يليق بداريا أن تلقب بأيقونة الثورة ودرّتها، وهي التي لم تلقَ الدعم بالسلاح لا من الدول العربية ولا الأجنبية المؤيدة للثورة، فحاربت النظام ودباباته وطائراته، وقاتلت معه المرتزقة من الميليشيات الإيرانية وصولاً للروس وحزب الله بخفيف العتاد وأضعفه، وظلّت رغم ذلك صامدة لأربع سنوات بهويتها الوطنية بعدما أحرق النابالم جغرافيتها.
داريا هي “يوسف” الثورة خانها الأشقاء، وتاجر بها المجتمع الدولي في مزاد المفاوضات. فدفعت ضريبة الصمود والاعتدال باحتجاب الفصائل عنها، ثم دفعت ضريبة الاتفاق باتهامات لثوارها بالتخوين وهم الذين تجرّدوا من الذخائر والمؤن والمواد الطبية، ولم يبقَ من حلول أمامهم إلاّ التضحية بالآلاف حرقاً بالقنابل المحرمة بعد تهديد النظام للمدينة بالإبادة، أو القبول باتفاق يخسرون به الأرض ليكسبوا الأرواح التي آمنت بالثورة و وثقت بهم.
مصادر متابعة للواقع الميداني السوري في داريا أوضحت لـ”جنوبية”، أنّ ما وصلت إليه الأمور هو نتيجة الإهمال والتراكمات، وترفض اعتبار ما حصل مفاجأة، كما تلفت إلى قصف المستشفيات والمباني ومستودعات الأغذية بمادة النابالم الحارقة والهجمات العسكرية العنيفة التي يشنها النظام بمؤازرة من الروس وحزب الله.
داريا بطبيعة الحال ليست المدينة السورية الأولى التي يتم تفريغها بجريمة يرتكبها نظام الأسد، إذ تمّ قبلها تهجير كل من أهالي القلمون والقصير والزبداني، وإفراغهم برعاية أممية كما برعاية الفصائل المسلحة، في حين داريا لم تجد من الفصائل من يدعمها، وتعرضت للخذلان من كل الأفرقاء إن من المعارضة في تركيا أو من المعارضة في الداخل السوري في الجنوب أو حول دمشق.
تعلق المصادر في هذا السياق أنّ ما حصل هو انعكاس لخطة مدروسة يقوم بها كل من النظام وحلفائه من الإيرانيين والروس للسيطرة على الريف الدمشقي بشكل كامل.
“اتفاق داريا” الذي دخل حيّز التنفيذ قبل يومين سوف يتم على أربع دفعات وبإشراف الصليب الأحمر الدولي، أما الدفعة الأولى فقد خرجت أوّل أمس عقب الاتفاق وكانت عبارة عن قافلة تضم حوالي 280 شخصاً من المقاتلين بأسلحتهم الخفيفة.
وينص الإتفاق على توجه الثوار إلى مدينة إدلب، فيما المدنيون من الأطفال والنساء والشيوخ سوف يتم نقلهم إلى حرجلة، ومن هناك يمكنهم المغادرة لحيث يشاؤون.
بعض الأوساط توظف تفريغ داريا من مواطنيها، في إطار التغيير الديموغرافي الذي يسعى إليه النظام وحلفاؤه، حيث أنّ إفراغها هو امتداد لإفراغ ريف دمشق بشكل كامل من الثوار، وتشير مصادر ميدانية لـ”جنوبية” بهذا الشأن أنّ “التخوف الآن بعد داريا هو على الغوطتين الشرقية والغربية ومعضمية الشام، حيث تتوقع ان يحشد النظام مع العناصر الإيرانية وحزب الله كل طاقاتهم”.
وفي هذا السياق وفي تعليق على التهجير الممنهج للمناطق السورية في الجنوب السوري يؤكد الصحافي والمحلل السياسي مصطفى فحص لـ”جنوبية” أنّه “هناك محاولة منذ فترة تقوم بها إيران بعد دخول روسيا، فتتقاسم النفوذ بينها وبين روسيا فيما يعرف بمناطق سوريا المفيدة”.
