الأصوليتان، السنّية والشيعية

الأصوليتان الشيعية والسنّية تتشابهان من حيث المضمون، وإن اختلفتا في الطُرق. بالأمس، كانت الأصولية الشيعية تمنع الإختلاط، في بعض قرى الجنوب (الطيبة، الخيام…)، وبعده تمنع الرقص، ولو الفولكلوري، في بعضها الآخر (زوطر الشرقية). واليوم جاء دور الأصولية السنّية في تحريم المهرجانات التي تنوي كل من صيدا وطرابلس إقامتهما خلال شهر أيلول القادم. الأصوليتان تلتقيان هنا أفضل اللقاءات: تهددان، تحرّمان، باسم الله، مظاهر البهجة التي تحاول مجتمعاتنا الحفاظ عليها بشقّ الأنفس.

ولكن مع الإختلاف، أيضاً: فبعدما مرّرت الأصولية الشيعية رؤاها، عبر البلديات أو عبر الجمعيات الكشفية، فأنكرت، ثم عادت، فتلعثمت، ولم يأتِ موقف الحزب الذي يمثلها، أي “حزب الله”، بأي توضيح حقيقي لها… بل نكران على طول الخط، وشيىء من التقية يبررها إفلاسه السياسي في حربه على سوريا، و”صمود” سطوته على الحياة في المناطق ذات اللون المذهبي الواحد… أتى دور الأصولية السنّية، وطرقها المغايرة: الحملة ضد المهرجانَين، الصيداوي والطرابلسي، بدأت خجولة، في صيدا، بهاشتاغ # صيدا لن ترقص، ولكنها ألحقت ببيانات مؤيدة من “الجماعة الاسلامية” (أي الاخوان المسلمين)، وتسريبات آتية من جماعة أحمد الأسير، القائد السلفي الموقوف بتهمة قيادته لعمليات إرهابية ضد الجيش اللبناني.

ثم عندما انتقلت الحملة على مهرجانات طرابلس، كانت اللهجة أكثر صراحة: بيان من “علماء طرابلس”، يقول عن نفسه ان من واجبه “القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، يطالب بإلغاء المهرجانين المنوي تنظيمهما في المدينة، يليه بيان من “الجماعة الإسلامية” مؤيداً، وتصريحات لقادتها تكرّر بأن “المهرجانات تتنافى مع العقيدة الإسلامية”. وربما، بسبب الصراحة نفسها، إختلف الأصوليون السنّة عن الشيعة، بأنهم تقدموا بـ”حيثيات”، لها ترجماتها على الارض. فليس وحده “خدش الحياء العام” ما يقف ضد المهرجانات؛ إنما أيضاً “الأولويات” و”الشفافية”: أولوية المشاريع التنموية على المهرجانات، والشفافية المطلوبة في عمليات تمويلها. ولكن الفروقات تتعدى الطُرق.

انها تغطي أيضا العلاقة القائمة بين التنظيمات الأصولية من جهة، من كلا المذهبين، وبين السلطة والمجتمع، من جهة أخرى. من الناحية الشيعية: لا تنفع التعمية على مصادر القرارات، والتلطّي خلف بلديات أو جمعيات كشفية، لا تنفع في نكران ان “حزب الله” هو مصدر القرار، ومعه كل الرؤى. وان الذين يقاومونه، هم إما يساريين، أو ليبراليين، أو مجرد ضجرين من عقمه الثقافي وظُلُماته الإجتماعية. أما من الناحية السنّية، فيكاد الأمر أن يكون العكس: “السلطة” في المدينتين، صيدا وطرابلس، من نيابية وبلدية، أو الواحدة من الاثنتين، كما يتبين مع سليمة أديب، رئيسة المهرجان الطرابلسي، زوجة أشرف ريفي، التي صعد نجمها بعد فوز زوجها في الإنتخابات البلدية… هذه “السلطة” هي التي قررت الإحتفاء بمدنها عن طريق المهرجانات الفنية؛ فيما يقف المعارضون لهذه المهرجانات خارج هذه السلطة، مع وجود عضو أو عضوين بلديين، في مجالسهما. أي بتبسيط أكبر: عند الشيعة، السلطة الأصولية هي التي تحرّم، ويقاومها، إلى هذا الحد أو ذاك، مواطنون لا يستسيغون هذا التحريم.

إقرأ أيضاً: صيدا تجاهد وترقص وتغني وتحيا بتنوعها

اما عند السنّة، فالسلطة هي التي تنظم “حفلات تخدش الحياء العام”، والمجموعات التي من خارجها هي التي تعارضها. هل يعني كل ذلك شيئا ما؟ نعم: إن سياقات “المجتمعَين” الشيعي والسنّي، تختلف. عند الشيعي بلغت التجربة الأصولية أقصى مرادها؛ أي تثبيت نفسها كمجموعة “ميثاقية” لا تريد ان تضرب بـ”العيش المشترك”؛ فسترت أصوليتها خلف واجهات “مفيدة”، الكشافة أو البلدية، لتمرير تحريماتها.

فيما “المجتمع” السنّي يعيش على وقع الصعود الحتمي لأية اسلامية سورية، ويتابع نبضاتها، تجربتها؛ وكلها جديدة نسبياً عليه. يرتدي هذا الصعود أوجهاً شعوبية، بتكراره حجتَي التنموية والشفافية، يخاطب الشعب ضد السلطة التي تريد “مخالفة الشريعة الاسلامية”. أي ان الأصولية السنّية ما زالت في بداية تجربتها الأصولية. ولأنها تملك رؤية أصولية بعيدة المدى، لا تستطيع، هي الأخرى، تغييبها تماماً. هذا هو فحوى أحد بيانات “الجماعة الاسلامية” بخصوص تحريم الغناء والرقص والمهرجانات، والذي يقول: “بما اننا لسنا السلطة التي تمنح أو تمنع إقامة أي مهرجان (…) نعتبر انه من حق الآخرين ممارسة قناعاتهم”. أي، بمعنى آخر، عندما نصبح في السلطة سوف نمنع الآخرين من “ممارسة قناعاتهم”.

إقرأ أيضاً: بعد بيان «المنية» لا ترقص ولا تغني…«المشايخ» يعلقون: كفى تضخيماً إعلامياً

الأصوليات، مهما تخاصمت وتقاتلت، إلا انها تتغذى ببعضها أيضاً، وتتساوى بالتحريمات، بسوادها المتواصل وعبوسها وتجهّمها. وسواء كانت قوية أو ضعيفة، مجرّبة أو مبتدئة… هي ضد النساء والرجال، ضد الرقص والغناء والتلاقي، ضد مظاهر الإحتفاء بالحياة، بل الحياة بأسرها. فلا “وعد صادق” عندها إلا الوعد بالموت.

(المدن)

السابق
«حديث الجنوب»: برنامج شبابي تفاعلي من جديد إذاعة الشرق
التالي
الرئيس سليمان تعليقا على حادث جبيل: ‘العودة الى الوطاويط الملثمين’؟