليه الرئيس الروسي هو أن يُحصّن رؤيته لخارطة الحل في سوريا عبر النجاح في وقف الخيار العسكري عبر وقف القتال وفي دفع الخيار السياسي عبر جمع المعارضة في الآستانة عاصمة كازاخستان في النصف الثاني من كانون الثاني المقبل من دون أن يعني ذلك، وفق الدبلوماسي الروسي، قطع الطريق على الأمم المتحدة أو تحدي واشنطن، إذ أن الرؤية الروسية تندرج تحت إطار القرارات الدولية، ويتم العمل على أن تكون الآستانة خطوة تحضيرية جدية في اتجاه «مؤتمر جنيف» الذي حُدّد في الثامن من شباط، وقد يتم تقريبه إذا سارت الأمور بالشكل الذي تطمح إليه موسكو.
فرهان روسيا على تعاون تركيا لتحقيق الخارطة المرسومة ولا سيما لجهة فصل المعارضة المسلحة المعتدلة عن «جبهة النصرة» بعدما لم تلتزم بذلك واشنطن رغم اتفاق لافروف – كيري، وهي مسألة يتم العمل عليها في إدلب مع تخصيص مناطق محددة لـ «النصرة»، ولجهة لجم الفصائل المحسوبة عليها أو صاحبة التأثير عليها من خرق اتفاق وقف إطلاق النار، وحض المعارضة السياسية على الانفتاح على الحلول المطروحة بعد القيام بدور دبلوماسي حيال الدول العربية التي تشكل رافعة لبعض هيئاتها. وإذا كان طبيعياً القول أن دور إيران هو لجم الميليشيات التابعة لها، فإن اللافت في كلام الدبلوماسي الروسي أمام مجموعة من حلفائه، أن مهمة حسم التباينات بين موقف الحرس الثوري الإيراني الموجود على الأرض وموقف حكومة طهران الذي يُعبّر عنه دبلوماسيوها هي بيد النظام السوري الذي يدرك أين مصلحته وحدود اللعبة المسموح بها.
على أن تلك الرؤية الروسية برمتها تنطلق من الرغبة في الإفادة من الوقت الضائع في المرحلة الانتقالية الأميركية لتعزيز أوراقها وموقعها تفادياً لأي «سيناريوهات» قد تكون قادمة بهدف استنزافها، إذا لم تتطابق رؤى بوتين وترامب حيال كثير من الملفات التي تتعلق بموسكو ولم يغلب نهج التعاون على نهج التصادم الذي كان سيطبع المرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون لو وصلت إلى البيت الأبيض!.

السابق
عن خطاب السيد حسن نصرالله الهادىء بعد «انتصار حلب»!
التالي
فلتان إعلامي يتسبب بفتن طائفية… ولا قوانين تلجمه!