ويتابع موضحاً “حلب ونزولاً باتجاه حمص ونزولاً باتجاه الساحل هي أكثر نفوذاً للمنطقة الروسية وهي الأكثر كثافة علوية، فيما حمص باتجاه القلمون الغربي، دمشق فالقصير، وهي ذات الكثافة السنية وتأتي ضمن نفوذ حزب الله والنفوذ الإيراني، فهي الدائرة المحيطة التي تؤمن دمشق”.
ويضيف فحص “تأمين دمشق يتعلق بمرحلتين، المرحلة الأولى التواجد الأمني وإبعاد المعارضة ومن ثم إبعاد الحاضنة الشعبية للمعارضة، أي تخفيض الكثافة السنية أو محيطها في سوريا المفيدة أي الحاضنة المهددة لأمن دمشق، وداريا هي جزء من إخلاء القصير القلمون والزبداني، وما يحدث بالفعل تغيير ديموغرافي”.
وأشار مستطرداً أنّ “حزب الله لم ينتبه أنّ جزءًا كبيراً من هؤلاء الذين يعادلون 5000 نسمة قد تركوا مناطقهم فجاؤوا إلى لبنان وبالتالي غيروا الديموغرافية في لبنان، وأنّه إن حدث أي خلل في جغرافيا المنطقة هم سنّة وسوف يغيرون الديموغرافية في لبنان ايضاً”.
ولفت فحص “ما يحدث ليس تقسيم هو أمر واقع فحزب الله يريد إفراغ الحزام السني على الحدود اللبنانية في سوريا”.
إقرأ أيضاً: داريا من الداخل: تركت وحيدة والنظام هدد بالنابالم بغطاء دولي
من جهة أخرى، تؤكد القراءات المتداولة أنّه لا يمكن فصل ما حدث في داريا عمّا يحدث في جرابلس ودخول تركيا إلى حدودها وما يحدث في الحسكة، ولا عن إعطاء النظام وحلفائه بعض الأجزاء مناطق الشمال (شمال وشرق سوريا) للأكراد.
وتضيف هذه القراءات أنّه في جرابلس لا يمكن توظيف الدخول التركي لأجل دعم الثورة والثوار وإلا لتدخلت تركيا منذ سنوات. معتبرة أنّ هذه العملية كانت انعكاساً لتمدد قوات سوريا الديمقراطية وتخوفاً من توسع نفوذها في هذه المنطقة الحدودية.
كذلك تلفت مصادر لهذه التطورات، أنّ الساحة السورية باتت معقدة ومتشابكة، وتؤكد أنّ هناك أحاديثاً يتم تداولها عن تدخل عسكري عربي سعودي قريب، قد يكون من جهة الشمال، موضحةً أنّ اختيار المملكة العربية السعودية لجهة الشمال السوري هو لأهداف عدة منها الضغط من اجل الانتصار في اليمن، لا سيما وأنّ الشمال منطقة المقايضة حالياً، مع منع المعارضة الاقتراب من دمشق دوليا، إضافة ان السعودية تتخوف من إمكانية تعاظم النفوذ التركي على حساب نفوذها.
إقرأ أيضاً: داريا: الانجاز والانكسار
من كل هذه المعطيات، تظهر سوريا اليوم واقعة بين خطر التقسيم، بعدما أصبحت ميدانها مفتوحاً على الأكراد والأتراك والروس وحزب الله، والتوقعات بالدخول العسكري السعودي، وبين السعي الدؤوب للنظام وحلفائه لإفراغ الجنوب من أهله وثواره ولإخراج الفصائل العسكرية إلى الشمال ومن ثم ضربها بحجة الإرهاب وحجة داعش وسائر الحجج الواهية التي تخرج كل يوم على لسان وزير خارجية اميركا و وزير خارجية روسيا، وعدد من وزراء خارجية الدول الغربية، وهذا ما حذرت منه مصادر سورية معارضة لـ”جنوبية”.
وتشدد المصادر، أنّ الوضع في الميدان السوري معقدً، متسائلة، ماذا سوف تفعل الفصائل العسكرية في الجنوب بعد تفريغ داريا، وهل سوف يكون هناك مفاجأت تبدأ بفتح جبهة درعا؟