المحمود درويش في ذكراه

رحل الشاعر مساء السبت التاسع من اغسطس 2008 ولم يرحل، ربما رحلنا عن كونه نحن وما زال في فضائه الشعري محلقا بين احد عشر من كواكبه ينقش جداريته الحزينة على بساطه الضوئي المتوهج، ويلعب النرد بالنجوم .

كان استعد جيدا لرحيلنا عنه في سرديته الجدارية وفي نرديته اعطانا تفاصيله الاخيرة واخذ منا عمومياتنا البغيضة وتركها لنا لأنه يبغض التباغض.

إقرأ ايضاً: ليل الانحطاط الطويل

وحيدا عاش عن بروته ولاحقا عن اهله حرث العواصم الكثيرة نقش على اجسادها حروفه النقية وعندماعاد وجد الوطن اصغر من حلم الدم والدموع والتضحيات. كان هاتفه الداخلي يقول الوطن الذي نريد على البحر الكامل كاملا لا على مجزوء الكامل.
هكذا قال لي في لحظة تأمل في مكتبه وعلى متن طائرة وفي ردهة فندق على فنجان قهوة بحضور حسناء لفاء كانت تتحرش به بحجة استعدادها لترجمة حروفه الى الفرنسية الرومانسية .
لم يشبع من الوطن فأنزوى هنا وهناك واحيانا ينعزل. عندما رحل كان له الف نديم حميم احتكروا لبعض الوقت ميراثه ومحبته من بعده ولما مرت السنون صدىء الاصدقاء ولم يرفع احد قلمه للدفاع عنه عندما تناوشته الغربان بحجة النقد اللئيم، كانوا حتى وقت قريب خلصاءه وصاروا كمن تخلصوا منه. هو قطع الآفاق مسرعا ولم يلحقوا به لأن نفسهم قصير وهو ذو صدر كبير يتسع للخصومة والعشق ولكل الفراشات اللواتي ترف على ضوئه غير الحارق.

إقرأ أيضاً: محمود درويش: مِنْعة الرَّمز وفَيْضُه

كان الدرويش المحمود انسانا كونيا لاحقته الثقوب السوداء لتبتلعه بعد رحيله فشكل نجما عابرا للمجرات يستعصي على العاجزين ان يتطاولوا عليه ويفرد جناحيه للريح لكي يتتلمذ الجيل الجديد على نبض قلبه عشاقا للارض وانسانها الصابر المرابط المتفتح للحياة والبذل والعطاء. كان قد تنبأ برحيله وأوقد شمعته الاخيرة ووصف كل اسباب الرحيل التي إمتلأ بها ورحل بعيدا . ألم الولادة والموت سيان الاول لا نشعر به بل تتحمله الامهات وألم الرحيل نشعر به ونتحمله سويا مع الامهات.
مات الشاعر، عاش الشاعر في شعره، لمساته قفشاته تأملاته ما زالت في الأذهان. عندما شاهدت من كانوا يجلدونه حيا لعقدة نقص فيهم في موازاة قامته الشعرية الباسقة يسيرون في جنازته قلت في حينه:
ليت الذي وراء النعش يمشي
في النعش
وليت الذي في النعش
وراء النعش يمشي

السابق
«خارج الموضوع» ولقاءات سليم نصّار مع مانديلا وراسل ونيكسون…
التالي
مصادر: موظفو «سعودي أوجيه» مرفوضون في المستشفيات الخاصة بسبب التأمين